فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



على أن قوله: {وإليه مآب} يعم الرجوع في الآخرة وهو البعث.
وهذا من وجوه الوفاق في أصل الدين بين الإسلام واليهودية والنصرانية.
وحذف ياء المتكلم من: {مآبي} كحذفها في قوله: {عليه توكلت وإليه متاب} [الرعد: 30]، وقد مضى قريبًا.
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)}. اعتراض وعطف على جملة: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} [الرعد: 36] لما ذكر حال تلقي أهل الكتابين للقرآن عند نزوله عُرج على حال العرب في ذلك بطريقة التعريض بسوء تلقي مشركيه له مع أنهم أولَى الناس بحسن تلقيه إذ نزل بلسانهم مشتملًا على ما فيه صلاحهم وتنوير عقولهم.
وقد جُعل أهم هذا الغرض التنويهَ بعلوّ شأن القرآن لفظًا معنى. وأدمج في ذلك تعريض بالمشركين من العرب.
والقول في اسم الإشارة في قوله: {وكذلك} مثل ما تقدم في قوله: {كذلك أرسلناك في أمة} [سورة الرعد: 30].
وضمير الغائب في {أنزلناه} عائد إلى: {ما أنزل إليك} في قوله: {يفرحون بما أنزل إليك}.
والجار والمجرور من اسم الإشارة نائب عن المفعول المطلق.
والتقدير؛ أنزلناه إنزالًا كذلك الإنزال.
و{حكمًا عربيًا} حالان من ضمير: {أنزلناه}.
والحكم: هنا بمعنى الحكمة كما في قوله: {وآتيناه الحكم صبيا} [سورة مريم: 12].
وجُعل نفس الحكم حالًا منه مبالغة.
والمراد أنه ذو حكم، أي حكمة.
والحكمة تقدمت.
و{عربيًا} حال ثانية وليس صفة ل: {حكمًا} إذ الحكمة لا توصف بالنسبة إلى الأمم وإنما المعنى أنه حكمة معبر عنها بالعربية.
والمقصود أنه بلغة العرب التي هي أفصح اللغات وأجملها وأسهلها، وفي ذلك إعجازه.
فحصل لهذا الكتاب كمالان: كمال من جهة معانيه ومقاصده وهو كونه حكمًا، وكمال من جهة ألفاظه وهو المكنى عنه بكونه عربيًا، وذلك ما لم يبلغ إليه كتاب قبله لأن الحكمة أشرف المعقولات فيناسب شرفها أن يكون إبلاغها بأشرف لغة وأصلحها للتعبير عن الحكمة، قال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [سورة الشعراء: 192- 195].
ثم في كونه عربيًا امتنان على العرب المخاطبين به ابتداء بأنه بلغتهم وبأن في ذلك حسن سمعتهم، ففيه تعريض بأفن رأي الكافرين منهم إذ لم يشكروا هذه النعمة كما قال تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم أفلا تعقلون} [سورة الأنبياء: 10].
قال مالك: فيه بقاء ذكركم.
وجملة {ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم} معترضة، واللام موطئة للقسم وضمير الجمع في قوله: {أهواءهم} عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون الذين وجه إليهم الكلام.
واتباع أهوائهم يحتمل السعي لإجابة طلبتهم إنزال آية غير القرآن تحذيرًا من أن يسأل الله إجابتهم لما طلبوه كما قال لنوح عليه السلام: {فلا تسألني ما ليس لك به علم إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين}.
ومعنى: {ما جاءك من العلم} ما بلغك وعُلّمته، فيحتمل أن يراد بالموصول القرآن تنويهًا به، أي لئن شايعَتهم فسألَتنا آية ير القرآن بعد أن نزل عليك القرآن، أو بعد أن أعلمناك أنا غير متنازلين لإجابة مقترحاتهم.
ويحتمل اتباع دينهم فإن دينهم أهواء ويكون ما صدق: {ما جاءك من العلم} هو دين الإسلام.
والوليّ: النصير.
والواقي: المدافع.
وجعل نفي الولي والنصير جوابًا للشرط كناية عن الجواب، وهو المؤاخذة والعقوبة.
والمقصود من هذا تحذير المسلمين من أن يركنوا إلى تمويهات المشركين، والتحذير من الرجوع إلى دينهم تهييجًا لتصلبهم في دينهم على طريقة قوله تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} [سورة الزمر: 65]، وتأييس المشركين من الطمع في مجيء آية توافق مقترحاتهم.
