فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا}
قال الزمخشري: هذا مثل ضربه الله للحق وأهله، والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير، والظلمات والنور، مثلًا لهما.
فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به أودية للناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلى منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى فيه، وإن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرًا يثبت الماء في منافعه، وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب والثمار التي تنبت به مما يدخر ويكثر، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة.
وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة بزبد السيل الذي يرمي به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب.
وقال ابن عطية: صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله تعالى، وإقامة الحجة على الكفرة به، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالًا للحق والباطل، والإيمان والكفر، والشك في الشرع واليقين به انتهى.
وقيل: هذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن، والقلوب، والحق، والباطل.
فالماء مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب، وبقاء الشرع والدين والأودية مثل للقلوب، ومعنى بقدرها على سعة القلوب وضيقها، فمنها ما انتقع به فحفظه ووعاه وتدبر فيه، فظهرت ثمرته وأدرك تأويله ومعناه، ومنها دون ذلك بطبقة، ومنها دونه بطبقات.
والزبد مثل الشكوك والشبه وإنكار الكافرين إنه كلام الله، ودفعهم إياه بالباطل.
والماء الصافي المنتفع به مثل الحق انتهى.
وفي الحديث الصحيح ما يؤيد هذا التأويل وهو قوله-صلى الله عليه وسلم-: «مثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا وكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أجادب فأمسكت الماء فانتفع الناس به وسقوا ورعوا وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل ما جئت به من العلم والهدى ومثل من لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» وقال ابن عطية: وروي عن ابن عباس أنه قال: قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء}، يريد به الشرع والدين، فسالت أودية يريد القلوب، أي: أخذ النبيل بحظه، والبليد بحظه، وهذا قول لا يصح والله أعلم عن ابن عباس، لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز، وقد تمسك به الغزالي وأهل تلك الطريق، ولا توجيه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير علة تدعو إلى ذلك، والله الموفق للصواب.
وإن صح هذا القول عن ابن عباس، فإنما قصد أن قوله تعالى: {كذلك يضرب الله الحق والباطل}، معناه: الحق الذي يتقرر في القلوب، والباطل الذي يعتريها أيضًا انتهى.
والماء المطر.
ونكر أودية لأنّ المطر إنما يدل على طريق المناوبة، فتسيل بعض الأودية دون بعض.
ومعنى بقدرها أي: على قدر صغرها وكبرها، أو بما قدر لها من الماء بسبب نفع الممطور عليهم لا ضررهم.
ألا ترى إلى قوله: {وأما ما ينفع الناس}، فالمطر مثل للحق، فهو نافع خال من الضرر.
وقرأ الجمهور: بقدرها بفتح الدال.
وقرأ الأشهب العقيلي، وزيد بن علي، وأبو عمرو في رواية: بسكونها.
وقال الحوفي: بقدرها متعلق بسالت.
وقال أبو البقاء: بقدرها صفة لأودية، وعرف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل، والذي يتضمنه الفعل من المصدر هو نكرة، فإذا عاد عليه الظاهر كان معرفة، كما كان لو صرح به نكرة، ولذلك تضمن إذا عاد ما دل عليه الفعل من المصدر نحو: من كذب كان شرًا له أي: كان الكذب شرًا له، ولو جاء هنا مضمرًا لكان جائزًا عائدًا على المصدر المفهوم من فسالت.
واحتمل بمعنى حمل، جاء فيه افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر.
ورابيًا منتفخًا عاليًا على وجه السيل، ومنه الربوة.
ومما توقدون عليه أي: ومن الأشياء التي توقدون عليها وهي الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، والقصدير، ونحوها مما يوقد عليه وله زبد.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وابن محيصن، ومجاهد، وطلحة، ويحيى، وأهل الكوفة: يوقدون بالياء على الغيبة، أي يوقد الناس.
