فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول}
أخفاه في نفسه ولم يتلفظ به، وقيل: تلفظ به بحيث لم يسمع نفسه دون غيره: {وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} من يقابل ذلك بالمعنيين: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ} مبالغ في الاختفاء كأنه مختف: {باليل} وطالب للزيادة: {وَسَارِبٌ بالنهار} أي ظاهر فيه كما روي عن ابن عباس، وهو على ما قال جمع في الأصل اسم فاعل من سرب إذا ذهب في سربه أي طريقه، ويكون بمعنى تصرف كيف شاء قال الشاعر:
إني سربت وكنت غير سروب ** وتقرب الأحلام غير قريب

وقال الآخر:
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ** ونحن خلعنا قيده فهو سارب

أي فهو متصرف كيف شاء لا يدفع عن جهة يفتخر بعزة قومه، فما ذكره الحبر لازم معناه، وقرينته وقوعه في مقابلة مستخف، والظاهر من كلام بعضهم أنه حقيقة في الظاهر، ورفع: {سَوَاء} على أنه خبر مقدم و: {مِنْ} مبتدأ مؤخر، ولم يثن الخبر لأنه في الأصل مصدر وهو الآن بمعنى مستو ولم يجئ تثنيته في أشهر اللغات، وحكى أبو زيدهما سواءان، و: {مّنكُمْ} حال من الضمير المستتر فيه لا في: {أَسَرَّ} و: {جَهَرَ} لأن ما في حيز الصلة والصفة لا يتقدم على الموصول والموصوف، وجوز أبو حيان كون: {سَوَاء} مبتدأ لوصفه بمنكم وما بعده الخبر، وكذا أعرب سيبويه قول العرب: سواء عليه الخير والشر، وقول ابن عطية: إن سيبويه ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة لا يصح و: {سارب} عطف على: {صَلَحَ مِنْ} كأنه قيل: سواء منكم إنسان هو مستخف وآخر سارب، والنكتة في زيادة هو في الأول أنه الدال على كمال العلم فناسب زيادة تحقيق وهو النكتة في حذف الموصوف عن سارب أيضًا، والوجه في تقديم: {أَسَرَّ} وأعماله في صريح القول على جهره وأعماله في ضميره، وجوز أن يكون على: {مُسْتَخْفٍ} واستشكل بأن سواء يقتضي ذكر شيئين فإذا كان سارب معطوفًا على جزء الصلة أو الصفة لا يكون هناك إلا شيء واحد، ولا يجئ هذا على الأول لأن المعنى ما علمت.
وأجيب بأن: {مِنْ} عبارة عن الاثنين كما في قوله:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني ** نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

فكأنه قيل: سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار، قال في الكشف: وعلى الوجهين: {مِنْ} موصوفة لا موصولة فيحمل الأوليان أيضًا على ذلك ليتوافق الكل، وإيثارها على الموصولة دلالة على أن المقصود الوصف فإن ذلك متعلق العلم، وأما لو قيل: سواء الذي أسر القول والذي جهر به فإن أريد الجنس من باب:
ولقد أمر على اللئيم يسبني

فهو والأول سواء لكن الأول نص، وإن أريد المعهود حقيقة أو تقديرًا لزم إيهام خلاف المقصود لما مر، وقيل: في الكلام موصول محذوف والتقدير ومن هو سارب كقول أبي فراس:
فليت الذي بيني وبينك عامر ** وبيني وبين العالمين خراب

