فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أي: ذاهب.
ومعنى الكلام: أن الظاهر والخفيِّ عنده سواء، هذا قول الأكثرين.
وروى العوفي عن ابن عباس: {ومَنْ هو مستخف} قال: صاحب رِيبة بالليل، فإذا خرج بالنهار، أرى الناسَ أنه بريء من الإِثم.
والثاني: أن المستخفيَ بالليل: الظاهر، والساربَ بالنهار: المستتر، يقال: انسرب الوحش: إِذا دخل في كِناسِهِ، وهذا قول الأخفش، وذكره قطرب أيضًا، واحتج له ابن جرير بقولهم: خَفَيْتُ الشيء: إِذا أظهرتَه، ومنه: {أكاد أَخفيها} [طه: 15] بفتح الألف، أي: أُظهرها، قال: وإِنما قيل للمتواري: ساربٌ، لأنه صار في السرَبِ مستخفيًا.
قوله تعالى: {له معقبات}
في هاء {له} أربعة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس.
والثاني: إِلى الملك من ملوك الدنيا، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثالث: إِلى الإِنسان، قاله الزجاج.
والرابع: إِلى الله تعالى، ذكره ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي.
وفي المعقِّبات قولان:
أحدهما: أنها الملائكة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والحسن، وقتادة في آخرين.
قال الزجاج: والمعنى: للإنسان ملائكة يعتقبون، يأتي بعضهم بِعَقِب بعض.
وقال أكثر المفسرين: هم الحَفَظَة، اثنان بالنهار واثنان بالليل، إِذا مضى فريق، خلف بعده فريق، ويجتمعون عند صلاة المغرب والفجر.
وقال قوم، منهم ابن زيد: هذه الآية خاصة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، عزم عامر بن الطُّفَيْل وأربد بن قيس على قتله، فمنعه الله منهما، وأنزل هذه الآية.
والقول الثاني: أن المعقِّبات حُرَّاس الملوك الذين يتعاقبون الحَرْس، وهذا مروي عن ابن عباس، وعكرمة.
وقال الضحّاك: هم السلاطين المشركون المحترسون من الله تعالى.
وفي قوله: {يحفظونه من أمر الله} سبعة أقوال:
أحدها: يحرسونه من أمر الله ولا يقدرون، هذا على قول من قال: هي في المشركين المحترسين من أمر الله.
والثاني: أن المعنى: حِفْظُهم له من أمر الله، قاله ابن عباس، وابن جُبير، فيكون تقدير الكلام: هذا الحفظ مما أمرهم الله به.
والثالث: يحفطونه بأمر الله، قاله الحسن، ومجاهد، وعكرمة.
قال اللغويون: والباء تقوم مقام مِنْ وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض.
والرابع: يحفظونه من الجن، قاله مجاهد، والنخعي.
وقال كعب: لولا أن الله تعالى وكَّل بكم ملائكة يَذُبُّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعَوْرَاتِكم، إِذًا لتخطَّفَتْكم الجن.
وقال مجاهد: ما من عَبْدٍ إِلا ومَلَكٌ موكّل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإِنس والهوامِّ، فإذا أراده شيء، قال: وراءك وراءك، إِلا شيء قد قضي له أن يصيبه.
وقال أبو مجلز: جاء رجل من مُراد إِلى عليّ عليه السلام، فقال: احترس، فإن ناسًا من مُراد يريدون قتلك، فقال: إِن مع كل رجل ملَكين يحفظانه مما لم يقدَّر، فإذا جاء القدر خلَّيا بينه وبينه، وإِن الأجل جُنَّة حصينة.
والخامس: أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، والمعنى: له معقِّبات من أمر الله يحفظونه، قاله أبو صالح، والفراء.
والسادس: يحفظونه لأمر الله فيه حتى يُسْلِموه إِلى ما قدِّر له، ذكره أبو سليمان الدمشقي، واستدل بما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: يحفظونه من أمر الله، حتى إِذا جاء القَدَر خلّوا عنه.
وقال عكرمة: يحفظونه لأمر الله.
والسابع: يحفظون عليه الحسنات والسيئات، قاله ابن جُريج.
قال الأخفش: وإِنما أنَّث المعقّبات لكثرة ذلك منها، نحو النسَّابة، والعلاَّمة، ثم ذكَّر في قوله: {يحفظونه} لأن المعنى مذكَّر.
قوله تعالى: {إِن الله لا يغيِّر ما بقوم} أي: لايسلبهم نِعَمَهُ: {حتى يغيِّروا ما بأنفسهم} فيعملوا بمعاصيه.
قال مقاتل: ويعني بذلك كفار مكة.
