فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولأنّ في العدول عن ذكر اسم الذهب والفضة إعراضًا يؤذن بقلة الاكتراث بهما ترفعًا عن وَلع النّاس بهما فإن اسميهما قد اقترنا بالتعظيم في عرف النّاس.
و{من} في قوله: {ومما توقدون} ابتدائية.
و{ابتغاء حلية أو متاع} مفعول لأجله متعلق بـ: {توقدون}.
ذكر لإيضاح المراد من الصلة ولإدماج ما فيه من منة تسخير ذلك للناس.
لشدة رغبتهم فيهما.
والحلية: ما يتحلى به، أي يتزين وهو المصوغ.
والمتاع: ما يتمتع به وينتفع، وذلك المسكوك الذي يَتعامل به الناس من الذهب والفضة.
وقرأ الجمهور: {توقدون} بفوقية في أوله على الخطاب، وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف بتحتية على الغيبة.
وجملة: {كذلك يضرب الله الحق والباطل} معترضة، هي فذلكة التمثيل ببيان الغرض منه، أي مثل هذه الحالة يكون ضَرْب مثل للحق والباطل.
فمعنى: {يضرب} يبيّن ويُمثل.
وقد تقدم معنى يضرب عند قوله تعالى: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلًا} في سورة البقرة [26].
فحُذف مضاف في قوله: {يضرب الله الحق}، والتقدير: يضرب الله مَثَلَ الحق والباطل، دلالة فعل: {يضرب} على تقدير هذا المضاف.
وحذف الجار من: {الحق} لتنزيل المضاف إليه منزلة المضاف المحذوف.
وقد علم أن الزبد مثَل للباطل وأن الماء مثَل للحق، فارتقى عند ذلك إلى ما في المثلين من صفتي البقاء والزوال ليتوصل بذلك إلى البشارة والنذارة لأهل الحق وأهل الباطل بأن الفريق الأول هو الباقي الدائم، وأن الفريق الثاني زائل بائد، كقوله: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عباديَ الصالحون إن في هذا لبلاغًا لقوم عابدين} [الأنبياء: 105، 106]، فصار التشبيه تعريضًا وكناية عن البشارة والنذارة، كما دل عليه قوله عقب ذلك: {للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له} [الرعد: 18] إلخ كما سيأتي قريبًا.
فجملة {فأما الزبد} معطوفة على جملة: {فاحتمل السيل زبدًا رابيا} مفرّعةٌ على التمثيل.
وافتتحت بـ: {أما} للتوكيد وصَرْف ذهن السامع إلى الكلام لما فيه من خفي البشارة والنذارة، ولأنه تمام التمثيل.
والتقدير: فذهب الزبد جُفاء ومكُث ما ينفع الناس في الأرض.
والجُفاء: الطريح المرميُّ، وهذا وعيد للمشركين بأنهم سيبيدون بالقتل ويبقى المؤمنون.
وعبر عن الماء بما ينفع الناس للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو البقاء في الأرض تعريضًا للمشركين بأن يعرضوا أحوالهم على مضمون هذه الصلة ليعلموا أنهم ليسوا ما ينفع الناس، وهذه الصلة موازنة للوصف في قوله تعالى: {إن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [سورة الأنبياء: 105].
واكتفي بذكر وجه شبه النافع بالماء وغير النافع بالزبد عن ذكر وجه شَبَه النافع بالذهب أو الفضة وغير النافع بزبدهما استغناء عنه.
وجملة {كذلك يضرب الله الأمثال} مستأنفة تذييلية لما في لفظ: {الأمثال} من العموم.
فهو أعم من جملة: {كذلك يضرب الله الحق والباطل} لدلالتها على صنف من المثل دون جميع أصنافه فلما أعقب بمثل آخر وهو: {فأما الزبد فيذهب جفاء} جيء بالتنبيه إلى الفائدة العامة من ضرب الأمثال.
وحصل أيضًا توكيد جملة: {كذلك يضرب الله الحق والباطل} لأن العام يندرج فيه الخاص.