و{من} الداخلة على اسم الجلالة تتعلق بـ: {ولي} و: {واق}.
و{من} الداخلة على: {ولي} لتأكيد النفي تنصيصًا على العموم.
وتقدم الخلاف بين الجمهور وابن كثير في حذفهم ياء: {واق} في حالتي الوصل والوقف وإثبات ابن كثير الياء في حالة الوقف دون الوصل عند قوله تعالى: {ولكل قوم هاد} في هذه السورة [الرعد: 7]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}
والمصدر الأساسي الذي وعد المتقين بالجنة هنا هو الله، وقد بلَّغ عنه الرسل عليهم السلام هذا الوعد، وتَلاهُمُ العلماء المُبلِّغون عن الرسل.
وأنت حين تنظر إلى فعل يشيع بين عدد من المصادر، تستطيع أن تبحث عن المصدر الأساسي، والمَثَل هو قول الحق سبحانه: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا...} [الزمر: 42]
ويقول في موقع آخر من القرآن: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ...} [السجدة: 11]
وهكذا تكون التَّوْفية قد آلتْ إلى الله؛ وآلتْ إلى مَلَكِ الموت، وقد أخذ مَلَكَ الموْت مسئولية التَّوفية من إسناد الحق له تلك المهمة؛ ويكون نسبتها لِملَكِ الموت هو نوع من إيضاح الطرف الذي يُوكِّل له الحق سبحانه تنفيذ المهمة.
ومرة يأتي الحق سبحانه بالمصدر الأصلي الذي يُصدِر الأمر لِملَكِ الموْت بمباشرة مهمته.
وهنا في الآية الكريمة نجد قول الحق سبحانه: {وُعِدَ المتقون...} [الرعد: 35]
وهي مَبْنية لِمَا لم يُسَمّ فاعله؛ فالوعد منه سبحانه. ونعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يَعِد أيضًا، فها نحن قد جاء إلينا خبر بيعة العقبة؛ حين أخذ البيعة من الأنصار، وقالوا له: خُذْ لنفسك، فأخذ لنفسه ما أراد، ثم قالوا له: وماذا نأخذ نحن إنْ أدَّيْنَا هذا؟ فقال لهم: «لكم الجنة».
وقال صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن العمل الذي فعلوه؛ لا يكفيه أجرًا إلا الجنة، ومن المعقول أن أيَّ واحد من الذين حضروا العقبة قد يتعرض للموت من بعد معاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أنه وعدهم بِمَا في الدنيا من متاع قد يأخذه البعض فيما بعد؛ فالذي يموت قبل هذا لابُدَّ أن يدرك شيئًا مِمّا وعد الرسول مَنْ عاهدوه؛ ولذلك أعطاهم ما لا ينفد، وهو الوَعْد بالجنة.
والحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول: {مَّثَلُ الجنة...} [الرعد: 35]
أي: أنه يضرب لنا المَثَل فقط؛ لأن الألفاظ التي نتخاطَبُ بها نحن قد وُضِعتْ لِمَعان نعرفها؛ وإذا كانت في الجنة أشياء لم تَرَها عَيْنٌ ولم تسمعها أُذنٌ، ولم تخطر على بال بشر؛ فمنَ المُمْكِن أن نقول إنه لا توجد ألفاظ عندنا تؤدي معنى ما هناك، فيضرب الله الأمثال لنا بما نراه من الملذَّات؛ ولكن يأخذ منها المُكدِّرات والمُعكِّرات.
وهكذا نعرف أن هناك فارقًا بين: {مثل الجنة} وبين {الجنة}، فالمَثَل يعطيني صورة أسمعها عن واقع لا أعلمه؛ لأن معنى التمثيل أن تُلحِق مجهولًا بمعلوم لِتأخذَ منه الحكم.
مثلما تقول لصديق: أتعرف فلانًا؛ فيقول لك: لا. فتقول له: إنه يشبه فلانًا الذي تعرفه.
وأنت تفعل ذلك كي تشبه مجهولًا بمعلوم؛ لتأتي الصورة في ذِهْن سامعك.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم شرحًا لما أجمْله القرآن: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين...} [الزخرف: 71]
ويضيف صلى الله عليه وسلم: «فيها مَا لاَ عَيْن رأتْ، ولا أُذن سمعتْ، ولا خَطر على قَلْب بشرٍ».
