فصل: التفسير الإشاري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتارة يقال لحضور الشئ القلب أَو القولَ، ولِهذَا قيل: الذِّكر ذِكْران: ذكر بالقلب وذكر باللسان، وكلُّ واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان، بل عن إِدامة الحفْظ.
وكلُّ قول يقال له ذِكْر.
فمن الذِّكْرِ باللِّسان قوله: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا} أَي القرآن، وقوله: {فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} أَي الكتبِ المتقدّمة.
وقوله: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولًا} فقد قيل: الذِّكْرُ هنا وصف للنبيّ صليّ اللهُ عليه وسلَّم، كما أَنَّ الكلمة وصف لعيسى عليه السّلام من حيث إنَّه بشِّر به في الكتب المتقدِّمة، فيكون قوله: {رَسُولًا} بدلًا منه.
وقيل: {رسولًا} منتصب بقوله: {ذكرًا}، كأَنَّه قيل: قد أَنزلنا كتابًا ذاكرًا ورسولًا يتلو.
ومن الذكر عن النِّسيان قوله تعالى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}.
ومن الذِّكر بالقول واللِّسان قوله: {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ} وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ} أَي من بعد الكتاب المتقدّم.
وقوله: {لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} أَي موجودًا بذاته وإِن كان موجودًا في علم الله.
وقوله تعالى: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ} أَي أَوَلا يذكر الجاحد للبعث أَوَّل خلقه، فيستدِلّ بذلك على إِعادته؟! وقوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أَي ذكر الله لعبده أَكبر من ذكر العبد له، وذلك حَثٌّ على الإِكثار من ذِكره.
وقيل: إِن ذكر الله إِذا ذكره العبدُ خير للعبد من ذكر العبد للعبد.
وقيل: معناه أَنَّ ذكر الله ينهى عن الفحشاءِ والمنكر أَكثرَ ممَّا تَنْهَى الصلاة.
وقوله تعالى: {أَهذا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} يريد: يَعيب آلهتكم.
كذلك قوله: {فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} من قولك للرّجل: لئن ذكرتنى لتندمنَّ، وأَنت تريد: بسوءٍ، فيجوز ذلك، قال عنترة بن شدَّاد يخاطب امرأَته:
لا تذكرى فَرَسى وما أَطعمتُه ** فيكونَ جِلْدُك مثلَ جِلْد الأَجرب

أَى لا تعيبى مُهْرى، فجعل الذكر عيبًا.
وأَنكر أَبو الهيثم أَن يكون الذكر عيبًا، وقال في قول عنترة: لا تذكرى فرسى: لا تولَعى بذكره وذكر إِيثارى إِيّاه على عيالى باللَّبن.
وقوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} معناهُ: ذكر ربك عبده برحمته.
وقوله تعالى: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} أَي تذكُّرًا.
وقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الأَوَّلِينَ} أَي لو جاءَنا ذكر كما جاءَ غيرنا من الأَوّلين.
وقوله تعالى: {خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ} أَي ادرُسوا ما فيه.
وقوله: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أَي احفظوها ولا تضيِّعوا شُكرها، كما يقول العربيّ لصاحبه: اذكر حَقيّ عليك، أى احفظه ولا تضيّعه.
وتقول: ذكرته ذِكْرَى غير مجراة.
وقوله تعالى: {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} الذِّكرى اسم أُقيم مُقام التذكير، كما تقول: اتَّقيت تَقْوى، ومنه قوله تعالى: {وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} أَي وعبرة لهم.
وقوله عزَّ وجلَّ: {ذِكْرَى الدَّارِ} أَي يُذكَّرُون بالدار الآخرة ويزَهَّدون في الدنيا.
ويجوز أَن يكون المعنى: يكثرون ذكر الآخرة.
وقوله تعالى: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ
ذِكْرَاهُمْ} يقول: فيكف لهم إِذا جاءَتهم السَّاعةُ بذكراهم.
وقوله تعالى: {يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} أَي يَتُوب ومن أَين له التَّوبة.
والتذكِرة: ما يُتذَكَّرُ به الشئ، وهو أَعمّ من الدَّلالة والأَمارة.
وقوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} قيل معناه: تعيد ذكره، وقيل: تجعلها ذَكَرًا في الحكم.
