فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} ظاهره شمول كل ما أمر الله بصلته، ونهى عن قطعه من حقوق الله وحقوق عباده، ويدخل تحت ذلك صلة الأرحام دخولًا أوّليًا، وقد قصره كثير من المفسرين على صلة الرحم، واللفظ أوسع من ذلك: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} خشية تحملهم على فعل ما وجب، واجتناب ما لا يحلّ: {وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ} وهو الاستقصاء فيه والمناقشة للعبد، فمن نوقش الحساب عذب، ومن حق هذه الخيفة أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
{وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ} قيل: هو كلام مستأنف، وقيل: معطوف على ما قبله، والتعبير عنه بلفظ المضيّ للتنبيه على أنه ينبغي تحققه، والمراد بالصبر الصبر على الإتيان بما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه.
وقيل: على الرزايا والمصائب، ومعنى كون ذلك الصبر لابتغاء وجه الله: أن يكون خالصًا له، لا شائبة فيه لغيره: {وأقاموا الصلاة} أي: فعلوها في أوقاتها على ما شرعه الله سبحانه في أذكارها وأركانها مع الخشوع والإخلاص، والمراد بها الصلوات المفروضة، وقيل أعمّ من ذلك: {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أي: أنفقوا بعض ما رزقناهم، والمراد بالسرّ: صدقة النفل، والعلانية: صدقة الفرض؛ وقيل: السرّ لمن لم يعرف بالمال، أو لا يتهم بترك الزكاة، والعلانية لمن كان يعرف بالمال أو يتهم بترك الزكاة: {وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة} أي: يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه كما في قوله تعالى: {ادفع بالتى هي أَحْسَنُ} [فصلت: 34]، أو يدفعون بالعمل الصالح العمل السيء، أو يدفعون الشرّ بالخير، أو المنكر بالمعروف، أو الظلم بالعفو، أو الذنب بالتوبة، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصوفين بالصفات المتقدّمة: {لَهُمْ عقبى الدار} العقبى مصدر كالعاقبة؛ والمراد بالدار الدنيا، وعقباها الجنة؛ وقيل: المراد بالدار الدار الآخرة، وعقباها الجنة للمطيعين، والنار للعصاة.
{جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} بدل من عقبى الدار أي: لهم جنات عدن، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره يدخلونها، والعدن أصله الإقامة، ثم صار علمًا لجنة من الجنان.
قال القشيري: وجنات عدن: وسط الجنة وقصبتها وسقفها عرش الرحمن، ولكن في صحيح البخاري وغيره: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة»
{وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ} يشمل الآباء والأمهات: {وأزواجهم وذرياتهم} معطوف على الضمير في يدخلون، وجاز ذلك للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، أي: ويدخلها أزواجهم وذرياتهم، وذكر الصلاح دليل على أنه لا يدخل الجنة إلاّ من كان كذلك من قرابات أولئك، ولا ينفع مجرد كونه من الآباء أو الأزواج، أو الذرية بدون صلاح: {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ} أي: من جميع أبواب المنازل التي يسكنونها، أو المراد من كل باب من أبواب التحف والهدايا من الله سبحانه.
{سلام عَلَيْكُمُ} أي: قائلين سلام عليكم أي: سلمتم من الآفات أو دامت لكم السلامة: {بِمَا صَبَرْتُمْ} أي بسبب صبركم وهو متعلق بالسلام أي: إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم أو متعلق بعليكم، أو بمحذوف أي: هذه الكرامة بسبب صبركم أو بدل ما احتملتم من مشاقّ الصبر: {فَنِعْمَ عقبى الدار} جاء سبحانه بهذه الجملة المتضمنة لمدح ما أعطاهم من عقبى الدار المتقدّم ذكرها للترغيب والتشويق.
ثم اتبع أحوال السعداء بأحوال الأشقياء، فقال: {والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} وقد مرّ تفسير عدم النقض وعدم القطع فعرف منهما تفسير النقض والقطع، ولم يتعرض لنفي الخشية والخوف عنهم وما بعدهما من الأوصاف المتقدّمة لدخولها في النقض والقطع: {وَيُفْسِدُونَ في الأرض} بالكفر وارتكاب المعاصي والأضرار بالأنفس والأموال: {أولئك} الموصوفون بهذه الصفات الذميمة: {لَهُمْ} بسبب ذلك: {اللعنة}: أي: الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه: {وَلَهُمْ سُوء الدار} أي: سوء عاقبة دار الدنيا، وهي النار أو عذاب النار.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق} قال: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه: {كَمَنْ هُوَ أعمى} قال: عن الحق فلا يبصره ولا يعقله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} فبين من هم، فقال: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير: {أولوا الألباب} قال: من كان له لبّ، أي: عقل.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة أن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين آية من القرآن.
وأخرج الخطيب، وابن عساكر عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن البرّ والصلة ليخففان سوء الحساب يوم القيامة. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ}».
