فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب} مستأنفة مسوقة لبيان قبائح جهلة اليهود أثر بيان شنائع الطوائف السالفة، وقيل: عطف على {قَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمُ} [البقرة: 5 7] وعليه الجمع، وقيل: على {وَإِذَا لَقُواْ} [البقرة: 6 7] واختار بعض المتأخرين أنه وهذا الذي عطف عليه اعتراض وقع في البين لبيان أصناف اليهود استطرادًا لأولئك المحرفين، والأميون جمع أمي وهو كما في المغرب مَن لا يكتب ولا يقرأ منسوب إلى أمة العرب الذين كانوا لا يكتبون ولا يقرءون، أو إلى الأم بمعنى أنه كما ولدته أمه، أو إلى أم القرى لأن أهلها لا يكتبون غالبًا، والمراد أنهم جهلة، و{الكتاب} التوراة كما يقتضيه سياق النظم وسياقه فاللام فيه إما للعهد أو أنه من الأعلام الغالبة، وجعله مصدر كتب كتابًا واللام للجنس بعيد، وقرأ ابن أبي عبلة: {أُمّيُّونَ} بالتخفيف.
{إِلاَّ أَمَانِيَّ} جمع أمنية وأصلها أمنونة، أفعولة وهو في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر، ولذلك تطلق على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ، والمروى عن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم أن الأماني هنا الأكاذيب أي إلا أكاذيب أخذوها تقليدًا من شياطينهم المحرفين، وقيل: إلا ما هم عليه من أمانيهم أن الله تعالى يعفو عنهم ويرحمهم، ولا يؤاخذهم بخطاياهم وأن آبائهم الأنبياء يشفعون لهم، وقيل إلا مواعيد مجردة سمعوها من أحبارهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودًا، وأن النار لا تمسهم إلا أيامًا معدودة واختاره أبو مسلم والاستثناء على ذلك منقطع لأن ما هم عليه من الأباطيل، أو سمعوه من الأكاذيب ليس من الكتاب، وقيل: إلا ما يقرؤن قراءة عادية عن معرفة المعنى وتدبره، فالاستثناء حينئذٍ متصل بحسب الظاهر، وقيل: منقطع أيضًا إذ ليس ما يتلى من جنس علم الكتاب، واعترض هذا الوجه بأنه لا يناسب تفسير الآتي بما في المغرب، وأجيب بأن معناه أنه لا يقرأ من الكتاب ولا يعلم الخط؛ وإما على سبيل الأخذ من الغير فكثيرًا ما يقرؤن من غير علم بالمعاني، ولا بصور الحروف، وفيه تكلف إذ لا يقال للحافظ الأعمى: إنه أمي، نعم إذا فسر الأمي بمن لا يحسن الكتابة والقراءة على ما ذهب إليه جمع لا ينافي أن يكتب ويقرأ في الجملة واستدل على ذلك بما روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية أخذ الكتاب وليس يحسن الكتب فكتب: هذا ما قضى عليه محمد بن عبد الله الخ، ومن فسر الأمي بما تقدم أول الحديث بأن كتب فيه بمعنى أمر بالكتابة، وأطال بعض شراح الحديث الكلام في هذا المقام وليس هذا محله.
وقرأ أبو جعفر والأعرج وابن جماز عن نافع، وهارون عن أبي عمرو {أَمَانِيّ} بالتخفيف. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أوَلا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون}. معطوف على قوله: {وقد كان فريق منهم يسمعون} [البقرة: 75] عطف الحال على الحال و{منهم} خبر مقدم وتقديمه للتشويق إلى المسند إليه كما تقدم في قوله تعالى: {ومن الناس من يقول} [البقرة: 8] والمعنى كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم محرفين وفريق جهلة وإذا انتفى إيمان أهل العلم منهم المظنون بهم تطلب الحق المنجي والاهتداء إلى التفرقة بينه وبين الباطل فكانوا يحرفون الدين ويكابرون فيما يسمعون من معجزة القرآن في الإخبار عن أسرار دينهم فكيف تطمعون أيضًا في إيمان الفريق الأميين الذين هم أبعد عن معرفة الحق وألهى عن تطلبه وأضل في التفرقة بين الحق والباطل وأجدر بالاقتداء بأئمتهم وعلمائهم فالفريق الأول هم الماضون.