وقول حسان:
أمن يهجو رسول الله منكم ** ويمدحه وينصره سواء

وهو ضعيف جدًا لما فيه من حذف الموصول مع صدر الصلة، وقد ادعى الزمخشري أن أحد الحذفين سائغ لكن اجتماعهما منكر من المنكرات بخلاف البيتين، وقال أبو حيان: إن حذف من هنا وإن كان للعلم به لا يجوز عند البصريين ويجوز عند الكوفيين، وزعم بعضهم أن المقصود استواء الحالتين سواء كانتا لواحد أو لاثنين، والمعنى سواء استخفاؤه وسروبه بالنسبة إلى علم الله تعالى فلا حاجة إلى توجيه الآية بما مر، وكذا حال ما تقدمه فعبر بأسلوبين والمقصود واحد.
وتعقب بأنه لا تساعده العربية لأن: {مِنْ} لا تكون مصدرية ولا سابك في الكلام.
وزعم ابن عطية جواز أن تكون الآية متضمنة ثلاثة أصناف فالذي يسر طرف والذي يجهر طرف مضاد للأول والثالث متلون يعصي بالليل مستخفيًا ويظهر البراءة بالنهار وهو كما ترى.
ومن الغريب ما نقل عن الأخفش وقطرب تفسير المستخفي بالظاهر فإنه وإن كان موجودًا في كلامهم بهذا المعنى لكن يمنع عنه في الآية ما يمنع، ثم إن في بيان علمه تعالى بما ذكر بعد بيان شمول علمه سبحانه الأشياء كلها ما لا يخفى من الاعتناء بذلك.
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}
{لَهُ} الضمير راجع إلى من تقدم ممن أسر بالقول وجهر به إلى آخره باعتبار تأويله بالمذكور وإجرائه مجرى اسم الإشارة وكذا المذكورة بعده: {معقبات} ملائكة تعتقب في حفظه وكلائته جمع معقبة من عقب مبالغة في عقبه إذا جاء على عقبه واصله من العقب وهو مؤخر الرجل ثم تجوز به عن كون الفعل بغير فاصل ومهلة كأن أحدهم يطأ عقب الآخر، فالتفعيل للتكثير وهو إما في الفاعل أو في الفعل لا للتعدية لأن ثلاثيه متعد بنفسه، ويجوز أن يكون إطلاق المعقبات على الملائكة عليهم السلام باعتبار أنهم يعقبون أقوال الشخص وأفعاله أي يتبعونها ويحفظونها بالكتابة.
وقال الزمخشري: إن أصله معتقبات فهو من باب الافتعال فأدغمت التاء في القاف كقوله تعالى: {وَجَاء المعذرون} [التوبة؛ 90] أي المعتذرون.
وتعقب بأنه وهم فاحش فإن التاء لا تدغم في القاف من كلمة أو كلمتين، وقد نص الصرفيون على أن القاف والكاف كل منهما لا يدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما، والتاء في معقبة للمبالغة كتاء نسابة لأن الملائكة عليهم السلام غير مؤنثين، وقيل: هي للتأنيث بمعنى أن معقبة صفة جماعة منهم، فمعنى معقبات جماعات كل جماعة منها معقبة وليس معقبة جمع معقب، وذكر الطبري أنه جمعه وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات وهو كما ترى لكن أوله أبو حيان بأنه أراد بقوله: جمع معقب أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب فصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد؛ وتشبيه ذلك بما ذكر من حيث المعنى لا من حيث صناعة النحو، فبين أن معقبة من حيث أريد به الجمع كرجال من حيث وضع للجمع وإن معقبات من حيث استعمل جمعًا لمعقبة المستعمل في الجمع كرجالات الذي هو جمع رجال.
وقرأ أبي وإبراهيم: {معاقيب} وهو جمع كما قال الزمخشري جمع معقب أو معقبة بتشديد القاف فيهما والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير، وقال ابن جني: إنه تكسير معقب كمطعم ومطاعيم ومقدم ومقاديم كأنه جمع على معاقبة ثم حذفت الهاء من الجمع وعوضت الياء عنها ولعله الأظهر، وقرئ: {معتقبات} من اعتقب: {معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} متعلق بمحذوف وقع صفة لمعقبات أو حالًا من الضمير في الظرف الواقع خبرًا له، فالمعنى أن المعقبات محيطة بجميع جوانبه أو هو متعلق بمعقبات و: {مِنْ} لابتداء الغاية، فالمعنى أن المعقبات تحفظ ما قدم وأخر من الأعمال أي تحفظ جميع أعماله، وجوز أن يكون متعلقًا بقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ} والجملة صفة معقبات أو حال من الضمير في الظرف.
وقرأ أبي: {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} وابن عباس: {وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} وروى مجاهد عنه أنه قرأ: {لَهُ معقبات مّن خَلْفِهِ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ}: {مِنْ أَمْرِ الله} متعلق بما عنده و: {مِنْ} للسببية أي يحفظونه من المضار بسبب أمر الله تعالى لهم بذلك، ويؤيد ذلك أن عليًا كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وزيد بن علي وجعفر بن محمد وعكرمة رضي الله تعالى عنهم قرؤا: {بِأَمْرِ الله} بالباء وهي ظاهرة في السببية.
