فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)}
تفريع على جملة: {للذين استجابوا لربهم الحسنى} الآية [سورة الرعد: 13].
فالكلام لنفي استواء المؤمن والكافر في صورة الاستفهام تنبيهًا على غفلة الضالّين عن عدم الاستواء، كقوله: {أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا لا يستوون} [سورة السجدة: 18].
واستعير لمن لا يعلم أنّ القرآن حق اسمُ الأعمى لأنه انتفى علمه بشيء ظاهر بيّن فأشبه الأعمى، فالكاف للتشابه مستعمل في التماثل.
والاستواء المراد به التماثل في الفضل بقرينة ذكر العَمَى.
ولهذه الجملة في المعنى اتصال بقوله في أول السورة: {والذي أنزل إليك من ربك الحق إلى يؤمنون} [سورة الرعد: 1].
وجملة {إنما يتذكر أولوا الألباب} تعليل للإنكار الذي هو بمعنى الانتفاء بأن سبب عدم علمهم بالحق أنهم ليسوا أهلًا للتذكر لأن التذكر من شعار أولي الألباب، أي العقول.
والقصر بـ: {إنما} إضافي، أي لا غيرُ أولي الألباب، فهو تعريض بالمشركين بأنهم لا عقول لهم إذ انتفت عنهم فائدة عقولهم.
والألباب: العقول.
وتقدم في آخر سورة آل عمران.
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)}
يجوز أن تكون {الّذين يوفون الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة أولئك لَهُمْ عقبى الدار جنات} ابتداء كلام فهو استئناف ابتدائي جاء لمناسبة ما أفادت الجملة التي قبلها من إنكار الاستواء بين فريقين.
ولذلك ذكر في هذه الجمل حال فريقين في المحامد والمساوي ليظهر أن نفي التسوية بينهما في الجملة السابقة ذلك النفي المرادَ به تفضيل أحد الفريقين على الآخر هو نفي مُؤيد بالحجة، وبذلك يصير موقع هذه الجملة مفيدًا تعليلًا لنفي التسوية المقصود منه تفضيل المؤمنين على المشركين، فيكون قوله: {الذين يوفون} مسندًا إليه وكذلك ما عطف عليه.
وجُملة: {أولئك لهم عقبى الدار} مسندًا.
واجتلاب اسم الإشارة: {أولئك لهم عقبى الدار} للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما بعد اسم الإشارة من أجْل الأوصاف التي قبل اسم الإشارة، كقوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} في أول سورة البقرة [5].
ونظير هذه الجملة قوله تعالى: {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شرّ مكانًا وأضل سبيلا} [سورة الفرقان: 34] من قوله: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} [سورة الفرقان: 33].
وقد ظهر بهذه الجملة كلها وبموقعها تفضيل الذين يعلمون أن ما أنزل حق بما لهم من صفات الكمال الموجبة للفضل في الدنيا وحسن المصير في الآخرة وبما لأضدادهم من ضد ذلك في قوله: {والذين ينقضون عهد الله} إلى قوله: {ولهم سوء الدار} [سورة الرعد: 25].
والوفاء بالعهد: أن يحقّق المرء ما عاهد على أن يعمله.
ومعنى العهد: الوعد الموثّق بإظهار العزم على تحقيقه من يمين أو تأكيد.
ويجوز أن يكون {الذين يوفون بعهد الله} نعتًا لقوله: {أولوا الألباب} وتكون جملة: {أولئك لهم عقبى الدار} نعتًا ثانيًا.
والإتيان باسم الإشارة للغرض المذكور آنفًا.
وعهد الله مصدر مضاف لمفعوله، أي ما عاهدوا الله على فعله، أو من إضافة المصدر إلى فاعله، أي ما عهد الله به إليهم.
وعلى كلا الوَجهين فالمراد به الإيمان الذي أخذه الله على الخلق المشار إليه بقوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} وتقدم في سورة الأعراف [172]، فذلك عهدهم ربهم.
وأيضًا بقوله: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني} [سورة يس: 60-61]، وذلك عهد الله لهم بأن يعبدوه ولا يعبدوا غيره، فحصل العهد باعتبار إضافته إلى مفعوله وإلى فاعله.
وذلك أمر أودعه الله في فطرة البشر فنشأ عليه أصلهم وتقلّده ذريته، واستمر اعترافهم لله بأنه خالقهم.
وذلك من آثار عهد الله.
وطرأ عليهم بعد ذلك تحريف عهدهم فأخذوا يتناسون وتشتبه الأمور على بعضهم فطرأ عليهم الإشراك لتفريطهم النظر في دلائل التوحيد، ولأنه بذلك العهد قد أودع الله في فطرة العقول السليمة دلائل الوحدانية لمن تأمل وأسلم للدليل، ولكن المشركين أعرضوا وكابروا ذلك العهد القائم في الفطرة، فلا جرم أن كان الإشراك إبطالًا للعهد ونقضًا له، ولذلك عطفت جملة {ولا ينقضون الميثاق} على جملة: {يوفون بعهد الله}.
والتعريف في: {الميثاق} يحمل على تعريف الجنس فيستغرق جميع المواثيق وبذلك يكون أعم من عهد الله فيشمل المواثيق الحاصلة بين الناس من عهود وأيمان.
وباعتبار هذا العموم حصلت مغايرة ما بينه وبين عهد الله.
وتلك هي مسوغة عطف: {ولا ينقضون الميثاق} على: {يوفون بعهد اللَّه} مع حصول التأكيد لمعنى الأولى بنفي ضدها، وتعريضًا بالمشركين لاتصافهم بضد ذلك الكمال، فعطفُ التأكيد باعتبار المغايرة بالعموم والخصوص.