وعلى هذا فجملة {ومنهم أميون} معطوفة على جملة {وقد كان فريق منهم} إلخ باعتبار كونها معادلًا لها من جهة ما تضمنته من كونها حالة فريق منهم وهذه حالة فريق آخر.
وأما قوله: {وإذا لقوا} [البقرة: 76] وقوله: {وإذا خلا} [البقرة: 76] فتلك معطوفات على جملة {وقد كان فريق} عطف الحال على الحال أيضًا لكن باعتبار ما تضمنته الجملة الأولى من قوله: {يسمعون} الذي هو حال من أحوال اليهود وبهذا لا يجيء في جملة {ومنهم أميون} التخيير المبني على الخلاف في عطف الأشياء المتعددة بعضها على بعض هل يجعل الأخير معطوفًا على ما قبله من المعطوفات أو معطوفًا على المعمول الأول لأن ذلك إذا كان مرجع العطف جهة واحدة وهنا قد اختلفت الجهة.
والأمي من لا يعرف القراءة والكتابة والأظهر أنه منسوب إلى الأمة بمعنى عامة الناس فهو يرادف العامي، وقيل: منسوب إلى الأم وهي الوالدة أي إنه بقي على الحالة التي كان عليها مدة حضانة أمه إياه فلم يكتسب علمًا جديدًا ولا يعكر عليه أنه لو كان كذلك لكان الوجه في النسب أن يقولوا أمهى بناء على أن النسب يرد الكلمات إلى أصولها وقد قالوا في جمع الأم: أمهات فردُّوا المفرد إلى أصله فدلوا على أن أصل أم أمهة لأن الأسماء إذا نقلت من حالة الاشتقاق إلى جعلها أعلامًا قد يقع فيها تغيير لأصلها.
وقد اشتهر اليهود عند العرب بوصف أهل الكتاب فلذلك قيل هنا: {ومنهم أميون} أي ليس جميعهم أهل كتاب.
ولم تكن الأمية في العرب وصف ذم لكنها عند اليهود وصف ذم كما أشار إليه قوله تعالى: {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} [آل عمران: 75] وقال ابن صَيَّاد للنبيء صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك رسول وذلك لما تقتضيه الأميين من قلة المعرفة ومن أجل ذلك كانت الأمية معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم حيث كان أعلم الناس مع كونه نشأ أميًّا قبل النبوءة وقد قال أبو الوليد الباجي: إن الله علّم نبيه القراءة والكتابة بعد تحقق معجزة الأمية بأن يطلعه على ما يعرف به ذلك عند الحاجة استنادًا لحديث البخاري في صلح الحديبية وأيده جماعة من العلماء في هذا وأنكر عليه أكثرهم مما هو مبسوط في ترجمته في كتاب المدارك لعياض وما أراد إلا إظهار رأيه.
والكتاب إما بمعنى التوراة اسم للمكتوب وإما مصدر كتب أي لا يعلمون الكتابة ويبعده قوله بعده: {إلا أماني} فعلى الوجه الأول يكون قوله: {لا يعلمون الكتاب} أثرًا من آثار الأمية أي لا يعلمون التوراة إلا علمًا مختلطًا حاصلًا مما يسمعونه ولا يتقنونه، وعلى الوجه الثاني تكون الجملة وصفًا كاشفًا لمعنى الأميين كقول أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن بك الظ ** ـن كأن قد رأى وقد سمعا