وقرأ باقي السبعة والحسن، وأبو جعفر، والأعرج، وشيبة: بالتاء على الخطاب وعليه متعلق بتوقدون وفي النار.
قال أبو علي، والحوفي: متعلق بتوقدون.
وقال أبو علي: قد يوقد على كل شيء وليس في النار كقوله: {فأوقد لي يا هامان على الطين} فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه، وليس في النار، لكن يصيبه لهبها.
وقال مكي وغيره: في النار متعلق بمحذوف تقديره: كائنًا، أو ثابتًا.
ومنعوا تعليقه بقوله: {توقدون}، لأنهم زعموا أنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار، وتعليق حرف الجر بتوقدون يتضمن تخصيص حال من حال أخرى انتهى.
ولو قلنا: إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار، لجاز أن يكون متعلقًا بتوقدون، ويجوز ذلك على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله: {يطير بجناحيه}، وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه.
وقال الحوفي: هو مصدر في موضع الحال أي: مبتغين حلية، وفي ذكر متعلق ابتغاء تنبيه على منفعة ما يوقدون عليه.
والحلية ما يعمل للنساء مما يتزين به من الذهب والفضة، والمتاع ما يتخذ من الحديد والنحاس وما أشبههما من الآلات التي هي قوام العيش كالأواني، والمساحي، وآلات الحرب، وقطاعات الأشجار، والسكك، وغير ذلك.
وزبد مرفوع بالابتداء، وخبره في قوله: {ومما توقدون}.
ومِن الظاهر أنها للتبعيض، لأن ذلك الزبد هو بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن.
وأجاز الزمخشري أن تكون مِن لابتداء الغاية أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء، والمماثلة في كونهما يتولدان من الأوساخ والأكدار، والحق والباطل على حذف مضاف أي: مثل الحق والباطل.
شبه الحق بما يخلص من جرم هذه المعادن من الأقذار والخبث ودوام الانتفاع بها، وشبه الباطل بالزبد والمجتمع من الخبث والأقذار، ولا بقاء له ولا قيمة.
وفصل ما سبق ذكره مما ينتفع به ومن الزبد، فبدأ بالزبد إذ هو المتأخر في قوله: {زبدًا رابيًا}، وفي قوله: زبد مثله، ولكون الباطل كناية عنه وصف متأخر، وهي طريقة فصيحة يبدأ في التقسيم بما ذكر آخرًا كقوله: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم} والبداءة بالسابق فصيحة مثل قوله: {فمنهم شقي وسعيد}: {فأما الذين شقوا ففي النار} وكأنه والله أعلم يبدأ في التفصيل بما هو أهم في الذكر.
وانتصب جفاء على الحال أي: مضمحلًا متلاشيًا لا منفعة فيه ولا بقاء له.
والزبد يراد به ما سبق من ما احتمله السيل وما خرج من حيث المعادن، وأفرد الزبد بالذكر ولم يثن، وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية، فهما واحد باعتبار القدر المشترك.
وقرأ رؤبة: جفالًا باللام بدل الهمزة من قولهم: جفلت الريح السحاب إذا حملته وفرقته.
وعن أبي حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفار بمعنى: أنه كان أعرابيًا جافيًا.
وعن أبي حاتم أيضًا: لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن.
وأما ما ينفع الناس أي: من الماء الخالص من الغناء ومن الجوهر المعدني الخالص من الخبث أي: مثل ذلك الضرب كمثل الحق والباطل.
يضرب الله الأمثال. اهـ.

