فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)}
التفسير:
لما خوّف عباده بإنزال ما لا مردَّ له أتبعه دلائل تشبه اللطف من بعض الوجوه والقهر من بعضها وهي أربعة: البرق والسحاب والرعد والصاعقة. وقد مر في أوّل سورة البقرة تفسير هذه الألفاظ وقول الحكماء في أسباب حدوثها. وانتصاب: {خوفًا وطعمًا} إما على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع والتقدير ذا خوف وطمع، أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين، وإما على أنه مفعول له على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع. وإنما وجب تقدير المضاف ليكون فعلًا لفاعل الفعل المعلل كما هو شرط نصب المفعول له. ومعنى الخوف والطمع من وقوع الصواعق والطمع في نزول الغيث. وقيل: يخاف المطر من له فيه ضرر إما بحسب الزمان وإما بحسب المكان، فمن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر ويطمع فيه من له فيه نفع. وعن ابن عباس أن اليهود سألت النبي عن الرعد فقال: ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب. فعلى هذا الصوت المسموع هو صوت ذلك الملك الموكل المسمى بالرعد. وعن الحسن. خلق الله ليس بملك. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينشئ السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك فنطقه الرعد وضحكه البرق» وهذا غير مستبعد من قدرة الله وخصوصًا عند من لا يجعل البنية شرطًا في الحياة. وقيل: المضاف محذوف أي يسبح سامعو الرعد من العباد الراجلين للمطر حامدين له أو متلبسين بسبحان الله والحمد لله. وعن علي رضي الله عنه: سبحان من سبحت له. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا اشتد الرعد: «اللَّهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» وقيل: معنى تسبيح الرعد أن هذا الصوت المخصوص لهوله ومهابته يدل على وجود إله قهار كقوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44]. قال في الكشاف: ومن بدع المتصوّفة الرعد صعقات الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم. والمطر بكاؤهم. أما قوله: {والملائكة من خيفته} أي ويسبح الملائكة من هيبته وجلاله فقد ذكر جمع من المفسرين أنه عنى بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد فإنه سبحانه جعل له أعوانًا. قال ابن عباس: إنهم خائفون من الله لا كخوف ابن آدم فإن أحدهم لا يعرف من على يمينه ومن على يساره ولم يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء. وقالت الحكماء: إنما تتم الآثار العلوية بقوى روحانية فلكية، فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار فهذا هو المراد بالملائكة في الآية. قوله: {ويرسل الصواعق} قد عرفت أنها نار تتولد من السحاب وتنزل بقوّة شديدة فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان. ووجه الاستدلال بها على الصانع أن النار حارة يابسة وطبيعة السحاب يغلب عليها الرطوبة والبرودة للأجزاء المائية فيه، وحصول الضد من الضد لا يكون بالطبع وإنما يكون بتدبير القادر المختار وتسخيره.
ولما بين دلائل كمال العلم في قوله: {والله يعلم} ودلائل كمال القدرة في هذه الآية قال: {وهم يجادلون في الله} لأن إنكار المدلول بعد وضوح الدليل جدال بالباطل وعناد محض، ويحتمل أن تكون الواو للحال أي فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم ويؤكده ما روي عن ابن عباس في رواية أبي صالح وابن جريج وابن زيد أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد بن ربيعة أقبلا يريدان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل من أصحابه. يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك. فقال: دعه فإن يردِ الله به خيرًا يهده. فأقبل حتى قام عليه فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت. فقال: لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم. قال تجعل لي الأمر بعدك. قال: لا ليس ذلك إلى إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء قال: فتجعلني على الوبر وأنت على المدر. قال: لا.