وقال بعض العلماءِ في الفرق بين قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} وبين: {اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ} أَنَّ قوله: {اذكرونى} مخاطبة أَصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم الَّذين حصل لهم فضلُ قوَّة بمعرفته تعالى، فأَمرهم بأَن يذكروه من غير واسطة، وقوله: {اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ} مخاطبة لبنى إِسرائيل الَّذين لم يعرفوا الله إِلا بالآية، فأَمرهم أَن يتصوّروا نعمته فيتوَصَّلوا بها إِلى معرفته تعالى.
والتذكير: الوعظ، قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ}، وفى الحديث: «إنَّ القرآن ذَكَرٌ فذكِّرُوه»، أَي جليل نَبيه خطير فأَجِلُّوه، واعرفوا له ذلك وصِفُوه به.
قالوا: رجل ذَكَرٌ للشهم الماضى في الأُمور.
وقال بعضهم: ذَكر اللهُ الذِّكر في القرآن على عشرين وجهًا:
الأَوّل: ذِكْر اللِّسان: {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}.
الثانى: ذِكْر بالقلب: {ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ}.
الثَّالث: بمعنى الوعظ: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى}.
الرّابع: بمعنى التوراة: {فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ}.
الخامس: بمعنى القرآن: {وَهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ}.
السّادس: بمعنى اللَّوح المحفوظ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ}.
السَّابع: بمعنى رسالة الرّسول: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أَي رسالة.
الثَّامن: بمعنى العِبْرة: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} أَي العِبَر.
التَّاسع: بمعنى الخَبَر: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي}.
العاشر: بمعنى الرّسول: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولًا}.
الحادى عشر: بمعنى الشَّرف: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} أَي شرف.
الثاني عشر: بمعنى التَّوبة: {ذلك ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}.
الثالث عشر: بمعنى الصَّلوات الخمس: {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم}.
الرابع عشر: بمعنى صلاة العصر خاصّة: {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي}.
الخامس عشر: بمعنى صلاة الجمعة: {فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}.
السّادس عشر: بمعنى العُذْر من التَّقصير: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ}.
السَّابع عشر: بمعنى الشَّفاعة: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}.
الثامن عشر: بمعنى التَّوحيد: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي}: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ}.
التَّاسع عشر: بمعنى ذكر المنَّة: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ}،: {اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}.
العشرون: بمعنى الطَّاعة والخِدمة: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} أَي اذكرونى بالطَّاعة أَذكركم بالجنَّة.
والذَّكَرُ: خلاف الأُنثى، وجمعه ذكور وذُكْرَان، قال تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} أَي ومَنْ خلق، وقال: {خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى} أَي آدم وحَوَّاء.
وقال: {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} وقال: {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى}.
وقال بمعنى التَّوأَمين: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى}.
وبمعنى مَرْيم البتُول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى}.
وقال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى}، وقال: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} وقال: {قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ} وقال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}، وقال: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: {هو الذي يريكم} برق أنوار الجلال فيغلب عليكم خوف الانقطاع واليأس، ويريكم برق أضواء الجمال فيغلب عليكم طمع الوصل ورجاء الاستئناس: {وينشئ السحاب} النوال والأفضال: {الثقال} بمطر القبول والإقبال: {ويسبح الرعد} وهو الملك المخلوق من نور الهيبة والجلال فتع الهيبة في قلوب الخلق كلهم حتى الملائكة فيسبحون من خيفته، ويرسل صواعق القهر: {فيصيب بها من يشاء} من أهل الخذلان فيحرق حسن استعدادهم في قبول الإيمان. ومن نتائج ذلك أنهم يجادلون في ذات الله وفي صفاته كالفلاسفة الذين لا يتابعون الأنبياء والشرئع، وكبعض المتكلمين من أهل الأهواء والبدع: {له دعوة الحق} أي دعوته حق لمن دعاه فيستجيبه كما قالت السموات والأرض أتينا طائعين له دعاة يدعون الخلق بالحق إلى الحق: {والذين يدعون من دونه} أي بغير الحق: {لا يستجيبون لهم بشيء} إذ لا يؤثر في الخلق نصحهم كمن يبسط يده إلى الماء إراءة إلى الحق أنه يريد شربه: {وما هو ببالغه} فلا يستجابون على الحقيقة وإن استجيبوا في الظاهر لأنهم استجابوا لهم على الهوى كما دعوا إلى الحق بالهوى يدل عليه قوله: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ولله يسجد من في السموات والأرض} من الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء والصلحاء: {طوعًا} ومن أرواح الكافرين والمنافقين والشياطين: {كرهًا} بالتذليل والتسخير تحت الأحكام والتقدير: {وظلالهم} أي نفوسهم فإن النفوس ظلال الأرواح، وليس السجود ن شأنها لأنها أمارة بالسوء إلا ما رحم الرب فإنها تسجد بتبعية الروح. معنى آخر: ولله يسجد من في سموات القلوب من صفات القلوب والأرواح والعقول، طوعًا ومن في أرض النفوس من صفات النفس والقوى الحيوانية والسبعية والشيطانية كرهًا، وظلالهم وهي آثارها ونتائجها. آخر: ولله يسجد الأرواح في الحقيقة وظلالهم وهي أجسادهم بالتبعية، وهذا السجود بمعنى وضع الجبهة، وخص الوقتان بالذكر لأن آثار القدرة فيهما أكثر، وإن أريد الانقياد والتسخير احتمل أن يراد بالوقتين وقتا الانتباه والنوم، ففي الأول تطلع شمس الروح من أفق الجسد، وفي الثاني تغرب فيه أنزل من سماء القلوب ماء المحبة.