قوله تعالى: {وإِذا أراد الله بقوم سوءًا} فيه قولان:
أحدهما: أنه العذاب.
والثاني: البلاء.
قوله تعالى: {فلا مَرَدَّ له} أي: لا يردُّه شيء ولا تنفعه المعقِّبات.
{وما لهم من دونه} يعني: من دون الله: {من والٍ} أي: من وليّ يدفع عنهم العذاب والبلاء. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {سَوَاءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ}
إسرار القول: ما حَدَّث به المرءُ نفسه، والجهر ما حدَّث به غيره؛ والمراد بذلك أن الله سبحانه يعلم ما أسرّه الإنسان من خير وشر، كما يعلم ما جهر به من خير وشر.
و{مِنْكُمْ} يحتمل أن يكون وصفًا ل{سواء} التقدير: سِرُّ مَن أَسَرَّ وَجَهْرُ مَن جَهَر سواء منكم؛ ويجوز أن يتعلق بـ {سواء} على معنى: يستوي منكم، كقولك: مررت بزيد.
ويجوز أن يكون على تقدير: سِر من أَسَرّ منكم وجَهْر من جَهَر منكم.
ويجوز أن يكون التقدير: ذو سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، كما تقول: عدل زيد وعمرو أي ذوا عدلٍ.
وقيل: {سواء} أي مستوٍ، فلا يحتاج إلى تقدير حذف مضاف.
{وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار} أي يستوي في علم الله السرّ والجهر، والظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات.
وقال الأخفش وقُطْرُب: المستخفي بالليل الظاهر؛ ومنه خَفَيتُ الشيء وأَخْفَيته أي أظهرتُه؛ وأخفيت الشيء أي استخرجته؛ ومنه قيل لِلنَّبَّاشِ: المختفي.
وقال امرؤ القيس:
خَفَاهُنَّ مِن أَنْفَاقِهِنّ كَأَنَّمَا ** خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِن عَشِيٍّ مُجَلّبِ

والسّارب المتواري، أي الداخل سَرَبًا؛ ومنه قولهم: انسرب الوحشيُّ إذا دخل في كِنّاسه.
وقال ابن عباس: {مُسْتَخْفٍ} مستتر، {وَسَارِبٌ} ظاهر.
مجاهد: {مُسْتَخْفٍ} بالمعاصي، {وَسَارِبٌ} ظاهر.
وقيل: معنى {سَارِبٌ} ذاهب؛ قال الكسائي: سَرَبَ يَسْرُبُ سَرَبًا وسُرُوبًا إذا ذهب؛ وقال الشاعر:
وكُلُّ أناسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهمْ ** ونَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فهو مسَارِبٌ

أي ذاهب.
وقال أبو رجاء: السّارب الذاهب على وجهه في الأرض؛ قال الشاعر:
أَنَّى سَرَبْتِ وكنتِ غيَر سَرُوبِ

وقال القُتَبيّ: {سَارِبٌ بِالنَّهَارِ} أي منصرف في حوائجه بسرعة؛ من قولهم؛ انسرب الماء.
وقال الأصمعيّ: خَلِّ سِرْبَه أي طريقه.
قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} أي لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار؛ فإذا صعِدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار.
وقال: {مُعَقِّبَاتٌ} والملائكة ذُكْرَان لأنه جمع مُعقِّبة؛ يقال: مَلَك مُعقِّب، وملائكة مُعقِّبة، ثم مُعقِّبات جمع الجمع.
وقرأ بعضهم {لَهُ مَعَاقِيبُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ}.
ومعاقيب جمع مُعْقِب؛ وقيل للملائكة معقّبة على لفظ الملائكة.
وقيل: أنّث لكثرة ذلك منهم؛ نحو نسّابة وعلاّمة وراوية؛ قاله الجوهري وغيره.
والتّعقب العود بعد البدء؛ قال الله تعالى: {ولى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10] أي لم يَرجع؛ وفي الحديث: «مُعَقِّباتٌ لا يَخِيبُ قائِلُهنّ أو فاعلُهنّ» فذكر التسبيح والتحميد والتكبير.
قال أبو الهيثم: سُمّين {مُعقِّبات} لأنهن عادت مرّة بعد مرّة، فِعْل من عَمِل عَملًا ثم عاد إليه فقد عَقَّبَ.
والمعقبات من الإبل اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعترِكات على الحوض؛ فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى.
وقوله: {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} أي المستخفي بالليل والسارب بالنهار.