قال: فماذا تجعل لي؟ قال: أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها. قال: أوليس ذلك إلى اليوم؟ وكان أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر عليه من خلفه فاضربه بالسيف. فجعل يخاصم رسول الله ويراجعه ويجادل في الله يقول أخبرني عن ربك أمن نحاس هو أم من حديد، فدار أربد خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه فاخترط من سيفه شبرًا ثم حبسه الله فلم يقدر على سله، وجعل عامر يومئ إليه فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع بسيفه فقال: اللَّهم أكنفيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته وولى عامر هاربًا وقال: يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلًا جردًا وفرسانًا مردًا. فقال رسول الله: يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة- يريد الأوس والخزرج- فنزل عامر بيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم عليه سلاحه وخرج وهو يقول: واللات لئن أصحر إلى محمد وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذنهما برمحي فأرسل الله إليه ملكًا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب وخرجت على ركبته غدة في الوقت عظيمة فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: أغدّة كغدة البعير وموت في بيت السلولية؟ ثم مات على ظهر فرسه وأنزل الله الآية في هذه القصة. قوله: {وهو شديد المحال} معناه شديد المكر والكيد لأعدائه، والمماحلة شدة المماكرة ومنه تمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه، ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان ومنه الحديث: «اللَّهم اجعله- أي القرآن- لنا شافعًا مشفعًا ولا تجعله علينا ماحلًا مصدّقًا» ومن سنة المحل لشدتها وصعوبة أمرها. وأما عبارات المفسرين فقال مجاهد وقتادة: شديد القوّة. أبو عبيدة: شديد العقوبة. الحسن: شديد النقمة. وقيل: شديد الحقد ومعناه راجع إلى إرادة إيصال الشر إلى مستحقه مع إخفاء تلك الإرادة عنه ثم أثنى على نفسه بالحقية وشهد على الأصنام بالبطلان فقال: {له دعوة الحق} فأضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف الكلمة إلى الحق والمراد أنه سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة إذا أراد فهو حقيق بأن يوجه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا فائدة في دعائه. وعن الحسن: الحق هو الله والمعنى له دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب ولهذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم في الكافرين حين دعا عليهما. وعن ابن عباس: دعوة الحق قوله لا إله إلا الله. وقيل: الدعوة العبادة فإن عبادته هي الحق والصدق وقد سلف تحقيق الحق في أوّل هذا الكتاب في تفسير البسملة. {والذين يدعون من دونه} أي الآلهة الذين يدعوهم أو يعبدهم الكفار من دون الله. {لا يستجيبون لهم بشيء} إلا استجابة كاستجابة الماء من بسط يديه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر به.
والحاصل أن الكفار وذلك الطالب كليهما مشترك في الخيبة لاشتراكهما في دعاء الجماد. وقيل: شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فبسطهما ناشرًا أصابعه فلا جرم لا يبلغ طلبته. ثم أكد خيبتهم بقوله: {وما دعاء الكافرين إلى في ضلال} في ضياع وذهاب عن المنفعة لأنهم إن دعوا الله لا يجيبهم لحقارة أمرهم عنده، وإن دعوا الآلهة لم تستطع أجابتهم.
ثم زاد في الثناء فقال: {ولله يسجد من في السموات والأرض} فإن كان السجود بمعنى وضع الجبهة فذلك ظاهر في المؤمنين لأنهم يسجدون له: {طوعًا} أي بسهولة ونشاط: {وكرهًا} أي على تعب واصطبار ومجاهدة. وأما في حق الكفار فمشكل ووجهه أن يقال: المراد حق له أن يسجد لأجله جميع المكلفين من الملائكة والثقلين فعبر عن الوجوب بالوقوع، وإن كان بمعنى الانقياد والخضوع والاعتراف بالإلهية وترك الامتناع عن نفوذ مشيئته فيهم فلا إشكال نظيره قوله: {وله أسلم من في السموات والأرض} [آل عمران: 83] وقد مر في آل عمران أما قوله: {وظلالهم} فقد قال جمع المفسرين. كمجاهد والزجاج وابن الأنباري: لا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهامًا تسجد بها لله وتخضع له كما جعل للجبال أفهامًا حتى اشتغلت بتسبيحه فظل المؤمن يسجد لله طوعًا وهو طائع وظل الكافر يسجد لغير الله كرهًا ويسجد لله طوعًا. وقال آخرون: المراد من سجود الظلال تقلصها وامتدادها بحسب ارتفاع الشمس وانحطاطها فهي منقادة مستسلمة لما أتاح لله لها في الأحوال. وتخصيص الغدوّ والآصال بالذكر لغاية ظهورها وازديادها في الوقتين. ومعنى الغدّو والآصال قد مر في آخر الأعراف. واعلم أنه سبحانه ذكر آية السجدة في النحل بعبارة أخرى فقال: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة} [الآية: 49] لأنه تقدم ذكر ما خلق الله على العموم ولم يكن فيه ذكر الملائكة ولا الإنس بالصريح فعمم ليشمل الإنس وصرح بالملائكة. وقال في الحج: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض} [الحج: 18] بتكرير: {من} لأنه تقدم ذكر المؤمنين وسائر الأديان فقدم ذكر: {من في السموات} تعظيمًا لهم ولها وذكر: {من في الأرض} لأنهم هم الذين تقدم ذكرهم. وأما في هذه السورة فقد تقدم ذكر العلويات من الرعد والبرق، ثم ذكر الملائكة وتسبيحهم، ثم انجر الكلام إلى ذكر الأصنام والكفار فبدأ في آية السجدة بذكر من في السموات والأرض وذكر الأرض تبعًا ولم يذكر من فيها استخفافًا بالكفرة وأصنافهم فتبين أنه أورد كل آية بما لاق بمقامها والله تعالى أعلم بمراده.
