فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ}
ولما كان كثير من الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، والكفر والإيمان لا تعلق لهما بالرزق.
قد يقدر على المؤمن ليعظم أجره، ويبسط للكافر إملاء لازدياد آثامه.
ويقدر مقابل يبسط، وهو التضييق من قوله: {ومن قدر عليه رزقه} وعليه يحمل: {فظن أنْ لن نقدر عليه} وقول ذلك الذي أحرق وذري في البحر: لئن قدر الله على أي لئن ضيق.
وقيل: يقدر يعطي بقدر الكفاية.
وقرأ زيد بن علي: ويقدر بضم الدال، حيث وقع والضمير في فرحوا عائد على الذين ينقضون، وهو استئناف إخبار عن جهلهم بما أوتوا من بسطة الدنيا عليهم، وفرحهم فرح بطر وبسط لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة بفضل الله به، واستجهلهم بهذا الفرح إذ هو فرح بما يزول عن قريب وينقضي.
ويبعد قول من ذهب إلى أنه معطوف على صلات.
والذين ينقضون أي: يفسدون في الأرض، وفرحوا بالحياة الدنيا.
وفي الكلام تقديم وتأخير.
ومتاع: معناه ذاهب مضمحل يستمتع به قليلًا ثم يفنى.
كما قال الشاعر:
تمتع يا مشعث إن شيئًا ** سبقت به الممات هو المتاع

وقال آخر:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ** غير أن لا بقاء للإنسان

وقال آخر:
تمتع من الدنيا فإنك فان ** من النشوات والنساء الحسان

قال الزمخشري: خفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئًا نذرًا، يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك انتهى.
وهذا معنى قول الحسن: أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الحياة الدنيا في جنب ما أعد الله لأوليائه في الآخرة نذر ليس يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك.
وقال ابن عباس: زاد كزاد الرعي.
وقال مجاهد: قليل ذاهب من متع النهار إذا ارتفع فلابد له من زوال.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}
نزلت: ويقول الذين كفروا، في مشركي مكة، طلبوا مثل آيات الأنبياء.
والملتمس ذلك هو عبد الله بن أبي أمية وأصحابه، رد تعالى على مقترحي الآيات من كفار قريش كسقوط السماء عليهم كسفًا.
وقولهم: سير علينا الأخشبين، واجعل لنا البطاح محارث ومغترسًا كالأردن، وأحي لنا مضينا وأسلافنا، ولم تجر عادة الله في الإتيان بالآيات المقترحة إلا إذا أراد هلاك مقترحها، فرد تعالى عليهم بأن نزول الآية لا يقتضي ضرورة إيمانكم وهداكم، لأنّ الأمر بيد الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف يطابق قولهم: لولا أنزل عليه آية من ربه، قل إن الله يضل من يشاء؟ قلت: هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبي قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية، فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها وجعلوه كأنه لم ينزل عليه قط كان موضع التعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم إن الله يضل من يشاء، فمن كان على صفتكم من التصميم وشدة التسليم في الكفر فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن أنزلت كل آية، ويهدي إليه من كان على خلاف صفتكم.
وقال أبو علي الجبائي: يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره، ويهدي إليه من أناب أي: إلى جنته من أناب أي: من تاب.
والهدى تعلقه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه، وذلك يدل على أنه يضل عن الثواب بالعقاب، لا عن الدين بالكفر، على ما ذهب إليه من خالفنا انتهى.
وهي على طريقة الاعتزال.
والضمير في إليه عائد على القرآن، أو على الرسول-صلى الله عليه وسلم-.
والظاهر أنه عائد على الله تعالى على حذف مضاف أي: إلى دينه وشرعه.
وأناب أقبل إلى الحق، وحقيقته دخل في توبة الخير.
والذين آمنوا: بدل من أناب.
واطمئنان القلوب سكونها بعد الاضطراب من خشيته.
وذكر الله ذكر رحمته ومغفرته، أو ذكر دلائله على وحدانيته المزيلة لعلف الشبه.
أو تطمئن بالقرآن، لأنه أعظم المعجزات تسكن به القلوب وتنتبه.
ثم ذكر الحض على ذكر الله وأنه به تحصل الطمأنينة ترغيبًا في الإيمان، والمعنى: أنه بذكره تعالى تطمئن القلوب لا بالآيات المقترحة، بل ربما كفر بعدها، فنزل العذاب كما سلف في بعض الأمم.
وجوزوا في الذين أن يكون بدلًا من الذين، وبدلًا من القلوب على حذف مضاف أي: قلوب الذين، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين، وأن يكون مبتدأ خبره ما بعده.
وطوبى: فعل من الطيب، قلبت ياؤه واوًا لضمة ما قبلها كما قلبت في موسر، واختلفوا في مدلولها: فقال أبو الحسن الهنائي: هي جمع طيبة قالوا في جمع كيسة كوسى، وصيفة صوفى.
وفعلى ليست من ألفاظ الجموع، فلعله يعني بها اسم جمع.
