فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {بلى من كسَب سيئة}: بلى: بمنزلة نعم إلا أن {بلى} جواب النفي، ونعم جواب الإيجاب، قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: مالك عليَّ شيء، فقال الآخر: نعم، كان تصديقًا أن لا شيء له عليه.
ولو قال: بلى؛ كان ردًا لقوله.
قال ابن الأنباري: وإنما صارت {بلى} تتصل بالجحد، لأنها رجوع عن الجحد إلى التحقيق، فهي بمنزلة بل.
وبل سبيلها أن تأتي بعد الجحد، كقولهم: ما قام أخوك، بل أبوك.
وإذا قال الرجل للرجل: ألا تقوم؟ فقال له: بلى؛ أراد: بل أقوم، فزاد الألف على بل ليحسن السكوت عليها، لأنه لو قال: بل؛ كان يتوقع كلامًا بعد بل؛ فزاد الألف ليزول هذا التوهم عن المخاطب.
ومعنى: {بلى من كسب سيئة}: بل من كسب.
قال الزجاج: بلى رد لقولهم: {لن تمسنا النار إِلا أيامًا معدودة} والسيئة هاهنا: الشرك في قول ابن عباس، وعكرمة، وأبي وائل، وأبي العالية، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل.
{وأحاطت به} أي: أحدقت به خطيئته.
وقرأ نافع {خطيئاته} بالجمع.
قال عكرمة: مات ولم يتب منها، وقال أبو وائل: الخطيئة: صفة للشرك.
قال أبو علي: إما أن يكون المعنى: أحاطت بحسنته خطيئته، أي: أحبطتها، من حيث أن المحيط أكثر من المحاط به، فيكون كقوله تعالى: {وإِن جهنم لمحيطة بالكافرين} [التوبة: 49] وقوله: {أحاط بهم سرادقها} [الكهف: 29] أو يكون معنى أحاطت به أهلكته: كقوله: {إلا أن يحاط بكم} [يوسف 66]. اهـ.

.قال أبو حيان:

{بلى}: حرف جواب يثبت به ما بعد النفي، فإذا قلت: ما قام زيد، فقلت: نعم، كان تصديقًا في نفي قيام زيد.
وإذا قلت: بلى، كان نقضًا لذلك النفي.
فلما قالوا: {لن تمسنا النار}، أجيبوا بقوله: بلى، ومعناها: تمسكم النار.
والمعنى على التأبيد، وبين ذلك بالخلود.
{من كسب سيئة} من: يحتمل أن تكون شرطية، ويحتمل أن تكون موصولة، والمسوّغات لجواز دخول الفاء في الخبر، إذا كان المبتدأ موصولًا، موجودة هنا، ويحسنه المجيء في قسيمة بالذين، وهو موصول.
والسيئة: الكفر والشرك، قاله ابن عباس ومجاهد.
وقيل: الموجبة للنار، قاله السدي، وعليه تفسير من فسر السيئة بالكبائر، لأنها هي التي توجب النار، أي يستحق فاعلها النار إن لم تغفر له.
{وأحاطت به خطيئته}: قرأ الجمهور بالإفراد، ونافع: خطيئاته جمع سلامة، وبعض القراء: خطاياه جمع تكسير، والمعنى أنها أخذته من جميع نواحيه.
ومعنى الإحاطة به أنه يوافي على الكفر والإشراك، هذا إذا فسرت الخطيئة بالشرك.
ومن فسرها بالكبيرة، فمعنى الإحاطة به أن يموت وهو مصر عليها، فيكون الخلود على القول الأول المراد به الإقامة، لا إلى انتهاء.
وعلى القول الثاني المراد به الإقامة دهرًا طويلًا، إذ مآله إلى الخروج من النار.
قال الكلبي: أوثقته ذنوبه.
وقال ابن عباس: أحبطت حسناته.
وقال مجاهد: غشيت قلبه.
وقال مقاتل: أصرّ عليها.
وقال الربيع: مات على الشرك.
قال الحسن: بكل ما توعد الله عليه بالنار فهو الخطيئة المحيطة.
ومن، كما تقدم، لها لفظ ومعنى، فحمل أولًا على اللفظ، فقال: من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته، وحمل ثانيًا على المعنى، وهو قوله: {فأولئك}، إلى آخره.
وأفرد سيئة لأنه كنى به عن مفرد، وهو الشرك.
ومن أفرد الخطيئة أراد بها الجنس ومقابلة السيئة، لأن السيئة مفردة، ومن جمعها فلأن الكبائر كثيرة، فراعى المعنى وطابق به اللفظ.
وذهب قوم إلى أن السيئة والخطيئة واحدة، وأن الخطيئة وصف للسيئة.
وفرق بعضهم بينهما فقال: السيئة الكفر، والخطيئة ما دون الكفر من المعاصي، قاله مجاهد وأبو وائل والربيع بن أنس.
وقيل: إن الخطيئة الشرك، والسيئة هنا ما دون الشرك من المعاصي.
قال الزمخشري: وأحاطت به خطيئته تلك، واستولت عليه، كما يحيط العدو، ولم ينقص عنها بالتوبة. انتهى كلامه.
وهذا من دسائسه التي ضمنها كتابه، إذ اعتقاد المعتزلة أن من أتى كبيرة، ولم يتب منها، ومات، كان خالدًا في النار.
وفي قوله: {أصحاب النار هم فيها خالدون}: إشارة إلى أن المراد: الكفار، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون» وقد رتب كونهم أصحاب النار على وجود أمرين: أحدهما، كسب السيئة، والآخر: إحاطة الخطيئة.
وما رتب على وجود شرطين لا يترتب على وجود أحدهما، فدل ذلك على أن من لم يكسب سيئة، وهي الشرك وإن أحاطت به خطيئته، وهي الكبائر، لا يكون من أصحاب النار، ولا ممن يخلد فيها.
ويعني بأصحاب النار: الذين هم أهلها حقيقة، لا من دخلها ثم خرج منها. اهـ.

.قال الألوسي:

{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)} جواب عن قولهم المحكي وإبطال له على وجه أعم شامل لهم ولسائر الكفرة، كأنه قال: بل تمسكم وغيركم دهرًا طويلًا وزمانًا مديدًا لا كما تزعمون ويكون ثبوت الكلية كالبرهان على إبطال ذلك بجعله كبرى لصغرى سهلة الحصول فبلى داخلة على ما ذكر بعدها وإيجاز الاختصار أبلغ من إيجاز الحذف، وزعم بعضهم أنها داخلة على محذوف وأن المعنى على تمسكم أيامًا معدودة وليس بشيء وهي حرف جواب كجير ونعم إلا أنها لا تقع جوابًا إلا لنفي متقدم سواء دخله استفهام أم لا، فتكون إيجابًا له، وهي بسيطة.
وقيل: أصلها بل فزيدت عليها الألف والكسب جلب النفع والسيئة الفاحشة الموجبة للنار، قاله السدي، وعليه تفسير من فسرها بالكبيرة لأنها التي توجب النار أي يستحق فاعلها النار إن لم يغفر له وذهب كثير من السلف إلى أنها هنا الكفر وتعليق الكسب بالسيئة على طريقة التهكم، وقيل: إنهم بتحصيل السيئة استجلبوا نفعًا قليلًا فانيًا، فبهذا الاعتبار أوقع عليه الكسب، والمراد بالإحاطة الاستيلاء والشمول وعموم الظاهر والباطن والخطيئة السيئة، وغلبت فيما يقصد بالعرض أي لا يكون مقصودًا في نفسه بل يكون القصد إلى شيء آخر، لكن تولد منه ذلك الفعل كمن رمى صيدًا فأصاب إنسانًا، وشرب مسكرًا فجنى جناية، قال بعض المحققين: ولذلك أضاف الإحاطة إليها إشارة إلى أن السيئات باعتبار وصف الإحاطة داخلة تحت القصد بالعرض لأنها بسبب نسيان التوبة، ولكونها راسخة فيه متمكنة حال الإحاطة أضافها إليه بخلاف حال الكسب فإنها متعلق القصد بالذات وغير حاصلة فيه فضلًا عن الرسوخ؛ فلذا أضاف الكسب إلى سيئة ونكرها، وإضافة الأصحاب إلى النار على معنى الملازمة لأن الصحبة وإن شملت القليل والكثير لكنها في العرف تخص بالكثرة والملازمة، ولذا قالوا: لو حلف من لاقى زيدًا أنه لم يصحبه لم يحنث، والمراد بالخلود الدوام، ولا حجة في الآية على خلود صاحب الكبيرة لأن الإحاطة إنما تصح في شأن الكافر لأن غيره إن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط خطيئته به لكون قلبه ولسانه منزهًا عن الخطيئة، وهذا لا يتوقف على كون التصديق والإقرار حسنتين، بل على أن لا يكونا سيئتين فلا يرد البحث بأن الخصم يجعل العمل شرطًا لكونهما حسنتين كما يجعل الاعتقاد شرطًا لكون الأعمال حسنات فلا يتم عنده أن الإحاطة إنما تصح في شأن الكافر، ولا يحتاج إلى الدفع بأن المقصود أنه لا حجة له في الآية، وهذا يتم بمجرد كون الإحاطة ممنوعة في غير الكافر، فلو ثبت أن العمل داخل في الإيمان صارت الآية حجة ودون إثباته خرط القتاد ثم إن نفي الحجية بحمل الإحاطة على ما ذكر إنما يحتاج إليه إذا كانت السيئة والخطيئة بمعنى واحد وهو مطلق الفاحشة أما إذا فسرت السيئة بالكفر أو الخطيئة به حسبما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي هريرة رضي الله تعالى عنه وابن جرير عن أبي وائل ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع، فنفي الحجية أظهر من نار على علم.
ومن الناس من نفاها بحمل الخلود على أصل الوضع وهو اللبث الطويل وليس بشيء لأن فيه تهوين الخطب في مقام التهويل مع عدم ملائمته حمل الخلود في الجنة على الدوام؛ وكذا لا حجة في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار} [البقرة: 0 8] الخ بناءً على ما زعمه الجبائي حيث قال: دلت الآية على أنه تعالى ما وعد موسى ولا سائر الأنبياء بعده بإخراج أهل الكبائر والمعاصي من النار بعد التعذيب، وإلا لما أنكر على اليهود بقوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ} [البقرة: 0 8] الخ وقد ثبت أنه تعالى أوعد العصاة بالعذاب زجرًا لهم عن المعاصي فقد ثبت أن يكون عذابهم دائمًا وإذا ثبت في سائر الأمم وجب ثبوته في هذه الأمة إذ الوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم إذا كان قدر المعصية واحدًا لأن ما أنكر الله عليهم جزمهم بقلة العذاب لانقطاعه مطلقًا على أن ذلك في حق الكفار لا العصاة كما لا يخفى و{مِنْ} تحتمل أن تكون شرطية، وتحتمل أن تكون موصولة، والمسوغات لجواز دخول الفاء في الخبر إذا كان المبتدأ موصولًا موجودة، ويحسن الموصولية مجئ الموصول في قسيمه وإيراد اسم الإشارة المنبئ عن استحضار المشار إليه بما له من الأوصاف للإشعار بعليتها لصاحبية النار وما فيه من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتهم في الكفر والخطايا، وإنما أشير إليهم بعنوان الجمعية مراعاة لجانب المعنى في كلمة {مِنْ} بعد مراعاة جانب اللفظ في الضمائر الثلاثة لما أن ذلك هو المناسب لما أسند إليهم في تينك الحالتين، فإن كسب السيئة وإحاطة الخطيئة به في حالة الإفراد وصاحبية النار في حالة الاجتماع قاله بعض المحققين ولا يخلو عن حسن وقرأ نافع: {خطيآته} وبعض {خطياه} و{خطيته} و{خطياته} بالقلب والإدغام، واستحسنوا قراءة الجمع بأن الإحاطة لا تكون بشيء واحد، ووجهت قراءة الإفراد بأن الخطيئة وإن كانت مفردة لكنها لإضافتها متعددة، مع أن الشيء الواحد قد يحيط كالحلقة فلا تغفل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {بلى} إبطال لقولهم: {لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة}، وكلمات الجواب تدخل على الكلام السابق لا على ما بعدها فمعنى بلى بل أنتم تمسكم النار مدة طويلة.
وقوله: {من كسب سيئة} سند لما تضمنته بلى من إبطال قولهم، أي ما أنتم إلا ممن كسب سيئة إلخ ومن كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته فأولئك أصحاب النار فأنتم منهم لا محالة على حد قول لبيد:
تمنَّى ابنتاي أن يعيش أبوهما ** وهل أَنا إلا من ربيعةَ أو مُضَرْ