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: {والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} يعني: من إيمان بالنبيين وبالكتب كلها: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} يعني: يخافون من قطيعة ما أمر الله به أن يوصل: {وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ} يعني: شدّة الحساب.
وقد ورد في صلة الرحم وتحريم قطعها أحاديث كثيرة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، أبو الشيخ عن الضحاك: {وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة} قال: يدفعون بالحسنة السيئة.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله: {جنات عَدْنٍ} قال: بطنان الجنة، يعني: وسطها.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن عمر قال لكعب: ما عدن؟ قال: هو قصر في الجنة لا يدخله إلاّ نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حكم عدل.
وأخرج ابن مردويه عن عليّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جنة عدن قضيب غرسه الله بيده، ثم قال له: كن فكان» وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ} قال: من آمن في الدنيا.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني في قوله: {سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} قال: على دينكم: {فَنِعْمَ عقبى الدار} قال: نعم ما أعقبكم الله من الدنيا في الجنة.
وأخرج أحمد، والبزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، وصححه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوّل من يدخل الجنة من خلق الله فقراء المهاجرين الذين تسدّ بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال الله: إن هؤلاء عبادي كانوا يعبدونني ولا يشركون بي شيئًا، وتسدّ بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب: {سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار}»
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي أمامة: «إن المؤمن ليكون متكئًا على أريكة إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم، وعند طرف السماطين باب مبوّب، فيقبل الملك فيستأذن، فيقول أقصى الخدم للذي يليه: ملك يستأذن، ويقول الذي يليه: ملك يستأذن، حتى يبلغ المؤمن، فيقول: ائذنوا له، فيقول أقربهم إلى المؤمن: ائذنوا له، ويقول الذي يليه للذي يليه: ائذنوا له حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له فيدخل ويسلم عليه، ثم ينصرف». وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {وَلَهُمْ سُوء الدار} قال: سوء العاقبة. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}
أخرج أبو الشيخ عن ميمون بن مهران رضي الله عنه قال: قال لي عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه-: لا تؤاخين قاطع رحم؛ فإني سمعت الله لعنهم في سورتين: في سورة الرعد وسورة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله: {ولهم سوء الدار} قال: سوء العاقبة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}
قوله تعالى: {والذين يَنقُضُونَ}: مبتدأ، والجملة مِنْ قوله: {أولئك لَهُمُ اللعنة} خبرُه. والكلامُ في اللعنةِ كالكلامِ في: {لَهُمْ عقبى الدار} [الرعد: 22]. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)}
مَنْ كفر بعد إيمانه نَقَضَ عهدَ الإسلام في الظاهر، ومن رجع إلى أحكام العادة بعد سلوكه طريق الإرادة، فقد نقض عَهْدَه في السَّرَّاء... فهذا مُرْتَدٌّ جهرًا، وهذا مرتَدٌّ سِرًّا، والمرتد جهرًا عقوبته قطعُ رأسِه، والمرتد سِرًّا عقوبته قَطْعُ سِرِّه.
وقوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}، هو نقض قوله: {يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} [الرعد: 21].
ويقال نقض العهد هو الاستعانة بالأغيار، وتَرْكُ الاكتفاء بالله الجبّار.
ويقال نَقْضُ العهد الرجوع إلى الاختيار والتدبير بعد شهودِ الأقدار، وملاحظة التقدير.
ويقال نقض العهد بِتَرْكِ نَفْسِه، ثم يعود إلى ما قال بتركه. اهـ.

.تفسير الآيات (26- 29):

قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ (29)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تقدم الحث العظيم على الإنفاق، وأشير إلى أنه من أوثق الأسباب في الوصلة لجميع أوامر الله، وختم بأن للكافر البعد والطرد عن كل خير والسوء، كان موضع أن يقول الكفار: ما لنا يوسع علينا مع بعدنا ويضيق على المؤمن مع وصله واتصاله، وما له لا يبسط له رزقه ليتمكن من إنفاذ ما أمر به إن كان ذلك حقًا؟ فقيل: {الله} أي الذي له الكمال كله: {يبسط الرزق} ودل على تمام قدرته سبحانه وتعالى بقوله- جلت قدرته-: {لمن يشاء} فيطيع في رزقه أو يعصي: {ويقدر} على من يشاء فيجعل رزقه بقدر ضرورته فيصبر أو يجزع لِحكَم دقت عن الأفكار، ثم يجعل ما للكافر سببًا في خذلانه، وفقر المؤمن موجبًا لعلو شأنه، فليس الغنى مما يمدح به، ولا الفقر مما يذم به، وإنما يمدح ويذم بالآثار.
ولما كانت السعة مظنة الفرح إلا عند من أخلصه الله وهم أقل من القليل، قال عائبًا لمن اطمأن إليها: {وفرحوا} أي فبسط لهؤلاء الرزق فبطروا وكفروا وفرحوا: {بالحياة الدنيا} أي بكمالها؛ والفرح: لذة في القلب بنيل المشتهى.
