فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15)}
والسجود كما نعرفه حركة من حركات الصلاة، والصلاة هي وَقْفة العبد بين يدي ربه بعد ندائه له، والصلاة أقوال وأفعال مُبْتدأة بالتكبير ومُخْتتمة بالسلام؛ بفرائض وسنن ومستحبات مخصوصة.
والسجود هو الحركة التي تُبرِز كاملَ الخضوع لله؛ فالسجود وَضْع لأعلى ما في الإنسان في مُسْتوى الأدنى وهو قَدَم الإنسان؛ ونجد العامة وهُمْ يقولون: لا ترفع رأسك عليَّ أي: لا تتعالى عليّ، لأن رَفْع الرأس معناه التعالي، وتخفيضها بالركوع أو السجود هو إظهارٌ للخضوع، فإذا قال الله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض...} [الرعد: 15]
عليك أن تفهم أن هذا ما يحدث فعلًا؛ وإنْ لم يتسع ذِهْنك إلى فَهْم السجود كما يحدث منك؛ فليتسع ظنُّك على أنه مُنْتهى الخضوع والذِّلة لله الآمر.
وأنت تعلم أن الكون كله مُسخَّر بأمر الله ولأمر الله، والكون خاضع له سبحانه؛ فإن استجاب الإنسان لأمر الله بالإيمان به فهذا خير. وإنْ لم يستجب الإنسان مثلما يفعل الكافر فعليه سُوء عمله.
ولو استقصيتَ المسألة بدقَّة الفَهْم؛ لوجدتَ أن الكافر إنما يتمرد بإرادته المُسَيطرة على جوارحه؛ لكن بقية أبعاضه مُسخرة؛ وكلها تؤدي عملها بتسخير الله لها، وكلها تُنفِّذ الأوامر الصادرة من الله لها؛ وهكذا يكون الكافر مُتمردًا ببعضه ومُسخَّرًا ببعضه الآخر، فحين يُمرِضه الله؛ أيستطيع أنْ يعصي؟
طبعًا لا. وحين يشاء الله أن يُوقِف قلبه أيقدر أن يجعل قلبه يخالف مشيئة الله؟ طبعًا لا.
إذن: فالذي يتعوّد على التمرد على الله في العبادة؛ وله دُرْبة على هذا التمرد؛ عليه أن يُجرِّب التمرد على مرادات الله فيما لا اختيار له فيه؛ وسيقابل العجز عن ذلك.
وعليه أنْ يعرف أنه لم يتمرد بالكفر إلا بما أوسع الله له من اختيار؛ بدليل أن تسعة وتسعين بالمائة من قُدراته محكوم بالقهر؛ وواحد بالمائة من قدراته متروك للاختيار، وهكذا يتأكد التسخير.
وخضوع الكافر في أغلب الأحيان؛ وتمرّده في البعض الآخر؛ هو مُنْتهى العظمة لله؛ فهو لا يجرؤ على التمرد بما أراده الله مُسخَّرًا منه.
ولقائل أن يقول: ولماذا قال الله هنا: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض...} [الرعد: 15]
ولم يقُلْ: ما في السماوات وما في الأرض؟
وأقول: مادام في الأمر هنا سجود؛ فهو دليل على قِمّة العقل؛ وسبحانه قد جعل السجود هنا دليلًا على أنّ كافة الكائنات تعقل حقيقة الألوهية؛ وتعبد الحق سبحانه.
وهو هنا يقول: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا...} [الرعد: 15]
وهنا يُعلمنا الحق سبحانه أن كل الكائنات ترضخ لله سجودًا؛ سواء المُسَخَّر؛ أو حتى أبعاض الكافر التي يستخدمها بإرادته في الكفر بالله؛ هذه الأبعاض تسجد لله.
ويتابع الحق سبحانه: {... وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} [الرعد: 15]
ونحن في حياتنا اليومية نسمع مَنْ يقول: فلان يَتْبع فلانًا كَظِله؛ أي: لا يتأبّى عليه أبدًا مطلقًا، ويلازمه كأنه الظل؛ ونعلم أن ظِلَّ الإنسان تابعٌ لحركته.
وهكذا نعلم أن الظِّلال نفسها خاضعة لله؛ لأن أصحابها خاضعون لله؛ فالظل يتبع حركته؛ وإياك أنْ تظنَّ أنه خاضع لك؛ بل هو خاضع لله سبحانه.
وسبحانه هنا يُحدِّد تلك المسألة بالغُدوِّ والآصال؛ والغدو جمع غداة وهو أول النهار، والآصال هو المسافة الزمنية بين العصر والمغرب.
وأنت حين تقيس ظِلَّك في الصباح ستجد الظِّل طويلًا، وكلما اقتربت من الشمس طال الظل، وكلما اقترب الزوال يقصرُ الظلُّ إلى أنْ يتلاشى؛ وأبزر ما يتمايل الظل بتمايل صاحبه هو في الصبح وبعد العصر. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15)}
أخرج ابن جرير وابن المنذر، عن مجاهد رضي الله عنه: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدوّ والآصال} قال: ظل المؤمن يسجد: {طوعًا} وهو طائع لله، وظل الكافر يسجد: {كرهًا} وهو كاره.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن قتادة رضي الله عنه: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا} قال: أما المؤمن، فيسجد طائعًا. وأما الكافر، فيسجد كارهًا، يسجد ظله.
