فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان الدليل العقلي محتمًا للثبات عليه كما أن الميثاق اللفظي موجب للوفاء به، قال تعالى: {ولا ينقضون الميثاق} أي الإيثاق ولا الوثاق ولا مكانه ولا زمانه؛ والنقض: حل العقد بفعل ما ينافيه ولا يمكن أن يصح معه، والميثاق: العقد المحكم وهو الأوامر والنواهي المؤكدة بحكم العقل.
ولما كان أمر الله جاريًا على منهاج العقل وإن كان قاصرًا عنه لا يمكن نيله له من غير مرشد، قال: {والذين يصلون} أي من كل شيء على سبيل الاستمرار: {ما أمر الله} أي الذي له الأمر كله؛ وقال: {به أن يوصل} دون يوصله ليكون مأمورًا بوصله مرتين، ويفيد تجديد الوصل كلما قطعه قاطع على الاستمرار لما تظافر على ذلك من دليلي العقل والنقل؛ والوصل: ضم الثاني إلى الأول من غير فرج.
ولما كان الدليل يرشد إلى أن الله تعالى مرجو مرهوب قال: {ويخشون ربهم} أي المحسن إليهم، من أن ينتقم منهم إن خالفوا بقطع الإحسان.
ولما كان العقل دالًا بعد تنبيه الرسل على القدرة على المعاد بالقدرة على المبدأ، وكان الخوف منه أعظم الخوف، قال تعالى: {ويخافون} أي يوجدون الخوف إيجادًا مستمرًا: {سوء الحساب} وهو المناقشة فيه من غير عفو، ومن أول السورة إلى هنا تفصيل لقوله تعالى أول البقرة: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 1] مع نظره إلى قوله آخر يوسف: {ما كان حديثًا يفترى} [يوسف: 111].
ولما كان الوفاء بالعهد في غاية الشدة على النفس، قال مشيرًا إلى ذلك مع شموله لغيره: {والذين صبروا} أي على طاعات الله وعن معاصيه وفي كل ما ينبغي الصبر فيه، والصبر: الحبس، وهو تجرع مرارة المنع للنفس عما تحب مما لا يجوز فعله: {ابتغاء} أي طلب: {وجه ربهم} أي المحسن إليهم، وكأنه ذكر الوجه إثارة للحياء وحثًا عليه لا ليقال: ما أجلده! ولا لأنه يعاب بالجزع، ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا خوف الشماتة.
ولما كانت أفراد الشيء قد تتفاوت في الشرف، خص بالذكر أشياء مما دخل في العهد والميثاق تشريفًا لها فقال: {وأقاموا الصلاة} لأنها في الوصلة بالله كالميثاق في الوصلة بالموثق له، وقال-: {وأنفقوا} وخفف عنهم بالبعض فقال: {مما رزقناهم}- لأن الإنفاق من أعظم سبب يوصل إلى المقاصد، فهذا إنفاق من المال، وتلك إنفاق من القوى، وقال: {سرًا وعلانية} إشارة إلى الحث على استواء الحالتين تنبيهًا على الإخلاص، ويجوز أن يكون المراد بالسر ما ينبغي فيه الإسرار كالنوافل، وبالعلانية ما يندب إلى إظهاره كالواجب إلا أن يمنع مانع، وهذا تفصيل قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 3]: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] وقال: {ويدرؤون} أي يدفعون بقوة وفطنة: {بالحسنة} أي من القول أو الفعل: {السيئة} إشارة إلى ترك المجازاة أو يتبعونها إياها فتمحوها، خوفًا ورجاء وحثًا على جميع الأفعال الصالحة، فهي نتيجة أعمال البر ودرجة المقربين.
ولما ختم تلك بما يدل على ما بعد الموت ترهيبًا، ختم هذه بمثل ذلك ترغيبًا فقال: {أولئك} أي العالو الرتبة: {لهم عقبى الدار} وبينها بقوله: {جنات عدن} أي إقامة طويلة- ومنه المعدن وهي أعلى الجنان؛ ثم استأنف بيان تمكنهم فيها فقال: {يدخلونها}.
ولما كانت الدار لا تطيب بدون الحبيب، قال عاطفًا على الضمير المرفوع إشارة إلى أن النسب الخالي غير نافع: {ومن صلح} والصلاح: استقامة الحال على ما يدعو إليه العقل والشرع: {من آبائهم} أي الذين كانوا سببًا في إيجادهم: {وأزواجهم وذرياتهم} أي الذين تسببوا عنهم؛ ثم زاد في الترغيب بقوله سبحانه وتعالى: {والملائكة يدخلون عليهم} لأن الإكثار من ترداد رسل الملك أعظم في الفخر وأكثر في السرور والعز.