فإشارة: {كذلك} إلى التمثيل السابق في جملة: {أنزل من السماء ماء} أي مثل ذلك الضَرْب البديع يضرب الله الأمثال، وهو المقصود بهذا التذييل.
والإشارة للتنويه بذلك المثل وتنبيه الأفهام إلى حكمته وحكمة التمْثيل، وما فيه من المواعظ والعبر، وما جمعه من التمثيل والكناية التعريضية، وإلى بلاغة القرآن وإعجازه، وذلك تبهيج للمؤمنين وتحدّ للمشركين، وليعلم أن جملة: {فأما الزبد فيذهب جفاء} لم يؤت بها لمجرد تشخيص دقائق القدرة الإلهية والصنع البديع بل ولضرب المثَل، فيعلمَ لممثّل له بطريق التعريض بالمشركين والمؤمنين، فيكون الكلام قد تم عند قوله: {كذلك يضرب الله الأمثال} كما في شأن التذييل. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا}
وهو سبحانه يُنزِل الماء من جهة العُلو وهو السماء، ونعلم أن الماء يتبخَّر من البحار والأنهار والأرض التي تتفجّر فيها العيون ليتجمع كسحاب؛ ثم يتراكم السحاب بعضُه على بعض؛ ويمرُّ بمنطقة باردة فيتساقط المطر.
ويقول الحق سبحانه: {أَنَزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا...} [الرعد: 17]
والوادي هو المُنْخفض بين الجبلين؛ وساعةَ ينزل المطر على الجبال فهو يسيل على الأودية؛ وكل وَادٍ يستوعب من المياه على اتساعه.
ولنا أن نلحظ أن حكمة الله شاءتْ ذلك كَيْلا يتحول الماء إلى طوفان، فلو زاد الماء في تلك الأودية لَغرقتْ نتيجة ذلك القرى، ولَخرِبت الزراعات، وتهدمتْ البيوت.
والمَثَل على ذلك هو فيضان النيل حين كان يأتي مناسبًا في الكمية لحجم المَجْرى؛ وكان مثل هذا القَدْر من الفيضان هو الذي يُسعد أهل مصر؛ أما إذا زاد فهو يُمثِّل خطرًا يَدْهَم القرى ويخربها.
وهكذا نجد أن من رحمة الحق سبحانه أن الماء يسيل من السماء مطرًا على قدر اتساع الأودية؛ اللهم إلا إذا شاء غير ذلك.
والحق سبحانه هنا يريد أنْ يضرب مثلًا على ما ينفع الناس؛ لذلك جاء بجزئية نزول الماء على قَدْر اتساع الأودية.
ومَنْ رأى مشهد نزول المطر على هذا القَدْر يمكنه أنْ يلحظ أن نزول السَّيْل إنما يكنس كل القَشِّ والقاذورات؛ فتصنع تلك الزوائد رَغْوةً على سطح الماء الذي يجري في النهر، ثم يندفع الماء إلى المَجْرى؛ لِيُزيح تلك الرَّغاوى جانبًا؛ ليسير الماء من بعد ذلك صَافِيًا رَقْراقًا. {أَنَزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا...} [الرعد: 17]
وهذا المَثَل يدركه أهل البادية؛ لأنها صحراء وجبال ووديان؛ فماذا عن مَثَلٍ يناسب أهل الحضر؟
ويأتي الحق سبحانه بهذا المثل المناسب لهم؛ فيقول: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ...} [الرعد: 17]
وأنت حين تذهب إلى موقع عمل الحداد أو صائغ الذهب والفضة؛ تجده يُوقِد النار ليتحول المعدن إلى سائل مَصْهور؛ ويطفو فوق هذا السائل الزَّبَد وهو الأشياء التي دخلت إلى المعدن، وليست منه في الأصل؛ ويبقى المعدن صافيًا من بعد ذلك.