{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} اختلف في هذا الحفظ؛ فقيل: يحتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياء المضرّة، لطفًا منه به، فإذا جاء القَدَر خلّوا بينه وبينه؛ قاله ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
قال أبو مِجلَز: جاء رجل من مُرَاد إلى علي فقال: احترس فإن ناسًا من مُرَاد يريدون قتلك؛ فقال: إن مع كل رجل مَلَكين يحفظانه ما لم يُقدَّر، فإذا جاء القَدَر خلَّيَا بينه وبين قَدَر الله، وإن الأجل حِصن حصينة؛ وعلى هذا، {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي بأمر الله وبإذنه؛ ف{مِن} بمعنى الباء؛ وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض.
وقيل: {مِنْ} بمعنى عن؛ أي يحفظونه عن أمر الله، وهذا قريب من الأوّل؛ أي حفظهم عن أمر الله لا من عند أنفسهم؛ وهذا قول الحسن؛ تقول: كسوته عن عُرْي ومن عُرْي؛ ومنه قوله عز وجل: {الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] أي عن جوع.
وقيل: يحفظونه من ملائكة العذاب، حتى لا تحلّ به عقوبة؛ لأن الله لا يغير ما بقوم من النّعمة والعافية حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصرُّوا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النّقمة، وتزول عنهم الحَفَظَة المعقبات.
وقيل: يحفظونه من الجِنّ؛ قال كعب: لولا أن الله وَكَّل بكم ملائكة يَذبُّون عنكم في مَطْعَمكم وَمَشْرَبِكم وعوراتكم لَتخطَّفتكم الجِنّ.
وملائكة العذاب من أمر الله؛ وخصّهم بأن قال: {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} لأنهم غير معايَنين؛ كما قال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أي ليس مما تشاهدونه أنتم.
وقال الفرّاء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره، له معقبات من أمر الله من بين يديه ومن خلفه يحفظونه؛ وهو مرويّ عن مجاهد وابن جُرَيج والنَّخعيّ؛ وعلى أن ملائكة العذاب والجِنّ من أمر الله لا تقديم فيه ولا تأخير، وقال ابن جريج: إن المعنى يحفظون عليه عمله، فحذف المضاف.
وقال قتادة: يكتبون أقواله وأفعاله.
ويجوز إذا كانت المعقّبات الملائكة أن تكون الهاء في {له} لله عزّ وجل، كما ذكرنا؛ ويجوز أن تكون للمستخفي، فهذا قول.
وقيل: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} يعني به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي أن الملائكة تحفظه من أعدائه؛ وقد جرى ذكر الرسول في قوله: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} أي سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به في أنه لا يضرّ النبي صلى الله عليه وسلم، بل له معقبات يحفظونه عليه السلام؛ ويجوز أن يرجع هذا إلى جميع الرسل؛ لأنه قد قال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي يحفظون الهادي من بين يديه ومن خلفه.
وقول رابع: أن المراد بالآية السلاطين والأمراء الذين لهم قوم من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم؛ فإذا جاء أمر الله لم يُغنوا عنهم من الله شيئًا؛ قاله ابن عباس وعِكْرِمة؛ وكذلك قال الضّحاك: هو السّلطان المتحرّس من أمر الله، المِشركُ.
وقد قيل: إن في الكلام على هذا التأويل نفيًا محذوفًا، تقديره: لا يحفظونه من أمر الله تعالى؛ ذكره الماورديّ.
قال المهدويّ: ومن جعل المعقّبات الحرس فالمعنى: يحفظونه من أمر الله على ظنه وزعمه.
وقيل: سواء من أسرّ القول ومن جهر به فله حرّاس وأعوان يتعاقبون عليه فيحملونه على المعاصي، ويحفظونه من أن ينجَع فيه وعظٌ؛ قال القُشَيريّ: وهذا لا يمنع الرّب من الإمهال إلى أن يحقّ العذاب؛ وهو إذا غَيَّرَ هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار فيصير ذلك سببًا للعقوبة؛ فكأنّه الذي يحلّ العقوبة بنفسه؛ فقوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي من امتثال أمر الله.
وقال عبد الرحمن بن زيد: المعقّبات ما يتعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده؛ قال الماورديّ: ومن قال بهذا القول ففي تأويل قوله: {يَحَفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} وجهان: أحدهما: يحفظونه من الموت ما لم يأت أجل؛ قاله الضحاك.
الثاني: يحفظونه من الجِنّ والهوامّ المؤذية، ما لم يأت قَدَرٌ؛ قاله أبو أمامة وكعب الأحبار فإذا جاء المقدور خلّوا عنه؛ والصحيح أن المعقّبات الملائكة، وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج؛ ورُوي عن ابن عباس، واختاره النحاس، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» الحديثَ، رواه الأئمة.