.قال أبو السعود:

وبعد ما مُثّل المشركُ والشركُ بالأعمى والظلماتِ، والموحدُ والتوحيدُ بالبصير والنور مُثّل الحقُّ الذي هو القرآنُ العظيم في فيضانه من جناب القدسِ على قلوب خاليةٍ عنه متفاوتةِ الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظةً وحفظًا وعلى الألسنة مذاكرةً وتلاوةً وفي ثباته فيهما مع كونه مُمِدًّا لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمالِ المرضيّة بالماء النازلِ من السماء السائلِ في أودية يابسةٍ لم تجرِ عادتُها بذلك سيلانًا مقدرًا بمقدار اقتضتْه الحكمةُ في إحياء الأرضِ وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافعُ الناس، وفي كونه حليةً تتحلّى به النفوسُ وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعًا يُتمتّع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزّات التي يُتخذ منها أنواعُ الآلات والأدواتِ وتبقى منتَفعًا بها مدةً طويلةً، ومُثّل الباطلُ الذي ابتُليَ به الكفرةُ لقصور نظرِهم بما يظهر فيهما من غير مداخلةٍ له فيهما وإخلالٍ بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحلّ سريعًا فقيل: {أَنزَلَ مِنَ السماء} أي من جهتها: {مَاء} أي كثيرًا أو نوعًا منه وهو ماءُ المطر: {فَسَالَتْ} بذلك: {أَوْدِيَةٌ} واقعةٌ مواقعه لا جميعُ الأودية إذ الأمطارُ لا تستوعبُ الأقطارَ وهو جمعُ وادٍ وهو مفرَجٌ بين جبال أو تلالٍ أو آكام على الشذوذ كنادٍ وأندية وناج وأنجية، قالوا: وجهُه أن فاعلا يجيء بمعنى فعيل، كناصر ونصير، وشاهد وشهيد، وعالم وعليم، وحيث جُمع فعيل على أفعلة كجريب وأجرِبة جُمع فاعلٌ أيضًا على أفعلة، فإن أريد بها ما يسيل فيها مجازًا فإسنادُ السيلانِ إليها حقيقيٌّ وإن أريد معناها الحقيقيُّ فالإسنادُ مجازيٌّ كما في جرى النهرُ، وإيثارُ التمثيل بها على الأنهار المستمرةِ الجريانِ لوضوح المماثلةِ بين شأنها وشأنِ ما مُثّل بها كما أشير إليه: {بِقَدَرِهَا} أي سالت ملتبسةً بمقدارها الذي عينه الله تعالى واقتضتْه حكمتُه في نفع الناس أو بمقدارها المتفاوتِ قلةً وكثرةً بحسب تفاوتِ محالّها صِغَرًا وكِبَرًا لا بكونها مالئةً لها منطبقةً عليها بل بمجرد قلّتها بِصغرها المستلزِمِ لقلة مواردِ الماء وكثرتها بكِبَرها المستدعي لكثرة الموارد، فإن موردَ السيل الجاري في الوادي الصغير أقلُّ من مورد السيل الجاري في الوادي الكبير، هذا إن أريد بالأودية ما يسيل فيها، أما إن أريد بها معناها الحقيقيُّ فالمعنى سالت مياهُها بقدر تلك الأوديةِ على نحو ما عرفته آنفًا، أو يراد بضميرها مياهُها بطريق الاستخدام ويراد بقدَرها ما ذكر أولًا من المعنيين: {فاحتمل السيل} الجاري في تلك الأودية أي حملَ معه: {زَبَدًا} أي غُثاء ورَغوةً، وإنما وُصف ذلك بقوله تعالى: {رَّابِيًا} أي عاليًا منتفخًا فوقه بيانًا لما أريد بالاحتمال المحتمَلِ لكون الحميلِ غيرَ طافٍ كالأشجار الثقيلة وإنما لم يُدفع ذلك الاحتمالُ بأن يقال: فاحتمل السيلُ فوقه للإيذان بأن تلك الفوقيةَ مقتضى شأنِ الزبدِ لا من جهة المحتمَل تحقيقًا للمماثلة بينه وبين ما مُثّل به من الباطل الذي شأنُه الظهورُ في بادي الرأي من غير مداخلةٍ في الحق: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النار} أي