والصَّانع يضع الذهب في النار لِيُخلِّصه من الشوائب؛ ثم يضيف إليه من المواد ما يُقوِّي صلابته؛ أو ينقله من حالة النقاء إلى درجة أقل نقاءً، وحالة النقاء في الذهب هي ما نطلق عليه عيار 24، والأقل درجة هو الذهب من عيار 21، والأقل من ذلك هو الذهب من عيار 18.
والذهب الخالص النقاء يكون ليِّنًا؛ لذلك يُضيفون إليه ما يزيد من صلابته، ويصنع الصائغ من هذا الذهب الحُلي.
وهذا هو المَثَلُ المناسب لأهل الحضر؛ حين يصنعون الحلي، وهم أيضًا يصنعون أدواتٍ أخرى يستعملونها ويستعملها مثلهم أهل البادية كالسيوف مثلًا، وهي لابُدَّ أن تكون من الحديد الصُّلْب؛ ذلك أن كل أداة تصنع منه لها ما يناسبها من الصَّلابة؛ فإنْ أراد الحدَّاد أن يصنع سيفًا فلابد أنْ يختار له من الحديد نوعيةً تتناسب مع وظائف السيف.
والزَّبَد في الماء النازل من السماء إنما يأتي إليه نتيجة مرور المطر أثناء نزوله على سطح الجبال؛ فضلًا عن غسيل مَجْرى النهر الذي ينزل فيه؛ وعادة ما يتراكم هذا الزَّبَد على الحَوافّ؛ ليبقى الماء صافيًا من بعد ذلك.
وحين تنظر إلى النيل مثلًا فأنت تجد الشوائب، وقد ترسبتْ على جانبي النهر وحَوافّه، وكذلك حين تنظر إلى مياه البحر؛ فأنت تجد ما تلقيه المركب، وهو طافٍ فوق الأمواج؛ لِتُلقيه الأمواج على الشاطئ.
وهكذا ضرب الله المَثَل لأهل البدو ولأهل الحضر بما يفيدهم في حياتهم؛ سواء حلية يلبسونها، أو أداة يقاتلون بها، أو أداة أخرى يستخدمونها في أَوْجُه أعمالهم الحياتية؛ وهم في كل ذلك يلجئون إلى تصفية المعادن التي يصنعون منها تلك الحلي أو الأدوات الحياتية ليستخلصوا المعادن من الخَبَث أو الزَّبَد.
وكذلك يفعل الحق سبحانه: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض...} [الرعد: 17]
وحين يضرب الله الحقَّ والباطل؛ فهو يستخلص ما يفيد الناس؛ ويُذهب ما يضرُّهم، وقوله: {فَيَذْهَبُ جُفَاءً...} [الرعد: 17]
أي: يبعده؛ ف: {جُفَاء} يعني مَطْرودًا؛ من الجَفْوة؛ ويُقال: فلان جَفَا فلانًا أي: أبعده عنه. ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {... كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17] وشاء سبحانه أن يُبيِّن لنا بالأمور الحِسِّية؛ ما يساوي الأمور المعنوية؛ كي يعلمَ الإنسانُ أن الظُّلْمَ حين يستشري ويَعْلو ويَطْمِس الحق، فهو إلى زَوَال؛ مثله مثل الزَّبد. اهـ.

.قال صاحب الأمثل:

قوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا}
التّفسير:
وصف دقيق لمنظر الحقّ والباطل:
يستند القرآن الكريم- الذي يعتبر كتاب هداية وتربية- في طريقته إلى الوقائع العينيّة لتقريب المفاهيم الصعبة إلى أذهان الناس من خلال ضرب الأمثال الحسّية الرائعة من حياة الناس، وهنا- أيضًا- لأجل أن يُجسّم حقائق الآيات السابقة التي كانت تدور حول التوحيد والشرك، الإيمان والكفر، الحقّ والباطل، يضرب مثلا واضحًا جدًّا لذلك..