وقال الجمهور: هي مفرد كبشرى وسقيا ورجعى وعقبى، واختلف القائلون بهذا في معناها.
فقال الضحاك: المعنى غبطة لهم.
وعنه أيضًا: أصبت خيرًا.
وقال عكرمة: نعمى لهم.
وقال ابن عباس: فرح وقرة عين.
وقال قتادة: حسنى لهم.
وقال النخعي: خير لهم، وعنه أيضًا كرامة لهم.
وعن سميط بن عجلان: دوام الخير.
وهذه أقوال متقاربة، والمعنى العيش الطيب لهم.
وعن ابن عباس، وابن جبير: طوبى اسم للجنة بالحبشية.
وقيل: بلغة الهند.
وقال أبو هريرة، وابن عباس أيضًا، ومعتب بن سمي، وعبيد بن عمير، ووهب بن منبه: هي شجرة في الجنة.
وروي مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عتبة بن عبيد السلمي أنه قال، وقد سأله أعرابي: يا رسول الله أفي الجنة فاكهة؟ قال: «نعم فيها شجرة تدعى طوبى» وذكر الحديث.
قال القرطبي: الصحيح أنها شجرة للحديث المرفوع حديث عتبة، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي، وذكره أبو عمر في التمهيد والثعلبي.
وطوبى: مبتدأ، وخبره لهم.
فإن كانت علمًا لشجرة في الجنة فلا كلام في جواز الابتداء، وإن كانت نكرة فمسوغ الابتداء بها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم: سلام عليك، إلا أنه التزم فيه الرفع على الابتداء، فلا تدخل عليه نواسخه هكذا قال: ابن مالك.
ويرده أنه قرئ: {وحسن مآب} بالنصب، قرأه كذلك عيسى الثقفي، وخرج ذلك ثعلب على أنه معطوف على {طوبى}، وأنها في موضع نصب، {وحسن مآب} معطوف عليها.
قال ثعلب: و{طوبى} على هذا مصدر كما قالوا: سقيا.
وخرجه صاحب اللوامح على النداء قال: بتقدير يا طوبى لهم، ويا حسن مآب.
فحسن معطوف على المنادى المضاف في هذه القراءة، فهذا نداء للتحنين والتشويق كما قال: يا أسفي على الفوت والندبة انتهى.
ويعني بقوله: معطوف على المنادى المضاف، أنّ طوبى مضاف للضمير، واللام مقحمة كما أقحمت في قوله: يا بؤس للجهل ضرارًا لأقوام، وقول الآخر: يا بؤس للحرب التي، ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل: يا طوباهم وحسن مآب أي: ما أطيبهم وأحسن مآبهم، كما تقول: يا طيبها ليلة أي: ما أطيبها ليلة.
وقرأ بكرة الأعرابي طيبي بكسر الطاء، لتسلم الياء من القلب، وإن كان وزنها فعلى، كما كسروا في بيض لتسلم الياء، وإن كان وزنها فعلًا كحمر.
وقال الزمخشري: أصبت خيرًا وطيبًا، ومحلها النصب أو الرفع كقولك: طيبًا لك، وطيب لك، وسلامًا لك، وسلام لك، والقراءة في قوله: {وحسن مآب} بالرفع والنصب بذلك على محلها، واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك.
وقرئ: {وحسن مآب} بفتح النون، ورفع {مآب}.
فحسن فعل ماض أصله وحسن نقلت ضمة سينه إلى الحاء، وهذا جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا: حسن ذا أدبًا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{الله يَبْسُطُ الرزق} أي يوسّعه: {لِمَن يَشَاء} من عباده: {وَيَقْدِرُ} أي يضيّقه على ما يشاء حسبما تقتضيه الحكمةُ من غير أن يكون لأحد مدخلٌ في ذلك ولا شعورٌ بحكمته فربما يبسُطه للكافر إملاءً واستدراجًا وربما يضّيقه على المؤمن زيادةً لأجره فلا يُغترَّ ببسطه للكافر كما لا يَقنط بقدره المؤمنُ: {وَفَرِحُواْ} أي أهلُ مكة فرَحَ أشَرٍ وبطر، لا فرحَ سرورٍ بفضل الله تعالى: {بالحياة الدنيا} وما بُسط لهم فيها من نعيمها: {وَمَا الحياة الدنيا} وما يتبعها من النعيم: {فِى الآخرة} أي في جنب نعيمِ الآخرة: {إِلاَّ متاع} إلا شيءٌ نزْرٌ يُتمتع به كعُجالة الراكب وزادِ الراعي، والمعنى أنهم رضُوا بحظ الدنيا معرِضين عن نعيم الآخرةِ، والحالُ أن ما أشِروا به في جنب ما أعرضوا عنه شيءٌ قليل النفع سريعُ النفاد.