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في الآية قال: الطائع، المؤمن. والكاره، ظل الكافر.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه في الآية قال: يسجد من في السموات طوعًا، ومن في الأرض، طوعًا وكرهًا.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد رضي الله عنه في الآية قال: من دخل طائعًا، هذا طوعًا. وكرهًا: من لم يدخل إلا بالسيف.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن منذر قال: كان ربيع بن خيثم إذا سجد في سجدة الرعد قال: بل طوعًا يا ربنا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله: {وظلالهم بالغدوّ والآصال} يعني حين يفيء ظل أحدهم عن يمينه أو شماله.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {وظلالهم بالغدوّ والآصال} قال: ذكر لنا أن ظلال الأشياء كلها تسجد لله، وقرأ: {سجدًا لله وهم داخرون} [سورة النحل: 48] قال: تلك الظلال تسجد لله.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وظلالهم بالغدوّ والآصال} قال: ظل الكافر يصلي وهو لا يصلي.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه في الآية قال: إذا طلعت الشمس، يسجد ظل كل شيء نحو المغرب. فإذا زالت الشمس، سجد ظل كل شيء نحو المشرق حتى تغيب.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه أنه سئل عن قوله: {وظلالهم} قال: ألا ترى إلى الكافر؟ فإن ظلاله جسده كله أعضاؤه لله مطيعة غير قلبه. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15)} قوله تعالى: {طَوْعًا وَكَرْهًا}: إمَّا مفعولٌ مِنْ أجله، وإمَّا حال، أي: طائعِين وكارهين، وإمَّا منصوبٌ على المصدر المؤكِّد بفعلٍ مضمر. وقرأ ألو مِجْلَز: {والإِيصال} بالياء قبل الصاد. وخرَّجها ابنُ جني على أنه مصدرٌ آصَلَ كضارَبَ، أي: دَخل في الأصيل، كأصْبَح، أي: دخل في الصباح. و: {ظلالُهم} عطف على: {مَنْ}. و: {بالغُدُوِّ} متعلِّقٌ بيَسْجُد، والباء بمعنى في، أي: في هذين الوقتين. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في كره:
الكَرْه والكُرْه- بالفتح والضمّ-: الإِباءُ، والمشقَّة.
وقيل: الكُرْه- بالضمِّ-: ما أَكرهت نفسك عليه، والكَره- بالفتح-: ما أَكرهوك عليه.
كَرِهَه- بالكسر- كَرْهًا وكُرْهًا وكَرَاههً وكَرَاهِيةً- بالتخفيف- ومَكْرَهة ومَكْرَها.
وشئ كَرْه وكَرِيه أَي مكروه. وكرّهه إِليه: صيّره كرِيهًا.
وقيل: الكُره على ضربين: أَحدهما: ما يعافه من حيث الطَّبع، والثانى: ما يعافه من حيث العقل والشرع.
ولهذا يصحّ أَن يقال في الشئ الواحد: أَريده وأَكرهه، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} أَي تكرهونه طبعًا، ثم قال: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} وبيَّن به أَنه لا يجب للإِنسان أَن يعتبر كراهيته للشئ أَو محبّته له حتَّى يعلم حاله.
وقوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} تنبيه أَن أَكل لحم الأَخ شيء قد جُبل الطَّبعُ على كراهته له، وإِن تحرَّاه الإِنسان.
وقوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} نهى عن حملهن على ما فيه كَرْه وكُرْه.
وقوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، قيل: منسوخ، وإِنه كان في أَوّل الأَمر كان يُعرض الإِسلام على المرءِ، فإِن أَجاب وإِلاَّ تُرك.
وقيل: إِنَّ ذلك في أَهل الكتاب، فإِنهم إِنْ أَدَّوا الجزية والتزموا الشرائط تُركوا.
وقيل: معناه لا حكم لمن أُكره على دين باطل، فاعترف به ودخل فيه، كما قال: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}.
وقيل معناه: لا اعتداد في الآخرة بما يفعله الإِنسان من الطَّاعة كرهًا، فإِنَّ الله تعالى عليم بالسَّرائر، ولا يرضى إِلاَّ الإِخلاص.
وقيل معناه: لا يُحمل الإِنسان على أَمر مكروه في الحقيقة ممَّا يكلِّفهم الله، بل يُحملون على نعم الأَبد.
قال صلَّى الله عليه وسلَّم: {عجِب ربُّك من قوم يُقادون إِلى الجنَّة بالسّلاسل}. وقيل: الدّين هنا بمعنى الجزاء، أَي أَنه ليس بمكره على الجزاءِ، بل يفعل ما يشاءُ بمن يشاءُ كما يشاءُ.
وقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} قيل: من في السّماوات طوعًا، ومن في الأَرض كرهًا، أَي الحجة أَكرهتهم وأَلجأَتهم، وليس هذا من الكره المذموم.
وقيل معناه: أَسلم المؤمنون طوعًا والكافرون كرهًا.
وقال قتادة: أَسلم المؤمنون له طوعًا والكافرون كرهًا عند الموت حيث قال: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} وقيل: عنى بالكره من قوتل وألجئ إِلى أَن يؤمن.
قال أَبو العالية ومجاهد: إِنّ كلًا أَقرَّ بخلقه إِياهم وإِنْ أَشركوا معه، كقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.
وقال ابن عباس: أَسلموا بأَحوالهم المنبئة عنهم، وإِن كفر بعضهم بمقالتهم، ذلك هو الإِسلام في الذَّرْءِ الأَوّل حيث قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}، وذلك هو دلائلهم التي فُطِرُوا عليها من العقل المقتضى لأَن يسلموا، وإِلى هذا أَشار بقوله: {وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}.
وقال بعض المحقِّقين: من أَسلم طوعًا هو الذي طالع المثيب والمعاقِب، لا الثواب والعقاب فأَسلم له، ومن أَسلم كرها هو الذي طالع الثواب والعقاب، فإِنه أَسلم رهبة ورغبة.
ونحو هذه الآية: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} وقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} أَي كُلْفة ومشقَّة، وقوله: {وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ} أَي لم يُرِد.
والله أَعلم. اهـ.