والأمانيُّ بالتشديد جمع أُمْنِيَّة على وزن أفاعيل وقد جاء بالتخفيف فهو جمع على وزن أفاعل عند الأخفش كما جمع مفتاح على مفاتِح ومفاتيح، والأمنية كأثْفِيَّة وأُضحية أفْعُولة كالأعجوبة والأضحوكة والأكذوبة والأغلوطة، والأماني كالأعاجيب والأضاحيك والأكاذيب والأغاليط، مشتقة من مَنَى كرمى بمعنى قدَّر الأمرَ ولذلك قيل تمنى بمعنى تكلف تقدير حصول شيء متعذر أو متعسر، ومنَّاه أي جعله مَانيًا أي مقدِّرًا كناية عن الوعد الكاذب لأنه ينقل الموعود من تقدير حصول الشيء اليومَ إلى تقدير حصوله غدًا، وهكذا كما قال كعب بن زهير:
فلا يَغُرَّنْك ما مَنَّت وما وعدت ** إن الأَماني والأحلامَ تضليل

ولأن الكاذب ما كذب إلا لأنه يتمنى أن يكون ما في نفس الأمر موافقًا لخبره فمن أجل ذلك حدثت العلاقة بين الكذب والتمني فاستعملت الأمنية في الأكذوبة، فالأماني هي التقادير النفسية أي الاعتقادات التي يحسبها صاحبها حقًا وليست بحق أو هي الفعال التي يحسبها العامة من الدين وليست منه بل ينسون الدين ويحفظونها، وهذا دأب الأمم الضالة عن شرعها أن تعتقد مالها من العوائد والرسوم والمواسم شرعًا، أو هي التقادير التي وضعها الأحبار موضع الوَحي الإلهي إما زيادة عليه حتى أنستهم الأصل وإما تضليلًا وهذا أظهر الوجوه.
وقيل: الأماني هنا الأكاذيب أي ما وضعه لهم الذين حرفوا الدين، وقد قيل الأماني القراءة أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظوها ويدرسونها لا يفقهون منها معنى كما هو عادة الأمم الضالة إذ تقتصر من الكتب على السرد دون فهم وأنشدوا على ذلك قول حسان في رثاء عثمان رضي الله عنه:
تمنَّى كتابَ الله أوَّلَ لَيْلِهِ ** وآخِرَه لاَقى حمام المَقَادِر

أي قرأ القرآن في أول الليل الذي قُتل في آخره.
وعندي أن الأماني هنا التمنيات وذلك نهاية في وصفهم بالجهل المركب أي هم يزعمون أنهم يعلمون الكتاب وهم أميون لا يعلمونه ولكنهم يدَّعون ذلك لأنهم تمنوا أن يكونوا علماءَ فلما لم ينالوا العلم ادعوه باطلًا فإن غي العالم إذا اتهم بميسم العلماء دل ذلك على أنه يتمنى لو كان عالمًا، وكيفما كان المراد فالاستثناء منقطع لأن واحدًا من هاته المعاني ليس من علم الكتاب. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} من الاستثناء المنقطع، قال النابغة:
حلفت يمينًا غير ذي مثنوية ** ولا علم إلا حسن ظن بغائب

وقرئ {إلا أماني} بالتخفيف.
أما قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} فكالمحقق لما قلناه لأن الأماني إن أريد بها التقدير والفكر لأمور لا حقيقة لها، فهي ظن ويكون ذلك تكرارًا.
ولقائل أن يقول: حديث النفس غير والظن غير فلا يلزم التكرار وإذا حملناه على التلاوة عليهم يحسن معناه، فكأنه تعالى قال: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا بأن يتلى عليهم فيسمعوه وإلا بأن يذكرهم تأويله كما يراد فيظنون، وبين تعالى أن هذه الطريقة لا توصل إلى الحق. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} {إلاّ} ها هنا بمعنى لكن، فهو استثناء منقطع؛ كقوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} وقال النابغة:
حلفتُ يمينًا غير ذي مَثْنَوِيةٍ ** ولا عِلْمَ إلاَّ حُسْنَ ظنٍ بصاحِب

وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج {إلاّ أمانِيَ} خفيفة الياء؛ حَذفوا إحدى الياءين استخفافا.
قال أبو حاتم: كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدّد، فلك فيه التشديد والتخفيف؛ مثل أثافي وأغاني وأماني، ونحوه.
وقال الأخفش: هذا كما يقال في جمع مفتاح: مفاتيح ومفاتح، وهي ياء الجمع.
قال النحاس: الحذف في المعتل أكثر؛ كما قال الشاعر:
وهل يَرجع التسليمَ أو يكشفُ العَمَى ** ثلاثُ الأثفي والرّسومُ البلاقع

والأماني جمع أمنِيّة وهي التلاوة؛ وأصلها أمْنُويَة على وزن أُفعولة، فأدغمت الواو في الياء فانكسرت النون من أجل الياء فصارت أُمنية؛ ومنه قوله تعالى: {إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.
وقال كعب بن مالك:
تمنَّى كتابَ الله أوّلَ ليلهِ ** وآخِرَه لاقَى حِمَامَ المقادر

وقال آخر:
تمنَّى كتابَ الله آخِر لَيْلِه ** تَمَنّى داودَ الزّبُورَ على رِسْلِ

والأماني أيضًا الأكاذيب؛ ومنه قول عثمان رضي الله عنه: ما تمنّيت منذ أسلمت؛ أي ما كذبت.
وقول بعض العرب لابن دَأْب وهو يحدّث: أهذا شيء رَوَيْتَه أم شيء تمنّيته؟ أي افتعلته.
وبهذا المعنى فسّر ابن عباس ومجاهد {أمانيّ} في الآية.
ولأمانيّ أيضًا ما يتمنّاه الإنسان ويشتهيه.
قال قتادة: {إلا أمانيّ} يعني أنهم يَتَمَنَّوْن على الله ما ليس لهم.
وقيل: الأماني التقدير؛ يقال: مَنَى له أي قدّر؛ قاله الجوهري، وحكاه ابن بحر، وأنشد قول الشاعر:
لا تأمنَنّ وإن أمسيتَ في حَرَمٍ ** حتى تُلاقِي ما يَمْنِي لك المانِي

أي يقدّر لك المقدّر. اهـ.

.قال الفخر:

وفي الآية مسائل:
أحدها: أن المعارف كسبية لا ضرورية فلذلك ذم من لا يعلم ويظن.
وثانيها: بطلان التقليد مطلقًا وهو مشكل لأن التقليد في الفروع جائز عندنا.
وثالثها: أن المضل وإن كان مذمومًا فالمغتر بإضلال المضل أيضًا مذموم لأنه تعالى ذمهم وإن كانوا بهذه الصفة، ورابعها: أن الاكتفاء بالظن في أصول الدين غير جائز. والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} {إنْ} بمعنى ما النافية؛ كما قال تعالى: {إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ} [الملك: 20].
و{يَظُنُّون} يكذبون ويحدثون؛ لأنهم لا علم لهم بصحة ما يتلون، وإنما هم مقلّدون لأحبارهم فيما يقرأون به.
قال أبو بكر الأنباري: وقد حدّثنا أحمد بن يحيى النحوي أن العرب تجعل الظنّ عِلْمًا وشكًّا وكذبًا، وقال: إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظنّ يقين، وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظنّ شك، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب؛ قال الله عز وجل: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} أراد إلا يكذبون. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} الاستثناء مفرغ والمستثنى محذوف أقيمت صفته مقامه، أي ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين وقد يطلق الظن على ما يقابل العلم اليقيني عن دليل قاطع سواء قطع بغير دليل، أو بدليل غير صحيح، أو لم يقطع، فلا ينافي نسبة الظن إليهم إن كانوا جازمين. اهـ.