ولما كان إتيانهم من الأماكن المعتادة مع القدرة على غيرها أدل على الأدب والإكرام، قال: {من كل باب} يقولون لهم: {سلام عليكم} والسلام: التحية بالكرامة على انتفاء كل شائب من مضرة، وبين أن سبب هذا السلام الصبر فقال: {بما صبرتم} أي بصبركم، والذي صبرتم له، والذي صبرتم عليه، إشارة إلى أن الصبر عماد الدين كله.
ولما تم ذلك.
تسبب عنه قوله: {فنعم عقبى الدار} وهي المسكن في قرار، المهيأ بالأبنية التي يحتاج إليها والمرافق التي ينتفع بها؛ والعقبى: الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى}
فهذا إشارة إلى المثل المتقدم ذكره وهو أن العالم بالشيء كالبصير، والجاهل به كالأعمى، وليس أحدهما كالآخر، لأن الأعمى إذا أخذ يمشي من غير قائد، فالظاهر أنه يقع في البئر وفي المهالك، وربما أفسد ما كان على طريقه من الأمتعة النافعة، أما البصير فإنه يكون آمنًا من الهلاك والإهلاك.
ثم قال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} والمراد أنه لا ينتفع بهذه الأمثلة إلا أرباب الألباب الذين يطلبون من كل صورة معناها، ويأخذون من كل قشرة لبابها ويعبرون بظاهر كل حديث إلى سره ولبابه.
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ}
اعلم أن هذه الآية هل هي متعلقة بما قبلها أم لا؟ فيه قولان:
القول الأول: إنها متعلقة بما قبلها، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: أنه يجوز أن يكون قوله: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} صفة لأولي الألباب.
والثاني: أن يكون ذلك صفةً لقوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق} [الرعد: 19].
والقول الثاني: أن يكون قوله: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} مبتدأ: {وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ عقبى الدار} خبره كقوله: {والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله...أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللعنة} [الرعد: 25] واعلم أن هذه الآية من أولها إلى آخرها جملة واحدة: شرط وجزاء، وشرطها مشتمل على قيود، وجزاؤها يشتمل أيضًا على قيود.
أما القيود المعتبرة في الشرط فهي تسعة:
القيد الأول: قوله: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} وفيه وجوه: الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الذي عاهدهم عليه حين كانوا في صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى} والثاني: أن المراد بعهد الله كل أمر قام الدليل على صحته وهو من وجهين: أحدهما: الأشياء التي أقام الله عليها دلائل عقلية قاطعة لا تقبل النسخ والتغيير.
والآخر: التي أقام الله عليها الدلائل السمعية وبين لهم تلك الأحكام، والحاصل أنه دخل تحت قوله: {يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} كل ما قام الدليل عليه.
ويصح إطلاق لفظ العهد على الحجة بل الحق أنه لا عهد أوكد من الحجة والدلالة على ذلك أن من حلف على الشيء فإنما يلزمه الوفاء به، إذا ثبت بالدليل وجوبه لا بمجرد اليمين ولذلك ربما يلزمه أن يحدث نفسه إذا كان ذلك خيرًا له فلا عهد أوكد من إلزام الله تعالى إياه ذلك بدليل العقل أو بدليل السمع.
ولا يكون العبد موفيًا للعهد إلا بأن يأتي بكل تلك الأشياء كما أن الحالف على أشياء كثيرة لا يكون بارًا في يمينه إلا إذا فعل الكل، ويدخل فيه الإتيان بجميع المأمورات والانتهاء عن كل المنهيات ويدخل فيه الوفاء بالعقود في المعاملات، ويدخل فيه أداء الأمانات، وهذا القول هو المختار الصحيح في تأويل الآية.
القيد الثاني: قوله: {وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق} وفيه أقوال:
القول الأول: وهو قول الأكثرين إن هذا الكلام قريب من الوفاء بالعهد، فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق والعهد، وهذا مثل أن يقول: إنه لما وجب وجوده، لزم أن يمتنع عدمه، فهذان المفهومان متغايران إلا أنهما متلازمان، فكذلك الوفاء بالعهد يلزمه أن لا ينقض الميثاق.
واعلم أن الوفاء بالعهد من أجل مراتب السعادة.
قال عليه السلام: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له» والآيات الواردة في هذا الباب كثيرة في القرآن.
والقول الثاني: أن الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه، فالحاصل: أن قوله: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} إشارة إلى ما كلف الله العبد به ابتداء.
وقوله: {وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق} إشارة إلى ما التزمه العبد من أنواع الطاعات بحسب اختياره نفسه: كالنذر بالطاعات والخيرات.
والقول الثالث: أن المراد بالوفاء بالعهد: عهد الربوبية والعبودية، والمراد بالميثاق: المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم عند ظهوره.