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ} أي أهلُ مكة، وإيثارُ هذه الطريقة على الإضمار مع ظهور إرادتِهم عقيبَ ذكرِ فرحِهم بالحياة الدنيا لذمهم والتسجيلِ عليهم بالكفر فيما حُكي عنهم من قولهم: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} فإن ذلك في أقصى مراتبِ المكابرةِ والعِناد كأن ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام من الآيات العظامِ الباهرةِ ليس بآية حتى اقترحوا ما تقتضيه الحِكمةُ من الآيات المحسوسةِ التي لا يبقى لأحد بعد ذلك طاقةٌ بعدم القَبول ولذلك أُمر في الجواب بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء} إضلالَه مشيئةً تابعة للحكمة الداعيةِ إليها أي يخلُق فيه الضلال لصرفه اختيارَه إلى تحصيله ويدعُه منهمكًا فيه لعلمه بأنه لا ينجَع فيه اللطفُ ولا ينفعه الإرشاد، كمن كان على صفتكم في المكابرة والعِناد وشدةِ الشكيمةِ والغلوِّ في الفساد، فلا سبيل له إلى الاهتداء ولو جاءتْه كلُّ آية: {وَيَهْدِى إِلَيْهِ} أي إلى جنابه العليِّ الكبير هدايةً موصِلةً إليه لا دَلالةً مطلقة على ما يوصِل إليه فإن ذلك غيرُ مختصٍ بالمهتدين، وفيه من تشريفهم ما لا يوصف: {مَنْ أَنَابَ} أقبل إلى الحق وتأملَ في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحةِ، وحقيقةُ الإنابة الدخولُ في نوبة الخير، وإيثارُ إيرادِها في الصلة على إيراد المشيئةِ كما في الصلة الأولى لا للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها والإشعارِ بما دعا إلى المشيئة الأولى من المكابرة، وفيه حث للكفرة على الأقلاع عما هم عليه من العتو والعِناد، وإيثارُ صيغةِ الماضي للإيماء إلى استدعاء الهدايةِ لسابقة الإنابة كما أن إيثارَ صيغةِ المضارعِ في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئةِ حسب استمرار مكابرتهم.
{الذين ءامَنُواْ}
بدل ممن أناب فإن أريد بالهداية الهدايةُ المستمرةُ فالأمر ظاهر لظهور كونِ الإيمانِ مؤديًا إليها، وإن أريد إحداثُها فالمراد بالذين آمنوا الذين صار أمرُهم إلى الإيمان كما في قوله تعالى: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} أي الصائرين إلى التقوى وإلا فالإيمانُ لا يؤدّي إلى الهداية نفسها، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هم الذين آمنوا أو منصوب على المدح: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} أي تستقر وتسكُن: {بِذِكْرِ الله} بكلامه المعجزِ الذي لا ريب فيه كقوله تعالى: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أنزلناه} وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} ويعلمون أن لا آيةَ أعظمُ منه فيقترحوها، والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لإفادة دوامِ الاطمئنان وتجدّده حسبَ تجدّدِ الآيات وتعددها: {أَلاَ بِذِكْرِ الله} وحده: {تَطْمَئِنُّ القلوب} دون غيرِه من الأمور التي تميل إليها النفوسُ من الدنيويات، وهذا ظاهر، وأما سائرُ المعجزات فالقصرُ من حيث إنها ليست في إفادة الطُّمأنينة بالنسبة إلى من لم يشاهدْها بمثابة القرآنِ المجيدِ فإنه معجزةٌ باقية إلى يوم القيامة يشاهدها كلُّ أحد وتطمئن به القلوبُ كافة، وفيه إشعارٌ بأن الكفرةَ ليست لهم قلوبٌ تفقه وأفئدتُهم هواءٌ حيث لم يطمئنوا بذكر الله تعالى ولم يعدّوه آيةً وهو أظهرُ الآياتِ وأبهرُها، وقيل: تطمئن قلوبُهم بذكر رحمتِه ومغفرتِه بعد القلق والاضطرابِ من خشية الله كقوله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} أو بذكر دلائلِه الدالةِ على وحدانيته أو بذكره جل وعلا أُنسًا به وتبتلًا إليه فالمرادُ بالهداية دوامُها واستمرارُها.
{الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} بدلٌ من القلوب على حذف المضافِ بدلَ الكلِّ حسبما رُمز إليه أي قلوبُ الذين آمنوا، وفيه إيماءٌ إلى أن الإنسان إنما هو القلبُ، أو مبتدأٌ خبرُه الجملة الدعائيةُ على التأويل أعني قوله: {طوبى لَهُمْ} أو خبرُ مبتدإٍ مضمر، أو نُصب على المدح فطوبى لهم حالٌ عاملُها الفعلان وطوبى مصدرٌ من طاب كبُشرى وزُلفى، والواوُ منقلبةٌ من الياء كموقن وموسر وقرأ مكوزة الأعرابي طيبى لتسلم الياء، والمعنى أصابوا خيرًا ومحلُّها النصبُ كسلامًا لك أو الرفعُ على الابتداء وإن كانت نكرةً لكونها في معنى الدعاء كسلامٌ عليك، يدل على ذلك القراءة في قوله تعالى: {وَحُسْنُ مَئَابٍ} بالنصب والرفع واللامُ في لهم للبيان مثلها في سُقيًا لك. اهـ.