وجوز أن يتعلق بذلك أيضًا لكن على معنى يحفظونه من بأسه تعالى متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له أي يحفظونه باستدعائهم من الله تعالى أن يمهله ويؤخر عقابه ليتوب أو يطلبون من الله تعالى أن يغفر له ولا يعذبه أصلًا، وقال في البحر: إن معنى الكلام يصير على هذا الوجه إلى التضمين أي يدعون له بالحفظ من نقمات الله تعالى.
وقال الفراء وجماعة: في الكلام تقديم وتأخير أي له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، وروى هذا عن مجاهد والنخعي وابن جريج فيكون: {مِنْ أَمْرِ الله} متعلقًا بمحذوف وقع صفة لمعقبات أي كانئة من أمره تعالى، وقيل: إنه لا يحتاج في هذا المعنى إلى دعوى تقديم وتأخير بأن يقال: إنه سبحانه وصف المعقبات بثلاث صفات.
إحداها: كونها كائنة من بين يديه ومن خلفه.
وثانيتها: كونها حافظة له.
وثالثتها: كونها كائنة من أمره سبحانه، وإن جعل: {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} متعلقًا بيحفظونه يكون هناك صفتان الجملة والجار والمجرور، وتقديم الوصف بالجملة على الوصف به سائغ شائع في الفصيح، وكأن الوصف بالجملة الدالة على الديمومة في الحفظ لكونه آكد قدم على الوصف الآخر.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أن المراد بالمعقبات الحرس الذين يتخذهم الأمراء لحفظهم من القتل ونحوه، وروى مثله عن عكرمة، ومعنى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} أنهم يحفظونهم من قضاء الله تعالى وقدره ويدفعون عنه ذلك في توهمه لجهله بالله تعالى.
ويجوز أن يكون من باب الاستعارة التهكمية على حد ما اشتهر في قوله تعالى: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٌ} [آل عمران: 21] فهو مستعار لضده وحقيقته لا يحفظونه.
وعلى ذلك يخرج قول بعضهم: إن المراد لا يحفظونه لا على أن هناك نفيًا مقدرًا كما يتوهم، والأكثرون على أن المراد بالمعقبات الملائكة.
وفي الصحيح «يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر» وذكروا أن مع العبد غير الملائكة الكرام الكاتبين ملائكة حفظة، فقد أخرج أبو داود وابن المنذر وابن أبي الدنيا وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لكل عبد حفظة يحفظونه لا يخر عليه حائط أو يتردى في بئر أو تصيبه دابة حتى إذا جاء القدر الذي قدر له خلت عنه الحفظة فأصابه ما شاء الله تعالى أن يصيبه.
وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني والصابوني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وكل بالمؤمن ثلاثمائة وستون ملكًا يدفعون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك للبصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل من الذباب في اليوم الصائف وما لو بدا لكم لرأيتموه على كل سهل وجبل كلهم باسط يديه فاغر فاه وما لو وكل العبد فيه إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين»
وأخرج ابن جرير عن كنانة العدوي قال: دخل عثمان رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ فقال: «ملك عن يمينك على حسناتك وهو أمير على الذي على الشمال إذا عملت حسنة كتبت عشرًا فإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين: أأكتب؟ قال: لا لعله يستغفر الله تعالى ويتوب فإذا قال ثلاثًا قال: نعم اكتب أراحنا الله تعالى منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله سبحانه وأقل استحياءه منه تعالى يقول الله جل وعلا: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وملكان من بين يديك وملكان من خلفك يقول الله تعالى: {لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله تعالى رفعك وإذا تجبرت على الله تعالى قصمك وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية فيه وملكان على عينك فهؤلاء عشرة أملاك ينزلون على بني آدم في النهار وينزل مثلهم في الليل»