{فسالت أودية} النفوس: {فاحتمل السيل زبدًا رابيًا} من الأخلاق الذميمة النفسانية والحيوانية، أو أنزل من سماء الأرواح ماء مشاهدة أنواع الجمال: {فسالت أودية} القلوب: {فاحتمل السيل زبدًا رابيًا} من الأوصاف البشرية، أو أنزل من سماء الأسرار ماء كشوف الجمال: {فسالت أودية} الأرواح: {فاحتمل السيل زبدًا رابيًا} من أنانية الروحانية، أو أنزل من سماء الجبروت ماء تجلي صفات الألوهية: {فسالت أودية} الأسرار بقدرها: {فاحتمل السيل} زبد الوجود المجازي: {ومما توقدون عليه} من البقاء في نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فلا تبقي ولا تذر وهي التذكية بالفناء: {ابتغاء حلية} وهي التحلية بالبقاء الحقيقي: {أو متاع} وهو التمتع به: {زبد مثله} مثل زبد البشرية وهو زبد المعرفة والتوحيد: {فأما الزبد} في الأحوال كلها: {فيذهب جفاء} بالفناء: {وأما ما ينفع الناس} من البقاء بالله: {فيمكث في} أرض الوحدة المستعدة لقبول الفيض الإلهي. {للذين استجابوا لربهم الحسنى} وهي العناية الأزلية التي الاستجابة من نتائجها كقوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101]: {والذين لم يستجيبوا له} حين دعاهم للوصول والوصال لو حصل لهم ما في أرض البشرية من أنواع اللذات والحظوظ وأضعافها لجعلوه فداء ألم عذاب القطيعة: {وأنفقوا مما رزقناهم} أي انفصلوا عما سواه ليتصلوا به: {سرًا} بالانقطاع عما يشغل بواطنهم: {وعلانية} بالانفصال عما يشغل ظواهرهم: {ويدرءُون} بالأعمال والأحوال الحسنة في صدق الطلب الأحوال السيئة من الوقائع والفترات: {والملائكة يدخلون عليهم} تبركًا وتيمنًا بهم تبعًا لهم من كل باب دخلوه بالاستقلال على أقدام السير بالله إلى الله: {سلام عليكم بما صبرتم} عن غير الله وعلى صدق الطلب: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} القلوب أربعة: قلب قاس كقلوب الكفار والمنافقين فاطمئنانه بالدنيا وشهواتها رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، وقلب ناس وهو قلب المسلم المذنب كقوله: {فنسي ولم نجد له عزمًا} [طه: 115] فاطمئنانه بالتوبة فتاب عليه وهدى، وقلب مشتاق وهو قلب المؤمن فاطمئنانه بذكر الله كما في الآية. وقلب وحداني وهو قلب الأنبياء وخواص الأولياء فاطمئنانه بالله وصفاته كقول الخليل صلى الله عليه وسلم: {ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260] أي بتجلي صفات الأحياء، وإذا صار القلب مطمئنًا انعكس نور الاطمئنان من مرآة قلبه على نفسه فتصير مطمئنة أيضًا فيستحق بجذبات العناية لخطاب: {ارجعي} [الفجر: 28] ثم أشار إلى أنّ الاطمئنان ثمرة غرس شجرة الإيمان والعمل الصالح في أرض القلب فقال: {الذين آمنوا} الآية. فالإشارة بطوبى إلى حقيقة شجرة لا إله إلا الله مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ولم يكن إلا في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وبتبعيته في قلوب المؤمنين ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «طوبى شجرة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة» فافهم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (30):

قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان في ذلك فطم عن إنزال المقترحات، وكان إعراض المقترحين قد طال، وطال البلاء بهم والصبر على أذاهم، كان موضع أن يقال من كافر أو مسلم عيل صبره: أولست مرسلًا يستجاب لك كما كان يستجاب للرسل؟ فقيل: {كذلك} أي مثل إرسال الرسل الذي قدمنا الإشارة إليه في آخر سورة يوسف عليه الصلاة والسلام في قولنا: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم} [الأنبياء: 7] الآية، وفي هذه السورة في قولنا: {ولكل قوم هاد} ومثل هذا الإرسال البديع الأمر البعيد الشأن، والذي دربناك عليه غير مرة من أن المرجع إلى الله والكل بيده، فلا قدرة لغيره على هدى ولا ضلال، لا بإنزال الآية ولا غيره: {أرسلناك} أي بما لنا من العظمة: {في أمة} وهي جماعة كثيرة من الحيوان ترجع إلى معنى خاص لها دون غيرها: {قد خلت}.
ولما كانت الرسل لمن تعم بالفعل الزمان كله، قال: {من قبلها أمم} طال أذاهم لأنبيائهم ومن آمن بهم واستهزاءهم في عدم الإجابة إلى المقترحات وقول كل أمة لنبيها عنادًا بعد ما جاءهم من الآيات: {لولا أنزل عليه آية} حتى كأنهم تواصوا بهذا القول حتى فعل الرسل وأتباعهم في إقبالهم على الدعاء وإعراضهم عمن يستهزئ بهم- فعل الآئس من الإنزال: {لتتلوا} أي أرسلناك فيهم لتتلو: {عليهم} أي تقرأ؛ والتلاوة: جعل الثاني يلي الأول بلا فصل: {الذي أوحينا إليك} من ذكر الله الذي هو أعظم الآيات: {وهم} أي والحال أنهم: {يكفرون} لا تمل تلاوته عليهم في تلك الحال فإن لنا في هذا حكمًا وإن خفيت، وما أرسلناك ومن قبلك من الرسل إلا لتلاوة ما يوحى، لا لطلب الإجابة إلى ما يقترح الأمم من الآيات ظنًا أنها تكون سببًا لإيمان أحد، نحن أعلم بهم، وهذا كله تسلية لرسول الله- صلى الله عليه وسلم ـ، وقوله: {بالرحمن} إشارة إلى كثرة حلمه وطول أناته، وتصوير لتقبيح حالهم في مقابلتهم الإحسان بالإساءة والنعمة بالكفر بأوضح صورة وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم من الكفران.
ولما تضمن كفرهم بالرحمن كفرهم بالقرآن ومن أنزل عليه، وكان الكفر بالمنعم في غاية القباحة، كان كأنه قيل: فماذا أفعل حينئذ أنا ومن اتبعني؟ لا نتمنى إجابتهم إلى مقترحاتهم إلا رجاء إيمانهم، وكان جوابهم عن الكفر بالموحى أهم، بدأ به فقال: {قل} عند ذلك إيمانًا به: {هو} أي الرحمن الذي كفرتم به: {ربي} المربي لي بالإيجاد وإدرار النعم، والمحسن إلى لا غيره، لا أكفر إحسانه كما كفرتموه أنتم، بل أقول: إنه: {لا إله إلا هو} أنا به واثق في التربية والنصرة وغيرها.
ولما كان تفرده بالإلهية علة لقصر الهمم عليه، قال: {عليه} أي وحده لا شريك له: {توكلت} والتوكل: التوثيق في تدبير النفس برده إلى الله على الرضى بما يفعل: {وإليه} أي لا إلى غيره: {متاب} أي مرجعي، معنى بالتوبة وحسًا بالمعاد، وهذا تعريض بهم في أن سبب كفرتم إنكار يوم الدين. اهـ.