فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الفراء: الجفاء الرمي.
يقال: جفأ الوادي غثاء جفاء: إذا رمى به، والجفاء بمنزلة الغثاء.
وكذا قال أبو عمرو بن العلاء، وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ: {جفالًا}.
قال أبو عبيدة: يقال: أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها.
وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته، قال أبو حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفأر.
واعلم أن وجه المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل والزبد الذي يعلو الأجسام المنطرقة، أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبدًا رابيًا فوقه.
وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى يذوب من الأجسام المنطرقة، فإن أصله من المعادن التي تنبت في الأرض فيخالطها التراب، فإذا أذبيت صار ذلك التراب الذي خالطها خبثًا مرتفعًا فوقها.
{وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس} منهما وهو الماء الصافي، والذائب الخالص من الخبث: {فَيَمْكُثُ في الأرض} أي: يثبت فيها.
أما الماء فإنه يسلك في عروق الأرض فتنتفع الناس به، وأما ما أذيب من تلك الأجسام فإنه يصاغ حلية وأمتعة.
وهذان مثلان ضربهما الله سبحانه للحق والباطل، يقول: إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سبحانه سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحلّ وكخبث هذه الأجسام فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه، فهذا مثل الباطل؛ وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعي فيمكث في الأرض، كذلك الصفو من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصًا لا شوب فيه، وهو مثل الحق.
قال الزجاج: فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعًا بها، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به.
وقد حكينا عن ابن الأنباري فيما تقدّم أنه شبه نزول القرآن إلى آخر ما ذكرناه فجعل ذلك مثلًا ضربه الله للقرآن.
{كذلك يَضْرِبُ الله الامثال} أي: مثل ذلك الضرب العجيب يضرب الله الأمثال في كل باب لكمال العناية بعباده واللطف بهم، وهذا تأكيد لقوله: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل}.
ثم بين سبحانه من ضرب له مثل الحق ومثل الباطل من عباده، فقال: فيمن ضرب له مثل الحق: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ} أي: أجابوا دعوته إذ دعاهم إلى توحيده وتصديق أنبيائه والعمل بشرائعه، و: {الحسنى} صفة موصوف محذوف، أي: المثوبة الحسنى وهي الجنة، وقال سبحانه فيمن ضرب له مثل الباطل: {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ} لدعوته إلى ما دعاهم إليه، والموصول مبتدأ وخبره الجملة الشرطية، وهي: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا في الأرض جَمِيعًا} من أصناف الأموال التي يتملكها العباد ويجمعونها بحيث لا يخرج عن ملكهم منها شيء: {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أي: مثل ما في الأرض جميعًا كائنًا معه ومنضمًا إليه: {لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} أي: بمجموع ما ذكر وهو ما في الأرض ومثله.
والمعنى: ليخلصوا به مما هم فيه من العذاب الكبير والهول العظيم، ثم بين الله سبحانه ما أعدّه لهم فقال: {أولئك} يعني: الذين لم يستجيبوا: {لَهُمْ سُوء الحساب} قال الزجاج: لأن كفرهم أحبط أعمالهم، وقال غيره: سوء الحساب المناقشة فيه؛ وقيل: هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي: مرجعهم إليها: {وَبِئْسَ المهاد} أي: المستقرّ الذي يستقرون فيه.
والمخصوص بالذم محذوف.
وقد أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا وَطَمَعًا} قال: خوفًا للمسافر يخاف أذاه ومشقته، وطمعًا للمقيم يطمع في رزق الله ويرجو بركة المطر ومنفعته.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: خوفًا لأهل البحر وطمعًا لأهل البر.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال: الخوف ما يخاف من الصواعق، والطمع: الغيث.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والخرائطي في مكارم الأخلاق، والبيهقي في سنّنه من طرق عن عليّ بن أبي طالب قال: البرق: مخاريق من نار بأيدي ملائكة السحاب يزجرون به السحاب.
وروي عن جماعة من السلف ما يوافق هذا ويخالفه، ولعلنا قد قدّمنا في سورة البقرة شيئًا من ذلك.
وأخرج أحمد عن شيخ من بني غفار قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله ينشئ السحاب فتنطق أحسن النطق وتضحك أحسن الضحك» قيل: والمراد بنطقها الرعد، وبضحكها البرق.
وقد ثبت عند أحمد، والترمذي، والنسائي في اليوم والليلة، والحاكم في مستدركه من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» وأخرج العقيلي وضعفه، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينشئ الله السحاب ثم ينزل فيه الماء، فلا شيء أحسن من ضحكه، ولا شيء أحسن من نطقه، ومنطقه الرعد وضحكه البرق» وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله: أن خزيمة بن ثابت، وليس بالأنصاري، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منشأ السحاب فقال: «إن ملكًا موكلًا يلمّ القاصية ويلحم الدانية، في يده مخراق، فإذا رفع برقت وإذا زجر رعدت، وإذا ضرب صعقت» وأخرج أحمد، والترمذي وصححه.
والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهنّ عرفنا أنك نبيّ واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: {الله على ما نقول وكيل} [يوسف: 66]، قال: «هاتوا»، قالوا: أخبرنا عن علامة النبيّ؟ قال: «تنام عيناه ولا ينام قلبه»، قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر؟ قال: «يلتقي الماءان، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت» قالوا: أخبرنا عمّا حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: «كان يشتكي عرق النساء، فلم يجد شيئًا يلائمه إلاّ ألبان كذا وكذا: يعني: الإبل، فحرم لحومها» قالوا: صدقت، قالوا أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: «ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله»، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «صوته»، قالوا: صدقت إنما بقيت واحدة، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا، إنه ليس من نبيّ إلاّ له ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: «جبريل،» قالوا: جبريل ذاك ينزل بالخراب والقتال والعذاب عدوّنا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان فأنزل الله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] إلى آخر الآية.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي الدنيا في المطر، وابن جرير عن ابن عباس أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان الذي سبحت له، وقال: إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه.
وقد روي نحو هذا عنه من طرق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن الرعد صوت الملك، وكذا أخرج نحوه أبو الشيخ عن ابن عمر.
وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس قال: الرعد ملك اسمه الرعد، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتدّ زجره احتك السحاب واضطرم من خوفه، فتخرج الصواعق من بينه، وأخرج ابن أبي حاتم، والخرائطي، وأبو الشيخ في العظمة عن أبي عمران الجوني قال: إن بحورًا من نار دون العرش يكون منها الصواعق.
وأخرج أبو الشيخ عن السدّي قال: الصواعق نار.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس: {وَهُوَ شَدِيدُ المحال} قال: شديد القوّة.
وأخرج ابن جرير عن علي قال: شديد الأخذ.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عنه في قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الحق} قال: التوحيد: لا إله إلاّ الله.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات من طرق عن ابن عباس في قوله: {دَعْوَةُ الحق} قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله.
وأخرج ابن جرير عن علي في قوله: {إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ إِلَى الماء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} قال: كان الرجل العطشان يمدّ يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال: هذا مثل المشرك الذي عبد مع الله غيره، فمثله كمثل الرجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد وهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه.
وأخرج أبو الشيخ عنه في قوله: {هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير} قال: المؤمن والكافر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه أيضًا في قوله: {أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} الآية قال: هذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله، وهو قوله: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء} وهو الشك: {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ في الأرض} وهو اليقين، وكما يجعل الحليّ في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك.
وأخرج هؤلاء عنه أيضًا: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} قال: الصغير قدر صغره، والكبير قدر كبره. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)}
تبدأ السورة بقضية عامة من قضايا العقيدة: قضية الوحي بهذا الكتاب، والحق الذي اشتمل عليه. وتلك هي قاعدة بقية القضايا من توحيد لله، ومن إيمان بالبعث، ومن عمل صالح في الحياة. فكلها متفرعة عن الإيمان بأن الآمر بهذا هو الله، وأن هذا القرآن وحي من عنده سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
{المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}..
ألف. لام. ميم. را.. {تلك آيات الكتاب}.. آيات هذا القرآن. أو تلك آيات على الكتاب تدل على الوحي به من عند الله. إذ كانت صياغته من مادة هذه الأحرف دلالة على أنه من وحي الله، لا من عمل مخلوق كائنًا من كان.
{والذي أنزل من ربك الحق}..
الحق وحده. الحق الخالص الذي لا يتلبس بالباطل. والذي لا يحتمل الشك والتردد. وتلك الأحرف آيات على أنه الحق. فهي آيات على أنه من عند الله. ولن يكون ما عند الله إلا حقًا لا ريب فيه.
{ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}..
لا يؤمنون بأنه موحى به، ولا بالقضايا المترتبة على الإيمان بهذا الوحي من توحيد لله ودينونة له وحده ومن بعث وعمل صالح في الحياة.
هذا هو الافتتاح الذي يلخص موضوع السورة كله، ويشير إلى جملة قضاياها. ومن ثم يبدأ في استعراض آيات القدرة، وعجائب الكون الدالة على قدرة الخالق وحكمته وتدبيره، الناطقة بأن من مقتضيات هذه الحكمة أن يكون هناك وحي لتبصير الناس؛ وأن يكون هناك بعث لحساب الناس. وأن من مقتضيات تلك القدرة أن تكون مستطيعة بعث الناس ورجعهم إلى الخالق الذي بدأهم وبدأ الكون كله قبلهم. وسخره لهم ليبلوهم فيما آتاهم.
وتبدأ الريشة المعجزة في رسم المشاهد الكونية الضخمة.. لمسة في السماوات، ولمسة في الأرضين. ولمسات في مشاهد الأرض وكوامن الحياة..
ثم التعجيب من قوم ينكرون البعث بعد هذه الآيات الضخام، ويستعجلون عذاب الله، ويطلبون آية غير هذه الآيات: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون}.
{وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسيَ وأنهارًا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يُغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.
{وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}.