أي فلا أخلد كما لم يخلد بنو ربيعة ومضر، فمَنْ في قوله: {من كسب سيئة} شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها وهي في الشرط من صيغ العموم فلذلك كانت مؤذنة بجملة محذوفة دل عليها تعقيب بلى بهذا العموم لأنه لو لم يرد به أن المخاطبين من زمر هذا العموم لكان ذِكر العموم بعدها كلامًا متناثرًا ففي الكلام إيجاز الحذف ليكون المذكور كالقضية الكبرى لبرهان قوله: {بلى}.
والمراد بالسيئة هنا السيئة العظيمة وهي الكفر بدليل العطف عليها بقوله: {وأحاطبت به خطيئاته}.
وقوله: {وأحاطت به خطيئاته} الخطيئة اسم لما يقترفه الإنسان من الجرائم وهي فعيلة بمعنى مفعولة من خطى إذا أساء، والإحاطة مستعارة لعدم الخلو عن الشيء لأن ما يحيط بالمرء لا يترك له منفذًا للإقبال على غير ذلك قال تعالى: {وظنوا أنهم أحيط بهم} [يونس: 22] وإحاطة الخطيئات هي حالة الكفر لأنها تجريء على جميع الخطايا ولا يعتبر مع الكفر عمل صالح كما دل عليه قوله: {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 17].
فلذلك لم تكن في هذه الآية حجة للزاعمين خلود أصحاب الكبائر من المسلمين في النار إذ لا يكون المسلم محيطة به الخطيئات بل هو لا يخلو من عمل صالح وحسبك من ذلك سلامة اعتقاده من الكفر وسلامة لسانه من النطق بكلمة الكفر الخبيثة.
والقصر المستفاد من التعريف في قوله: {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قصر إضافي لقلب اعتقادهم.
وقوله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} تذييل لتعقيب النذارة بالبشارة على عادة القرآن.
والمراد بالخلود هنا حقيقته. اهـ.

.قال الثعالبي:

قال محمَّد بن عبد اللَّه اللَّخْمِيُّ في مختصره للطبريِّ: أجمعتِ الأمَّة على تخليد مَنْ مات كافرًا، وتظاهرت الرواياتُ الصحيحةُ عن الرسُول صلى الله عليه وسلم والسلفِ الصالح، بأن عصاة أهل التوحيد لا يخلَّدون في النار، ونطق القرآن ب {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 116] لكن من خاف على لَحْمه ودَمِه، اجتنب كل ما جاء فيه الوعيدُ، ولم يتجاسَرْ على المعاصي؛ اتكالا على ما يرى لنفسه من التوحيد، فقد كان السلف وخيار الأمة يخافُون سلْب الإِيمان على أنفسهم، ويخافون النفاقَ عليها، وقد تظاهرتْ بذلك عنهم الأخبار. انتهى.