يفعلون الإيقادَ عليه كائنًا في النار والضميرُ للناس أُضمر مع عدم سبق الذكرِ لظهوره وقرئ بالخطاب: {ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع} أي لطلب اتخاذِ حليةٍ وهي ما يُتزيّن ويُتجمّل به كالحِليِّ المتخَذَة من الذهب والفضة أو اتخاذِ متاعٍ وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخَذةِ من الرصاص والحديد وغيرِ ذلك من الفِلزّات: {زَبَدٌ} خبث: {مّثْلِهِ} مثلُ ما ذكر من زبد الماء في كونه رابيًا فوقه، فقوله: زبدٌ مبتدأٌ خبرُه الظرفُ المقدم، ومن ابتدائيه دالةٌ على مجرد كونِه مبتدأ وناشئًا منه لا تبعيضيةٌ معرِبة عن كونه بعضًا منه كما قيل، لإخلال ذلك بالتمثيل، وفي التعبير عن ذلك بالموصول والتعرضِ لما في حيّز الصلةِ من إيقاد النار عليه جرْيٌ على سنن الكِبرياء بإظهار التهاونِ به كما في قوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِى ياهامان ياهامان عَلَى الطين} وإشارةٌ إلى كيفية حصولِ الزبدِ منه بذوبانه، وفي زيادة {في النار} إشعارٌ بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصولِ الزبد كما أشير إليه، وعدمُ التعرض لإخراجه من الأرض لعدم دخلِ ذلك العنوانِ في التمثيل كما أن لعنوان إنزالِ الماءِ من السماء دخلًا فيه حسبما فصّل فيما سلف بل له إخلالٌ بذلك.
{كذلك} أي مثلَ ذلك الضربِ البديعِ المشتملِ على نُكت رائقةٍ: {يَضْرِبُ الله الحق والباطل} أي مثَلَ الحق ومثل الباطل، والحذفُ للإنباء عن كمال التماثل بين الممثَّل والممثلِ به كأنه المثَلَ المضروبَ عينُ الحقِّ والباطلِ، وبعد تحقيق التمثيلِ مع الإيماء في تضاعيف ذلك إلى وجوه المماثلة على أبدع وجوهٍ وآنقِها حسبما أشير إليه في مواقعها بيِّن عاقبةُ كل من الممثّلين على وجه التمثيل مع التصريح ببعض ما به المماثلة من الذهاب والبقاءِ تتمةً للغرض من التمثيل من الحث على اتباع الحقِّ الثابتِ والردْعِ عن الباطل الزائد فقيل: {فَأَمَّا الزبد} من كلَ منهما: {فَيَذْهَبُ جُفَاء} أي مرميًا به، وقرئ {جُفالًا} والمعنى واحد: {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس} منهما كالماء الصافي والفِلزِّ الخالص: {فَيَمْكُثُ في الأرض} أما الماء فيثبت بعضُه في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرضِ إلى العيون والقنا والآبار وأما الفلزُّ فيصاغ من بعضه أنواعُ الحِليِّ ويتخذ من بعضه أصنافُ الآلات والأدوات فيُنتفع بكل من ذلك أنواعَ الانتفاعات مدةً طويلة، فالمرادُ بالمكث في الأرض ما هو أعمُّ من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلّبين فيها وتغييرُ ترتيبِ اللفِّ الواقعِ في الفذْلكة الموافقِ للترتيب الواقع في التمثيلِ لمراعاة الملاءمةِ بين حالتي الذهاب والبقاءِ وبين ذكرَيهما فإن المعتبَر إنما هو بقاءُ الباقي بعد ذهاب الذاهبِ لا قبله.
{كذلك يَضْرِبُ الله} أي مثلَ ذلك الضرب العجيبِ يضرب: {الأمثال} في كل باب إظهارًا لكمال اللطفِ والعنايةِ في الإرشاد والهداية، وفيه تفخيمٌ لشأن هذا التمثيلِ وتأكيدٌ لقوله: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} إما باعتبار ابتناءِ هذا التمثيلِ الأول أو بجعل ذلك إشارةً إليهما جميعًا. اهـ.