ولما كانت الدنيا متلاشية في جنب الدار التي ختم بها للمتقين، قال زيادة في الترغيب والترهيب: {وما الحياة الدنيا في الآخرة} أي في جنبها: {إلا متاع} أي حقير متلاش؛ قال الرماني: والمتاع: ما يقع به الانتفاع في العاجل، وأصله: التمتع وهو التلذذ بالأمر الحاضر.
ولما كان العقل أعظم الأدلة، وتقدم أنه مقصور على المتذكرين، إشارة إلى أن من عداهم بقر سارحة، وعرف أن ما دعا إليه الشرع هو الصلاح، وضده هو الفساد، وكان العقل إنما هو لمعرفة الصلاح فيتبع، والفساد فيجتنب، وكان الطالب لإنزال آية إلى غير ذلك لاسيما بعد آيات متكاثرة ودلالات ظاهرة موضعًا لأن يعجب منه، قال على سبيل التعجب عطفًا على قوله: {وفرحوا} مظهرًا لما من شأنه الإضمار تنبيهًا على الوصف الذي أوجب لهم التعنت: {ويقول الذين كفروا} أي ستروا ما دعتهم إليه عقولهم من الخير وما لله من الآيات عنادًا: {لولا} أي هلا ولم لا.
ولما كان ما تحقق أنه من عند الملك لا يحتاج إلى السؤال عن الآتي به، بني للمفعول قوله: {أنزل عليه} أي هذا الرسول صلى الله عليه وسلم: {آية} أي علامة بينة: {من ربه} أي المحسن إليه بالإجابة لما يسأله لنهتدي بها فنؤمن به، وأمره بالجواب عن ذلك بقوله: {قل} أي لهؤلاء المعاندين: ما أشد عنادكم حيث قلتم هذا القول الذي تضمن إنكاركم لأن يكون نزل إلى آية مع أنه لم يؤت أحد من الآيات مثل ما أوتيت، فعلم قطعًا أنه ليس إنزال الآيات سببًا للايمان بل أمره إلى الله: {إن الله} أي الذي لا أمر لأحد معه: {يضل من يشاء} إضلاله ممن لم ينب، بل أعرض عن دلالة العقل ونقض ما أحكمه من ميثاق المقدمات المنتجة للقطع بحقية ما دعت إليه الرسل لما جبل عليه قلبه من الغلظة، فصار بحيث لا يؤمن ولو نزلت عليه كل آية، لأنها كلها متساوية الأقدام في الدعوة إلى ما دعا إليه العقل لمن له عقل، وقد نزل قبل هذا آيات متكاثرة دالات أعظم دلالة على المراد: {ويهدي} عند دعاء الداعين: {إليه} أي طاعته.
بمجرد دليل العقل من غير طلب آية: {من أناب} أي من كان قلبه ميالًا مع الأدلة رجاعًا إليها لأنه شاء إنابته كأبي بكر الصديق وغيره ممن تبعه من العشرة المشهود لهم بالجنة وغيرهم، ثم أبدل منهم: {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف: {وتطمئن قلوبهم} أي تسكن وتستأنس إلى الدليل بعد الاضطراب بالشكوك لإيجادهم الطمأنينة بعد صفة الإيمان إيجادًا مستمرًا دالًا على ثبات إيمانهم لترك العناد، وهذا المضارع في هذا التركيب مما لا يراد به حال ولا استقبال، إنما يراد به الاستمرار على المعنى مع قطع النظر عن الأزمنة: {بذكر الله} الذي هو أعظم الآيات في أن المذكور مستجمع لصفات الكمال، فالآية من الاحتباك: ذكر المشيئة أولًا دال على حذفها ثانيًا، وذكر الإنابة ثانيًا دال على حذف ضدها أولًا.
ولما كان ذلك موضع أن يقول المعاند: ومن يطمئن بذلك؟ فقال: {ألا بذكر الله} أي الذي له الجلال والإكرام، لا بذكر غيره: {تطمئن القلوب} فتسكن عن طلب غيره آية غيره، والذكر: حضور المعنى للنفس، وذلك إشارة إلى أن من لم يطمئن به فليس له قلب فضلًا عن أن يكون في قلبه عقل، بل هو من الجمادات، أو إلى أن كل قلب يطمئن به، فمن أخبر عن قلبه بخلاف ذلك فهو كاذب معاند، ومن أذعن وعمل بموجب الطمأنينة فهو مؤمن، ثم أخبر عما لهذا القسم بقوله: {الذين آمنوا} أي أوجدوا وصف الإيمان: {وعملوا} أي تصديقًا لدعواهم الإيمان: {الصالحات} لطمأنينة قلوبهم إلى الذكر: {طوبى لهم} أي خير وطيب وسرور وقرة عين: {وحسن مآب} فكان ذلك مفهمًا لحال القسم الآخر، فكأنه قيل: ومن لم يطمئن أو اطمأن قلبه ولم يذعن بؤسي لهم وسوء مآب. اهـ.