واعلم أن الوفاء بالعهد أمر مستحسن في العقول والشرائع، قال عليه السلام: «من عاهد الله فغدر، كانت فيه خصلة من النفاق» وعنه عليه السلام: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيام، ومن كنت خصمه خصمته. رجل أعطى عهدًا ثم غدر، ورجل استأجر أجيرًا استوفى عمله وظلمه أجره، ورجل باع حرًا فاسترق الحر وأكل ثمنه». وقيل: كان بين معاوية وملك الروم عهد فأراد أن يذهب إليهم وينقض العهد فإذا رجل على فرس يقول: وفاء بالعهد لا غدر.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذن إليهم عهده ولا يحلها حتى ينقضي الأمد وينبذ إليهم على سواء» قال من هذا؟ قالوا: عمرو بن عيينة فرجع معاوية.
القيد الثالث: {والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} وههنا سؤال: وهو أن الوفاء بالعهد وترك نقض الميثاق اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات فما الفائدة في ذكر هذه القيود المذكورة بعدهما؟
والجواب من وجهين: الأول: أنه ذكر لئلا يظن ظان أن ذلك فيما بينه وبين الله تعالى فلا جرم أفرد ما بينه وبين العباد بالذكر.
والثاني: أنه تأكيد.
إذا عرفت هذا فنقول: ذكروا في تفسيره وجوهًا: الأول: أن المراد منه صلة الرحم قال عليه السلام: «ثلاث يأتين يوم القيامة لها ذلق الرحم تقول: أي رب قطعت، والأمانة تقول: أي رب تركت، والنعمة تقول: أي رب كفرت»
والقول الثاني: أن المراد صلة محمد صلى الله عليه وسلم ومؤازرته ونصرته في الجهاد.
والقول الثالث: رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد، فيدخل فيه صلة الرحم وصلة القرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان كما قال: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ويدخل في هذه الصلة امدادهم بإيصال الخيرات ودفع الآفات بقدر الإمكان وعيادة المريض وشهود الجنائز وإفشاء السلام على الناس والتبسم في وجوههم وكف الأذى عنهم ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة والدجاجة، وعن الفضيل بن عياض رحمه الله أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال: من أين أنتم؟ قالوا: من خراسان.
فقال: اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أن العبد لو أحسن كل الإحسان وكان له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين، وأقول حاصل الكلام: أن قوله: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق} إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله: {والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} إشارة إلى الشفقة على خلق الله.
القيد الرابع: قوله: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} والمعنى: أنه وإن أتى بكل ما قدر عليه في تعظيم أمر الله، وفي الشفقة على خلق الله إلا أنه لابد وأن تكون الخشية من الله والخوف منه مستوليًا على قلبه وهذه الخشية نوعان: أحدهما: أن يكون خائفًا من أن يقع زيادة أو نقصان أو خلل في عباداته وطاعاته، بحيث يوجب فساد العبادة أو يوجب نقصان ثوابها.
والثاني: وهو خوف الجلال وذلك لأن العبد إذا حضر عند السلطان المهيب القاهر فإنه وإن كان في غير طاعته إلا أنه لا يزول عن قلبه مهابة الجلالة والرفعة والعظمة.
القيد الخامس: قوله: {وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ} اعلم أن القيد الرابع إشارة إلى الخشية من الله وهذا القيد الخامس إشارة إلى الخوف والخشية وسوء الحساب، وهذا يدل على أن المراد من الخشية من الله ما ذكرناه من خوف الجلال والمهابة والعظمة وإلا لزم التكرار.
القيد السادس: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ} فيدخل فيه الصبر على فعل العبادات والصبر على ثقل الأمراض والمضار، والغموم والأحزان، والصبر على ترك المشتهيات وبالجملة الصبر على ترك المعاصي وعلى أداء الطاعات.
ثم إن الإنسان قد يقدم على الصبر لوجوه: أحدها: أن يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على تحمل النوازل.
وثانيها: أن يصبر لئلا يعاب بسبب الجزع.
وثالثها: أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء.
ورابعها: أن يصبر لعلمه بأن لا فائدة في الجزع فالإنسان إذا أتى بالصبر لأحد هذه الوجوه لم يكن ذلك داخلًا في كمال النفس وسعادة القلب، أما إذا صبر على البلاء لعلمه بأن ذلك البلاء قسمة حكم بها القسام العلام المنزه عن العيب والباطل والسفه، بل لابد أن تكون تلك القسمة مشتملة على حكمة بالغة ومصلحة راجحة ورضي بذلك، لأنه تصرف المالك في ملكه ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملكه أو يصبر لأنه صار مستغرقًا في مشاهدة المبلى فكان استغراقه في تجلي نور المبلى أذهله على التألم بالبلاء وهذا أعلى مقامات الصديقين، فهذه الوجوه الثلاثة هي التي يصدق عليها أنه صبر ابتغاء وجه ربه ومعناه أنه صبر لمجرد ثوابه، وطلب رضا الله تعالى.