يقول أوّلا: {أنزل من السّماء ماءً} الماء عماد الحياة وأصل النمو والحركة، {فسالت أودية بقدرها} تتقارب السواقي الصغيرة فيما بينها، وتتكوّن الأنهار وتتّصل مع بعضها البعض، فتسيل المياه من سفوح الجبال العظيمة والوديان وتجرف كلّ ما يقف أمامها، وفي هذه الأثناء يظهر الزَّبد وهو ما يرى على وجه الماء كرغوة الصابون من بين أمواج الماء حيث يقول القرآن الكريم: {فاحتمل السيل زبدًا رابيًا}. {الرابي} من الربو بمعنى العالي أو الطافي، والربا بمعنى الفائدة مأخوذ من نفس هذا الأصل.
وليس ظهور الزبد منحصرًا بهطول الأمطار، بل {وممّا يوقدون عليه في النّار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله} أي الفلزات المذابة بالنّار لصناعة أدوات الزينة منها أو صناعة الوسائل اللازمة في الحياة.
بعد بيان هذا المثال بشكله الواسع لظهور الزبد ليس فقط في الماء بل حتّى للفلزات وللمتاع، يستنتج القرآن الكريم {كذلك يضرب الله الحقّ والباطل} ثمّ يتطرّق إلى شرحه فيقول: {فأمّا الزبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}.
فأمّا الزبد الذي لا فائدة فيه فيذهب جفاءً ويصير باطلا متلاشيًا، وأمّا الماء الصافي النقي المفيد فيمكث في الأرض أو ينفذ إلى الأعماق وتتكوّن منه العيون والآبار تروي العطاش، وتروي الأشجار لتثمر، والأزهار لتتفتّح، وتمنح لكلّ شيء الحياة.
وفي آخر الآية- للمزيد من التأكيد في مطالعة هذه الأمثال- يقول تعالى: {كذلك يضرب الله الأمثال}.
بحوث:
هذا المثال البليغ الذي عبّر عنه القرآن الكريم بألفاظ موزونة وعبارات منظّمة. وصوّر فيها الحقّ والباطل بأروع صورة، فيه حقائق مخفيّة كثيرة ونشير هنا إلى قسم منها:
1- ما هي علائم معرفة الحق والباطل؟
يحتاج الإنسان في بعض الأحيان لمعرفة الحقّ والباطل- إذا أشكل عليه الأمر- إلى علائم وأمثال حتّى يتعرّف من خلالها على الحقائق والأوهام. وقد بيّن القرآن الكريم هذه العلامات من خلال المثال أعلاه:
ألف:ـ الحقّ مفيد ونافع دائمًا، كالماء الصافي الذي هو أصل الحياة. أمّا الباطل فلا فائدة فيه ولا نفع، فلا الزبد الطافي على الماء يروي ظمآنًا أو يسقي أشجارًا، ولا الزبد الظاهر من صهر الفلزات يمكن أن يستفاد منه للزينة أو للإستعمالات الحياتية الأُخرى، وإذا إستخدمت لغرض فيكون إستخدامها رديئًا ولا يؤخذ بنظر الإعتبار.. كما نستخدم نشارة الخشب للإحراق.
باء:ـ الباطل هو المستكبر والمرفّه كثير الصوت، كثير الأقوال لكنّه فارغ من المحتوى، أمّا الحقّ فمتواضع قليل الصوت، وكبير المعنى، وثقيل الوزن.
جيم- الحقّ يعتمد على ذاته دائمًا، أمّا الباطل فيستمدّ إعتباره من الحقّ ويسعى للتلبّس به، كما أنّ الكذب يتلبّس بضياء الصدق ولو فقد الكلام الصادق من العالم لما كان هناك من يصدق الكذب. ولو فقدت البضاعة السليمة من العالم لما وجد من يخدع ببضاعة مغشوشة. وعلى هذا فوجود الباطل راجع إلى شعاعه الخاطف وإعتباره المؤقّت الذي سرقه من الحقّ، أمّا الحقّ فهو مستند إلى نفسه وإعتباره منه.