والميثاق والعهد مترادفان.
والإيفاء ونفي النقض متحدًا المعنى.
وابتدئ من الصفات بهذه الخصلة لأنها تنبئ عن الإيمان والإيمان أصل الخيرات وطريقها، ولذلك عطف على: {يوفون بعهد الله} قوله: {ولا ينقضون الميثاق} تحذيرًا من كل ما فيه نقضه.
وهذه الصلات صفات لأولي الألباب فعطفها من باب عطف الصفات للموصوف الواحد، وليس من عطف الأصناف.
وذلك مِثل العطف في قول الشاعر الذي أنشده الفراء في معاني القرآن:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

فالمعنى: الذين يتصفون بمضمون كل صلة من هذه الصلات كلما عرض مقتض لاتّصافهم بها بحيث إذا وجد المقتضي ولم يتصفوا بمقتضاه كانوا غير متصفين بتلك الفضائل، فمنها ما يستلزم الاتصاف بالضد، ومنها ما لا يسْتلزم إلا التفريط في الفضل.
وأعيد اسم الموصول هذا وما عطف عليه من الأسماء الموصولة، للدلالة على أنها صلاتها خصال عظيمة تقتضي الاهتمام بذكر من اتصف بها، ولدفع توهم أن عقبى الدار لا تتحقق لهم إلا إذا جمعوا كل هذه الصفات.
فالمراد بـ: {الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} ما يصدق على الفريق الذين يوفون بعهد الله.
ومناسبة عطفه أنّ وصْلَ ما أمر الله به أن يوصل أثر من آثار الوفاء بعهد الله وهو عهد الطاعة الداخل في قوله: {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} في سورة يس [61].
والوصل: ضم شيء لشيء.
وضده القطع.
ويطلق مجازًا على القُرب وضده الهجر.
واشتهر مجازًا أيضًا في الإحسان والإكرام ومنه قولهم، صلة الرحم، أي الإحسان لأجل الرحم، أي لأجل القرابة الآتية من الأرحام مباشرة أو بواسط، وذلك النسب الجائي من الأمهات.
وأطلقت على قرابة النسب من جانب الآباء أيضًا لأنها لا تخلو غالبًا من اشتراك في الأمهات ولو بَعِدْنَ.
{وما أمر الله به أن يوصل} عام في جميع الأواصر والعلائق التي أمر الله بالمودة والإحسان لأصحابها.
فمنها آصرة الإيمان، ومنها آصرة القرابة وهي صلة الرحم.
وقد اتفق المفسرون على أنها مراد الله هنا، وقد تقدم مثله عند قوله تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} في سورة البقرة [26، 27].
وإنما أطنب في التعبير عنها بطريقة اسم الموصول {ما أمر الله به أن يوصل} لما في الصلة من التعريض بأن واصلها آتتٍ بما يرضي الله لينتقل من ذلك إلى التعريض بالمشركين الذين قطعوا أواصر القرابة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه من المؤمنين وأساءوا إليهم في كل حال وكتبوا صحيفة القطيعة مع بني هاشم.
وفيها الثناء على المؤمنين بأنهم يصلون الأرحام ولم يقطعوا أرحام قومهم المشركين إلا عندما حاربوهم وناووهم.
وقوله: {أن يوصل} بدل من ضمير: {به}، أي ما أمر الله بوصله.
وجيء بهذا النظم لزيادة تقرير المقصود وهو الأرحام بعد تقريره بالموصولية.
والخشية: خوف بتعظيم المخوف منه وتقدمت في قوله تعالى: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} في سورة البقرة [45].
وتطلق على مطلق الخوف.
والخوف: ظن وقوع المضرة من شيء.
وتقدم في قوله تعالى: {إلا أن يخافا ألاّ يقيما حدود الله} في سورة البقرة [229].
{وسوء الحساب} ما يحفّ به مما يسوء المحاسَب، وقد تقدم آنفًا، أي يخافون وقوعه عليهم فيتركون العمل السيّء.
وجاءت الصلات: {الذين يوفون} و: {الذين يصلون} وما عطف عليهما بصيغة المضارع في تلك الأفعال الخمسة لإفادة التجدد كناية عن الاستمرار.
وجاءت صلة: {والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم} وما عطف عليها وهو: {وأقاموا الصلاة وأنفقوا} بصيغة المضيّ لإفادة تحقق هذه الأفعال الثلاثة لهم وتمكنها من أنفسهم تنويهًا بها لأنها أصول لفضائل الأعمال.
فأما الصبر فلأنه ملاك استقامة الأعمال ومصدرها فإذا تخلق به المؤمن صدرت عنها لحسنات والفضائل بسهولة، ولذلك قال تعالى: {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [سورة العصر: 2 3].
وأما الصلاة فلأنها عماد الدين وفيها ما في الصبر من الخاصية لقوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} وقوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [سورة البقرة: 45].
وأما الإنفاق فأصله الزكاة، وهي مقارنة للصلاة كلما ذكرت، ولها الحظ الأوفى من اعتناء الدين بها، ومنها النفقات والعطايا كلها، وهي أهم الأعمال، لأن بذل المال يشق على النفوس فكان له من الأهمية ما جعله ثانيًا للصلاة.
ثم أعيد أسلوب التعبير بالمضارع في المعطوف على الصلة وهو قوله: {ويدرءون بالحسنة السيئة} لاقتضاء المقام إفادة التجدد إيماء إلى أن تجدد هذا الدرء ما يُحرص عليه لأن الناس عرضة للسيئات على تفاوت، فوُصف لهم دواء ذلك بأن يدعوا السيّئات بالحسنات.