ثم أخبر عن التسخير بسؤال التقرير ردًّا على عبدة الأصنام فقال: {قل من رب السموات والأرض قل الله} وهذه حكاية لاعترافهم لأنهم كانوا يعترفون بأنه الإله الأعظم وهذا كما يقول المناظر لصاحبه: أهذا قولك؟ فإذا قال هذا قولي قال هذا قولك فيحكي إقراره استئنافًا منه يقول له: فيلزمك على هذا القول كيت وكيت وذلك قوله: {قل أفاتخذتم} ويجوز أن يكون تلقينًا لما ليسوا منكرين له. والهمزة في: {أفاتخذتم} للإنكار والمعنى أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم: {من دونه أولياء} جمادات عجزة عن تحصيل المنافع والمضارّ لأنفسهم فضلًا عن غيرهم. وموضع الإنكار أنهم جعلوا ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من العلم والإقرار سبب الإشراك، ثم جعلوا مع ذلك أخس الأشياء مكان أشرف الذوات وهذا جهل لا مزيد عليه فلهذا شبههم بالأعمى وشبه جهالتهم بالظلمات وأنكر أن يكون شيء منهما مساويًا لنقيضه فقال: {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور} جمع الظلمات ووحد النور لأن السبل المنحرفة غير محصورة والصراط المستقيم واحد. ثم أكد الإنكار المذكور بقوله: {أم جعلوا} والمراد بل جعلوا: {لله شركاء} خالقين مثل خلقه: {فتشابه الخلق} أي خلق الله وخلقهم: {عليهم} أي ليس لهذه الشركاء خلق مثل خلق الله حتى يشتبه الأمر عليهم بل ليس لهم خلق أصلًا بل كان ما سوى الله عاجز عن الخلق بدليل قوله: {قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار} المتوحد بالربوبية الذي لا يغالب وما عداه مربوب ومقهور. قالت المعتزلة: للعبد فعل وتأثير ولكنا لا نقول إنه يخلق كخلق الله لأن العبد يفعل لجلب منفعة أو دفع مضرة والله تعالى منزه عن ذلك. وأجيب بأن المخالفة من بعض الوجوه لا تقدح في المماثلة من وجه آخر، فلو كان فعل العبد كالتحريك مثلًا واقعًا بقدرته لكان مثلًا للتحريك الواقع بقدرة الله تعالى وهذا الإشكال وارد أيضًا على من يثبت للعبد كسبًا. ثم ضرب مثلًا آخر للحق وذويه والباطل ومنتحليه فقال: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية} أي مياهها والوادي الفضاء المنخفض عن الجبال والتلال الذي يجري فيه السيل. وقيل: الوادي اسم للماء من ودى إذا سال، والمعنى سالت مياه. قال الفارسي: لا نعلم فاعلًا جمع على أفعلة إلا هذا وكأنه حمل على فعيل فجمع على أفعلة كجريب وأجربة كما أن فعيلًا حمل على فاعل فجمع على أفعال مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر. وقال غيره: نظير وادٍ وأودية نادٍ وأندية. ومعنى التنكير في أودية أن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوية بين البقاع فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض. قال في الكشاف: معنى: {بقدرها} بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم بدليل قوله: {وأما ما ينفع الناس} وقال الواحدي: معناه سالت مياه الأودية بقدر الأودية فإن صغر الوادي قل الماء وإن استع كثر الماء.