وحين تُدقَّق في هذا القول النبويّ الكريم تجد الترقِّي كاملًا؛ فقوله: «ما لا أُذن سمعتْ» جاء لأنه يعلم أن مُدْركَاتِ العيْنِ محدودة بالنسبة لِمَا تعلمُ الأذن؛ لأن الأذن تسمع ما لا تدركه العين؛ فهي تسمع ما يراه غيرُك بالإضافة إلى ما تراه أنت.
فالأذن تسمع القريب وتسمع البعيد وتنقل صوته وتستحضره ثم تميزه، بخلاف العين فهي محدودة المسافة حسب قوة الإبصار، ومع كل فنعيم الجنة فوق كل هذا الفوق.
ثم يأتي الترقِّي الأكبر في قوله: «ولا خطر على قلب بشر». والخواطر أوسَعُ من قدرة الأذن وقُدْرة العين؛ فالخواطر تتخيَّل أشياء قد تكون غيرَ موجودة.
وهكذا نرى عَجْز اللغة عن أنْ تُوجد بها ألفاظ تعبر عن معنى ما هو موجود بالجنة، ولا أحدَ فينا يعلم ما هي الأشياء الموجودة بالجنة، وما دام أحد منا لم يَرَ الجنة؛ وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
فلابُدَّ أنْ نعلم قَدْر عَجْز اللغة عن التعبير عَمَّا في الجنة، فإذا أراد الله أنْ يُعبِّر عَمَّا فيها؛ فهو يُوضِّح لنا بالمثَلِ؛ لا بالوصف، لأنه يعلم أن لغتنا تضع الألفاظ لِمَا هو موجود في حياتنا؛ ولا توجد ألفاظ في لغتنا تُؤدِّي معاني ما في الجنة.
ولذلك قال لنا الحق سبحانه: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى...} [محمد: 15]
ومع أن الحق سبحانه يضرب مثلًا، إلا أنه خلَّص المَثَل من شوائبه التي نعرفها في الدنيا، فالمياه عندما تجري؛ تكون حُلْوة ورائقة وصَافية؛ وإنْ ركدتْ فهي تأسُنُ وتكون عَطِنة.
ولذلك يُوضِّح لنا الحق سبحانه أن المياه في الجنة غير آسنة؛ وأنها تكون أنهارًا منزوعًا من مياهها ما يُكِّدرها.
وكذلك المثل بأنهار من لبن لم يتغير طَعْمه. واللبن كما نعرف هو غذاء البدو؛ فَهُمْ يحلبون الماشية، ويحتفظون بألبانها في قِرَبٍ لِمُدةٍ طويلة؛ فيتغير طَعْم اللبن؛ ولذلك يضرب لهم المثَل بوجود أنهار من لبن لم يتغير طَعْمه.
وأيضًا يضرب المثل بوجود أنهار من عَسَل مُصفَّى، والعسل كما نعرف كان في الأصل يأتي من النحْل الذي كان يسكن الجبال قبل استئناسه؛ ووَضْعه في مناحل في الحدائق.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتًا وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}
[النحل: 68]
وحين بحث علماء الحشرات عن تاريخ النحل، وجدوا أن أقدمَ عسل في العالم هو الذي كان موجودًا في الكهوف الجبليّة؛ ثم يليه في العمر العسل الذي جاء من خلايا النحل؛ تلك الخلايا التي أقامها النحل بعد استئناسه؛ ومن بعد ذلك يأتي العسل الذي أقمْنَا نحن له المنَاحل.
وقد ميَّزوا العسل القديم عن المتوسط عن الجديد، بأن أحرقوا بعضًا من كل نوع من أنواع العسل، فنتج من الاحتراق عنصر الكربون؛ ومن هذا العنصر اكتشفوا عمر كل نوع من الثلاثة.
ويوضح الحق سبحانه أن بالجنة أنهارًا من عَسَل مُصفَّى، وبذلك يُقدِّم لنا خَيْر ما كنا نُحِبه من عسل الدنيا، ولكن بدون ما يُكدِّره.
ويوضِّح سبحانه أيضًا أن في الجنة أنهارًا من خمر، ولكنها خَمْر تختلف عن خمر الدنيا؛ فهي لا تؤثر على التكوين العضْوي للعقل، كما أن خمر الدنيا ليس فيها لذةٌ للشاربين؛ لأنها من كحول يَكْوي الفم ويَلْسعه؛ ولذلك تجد مَنْ يشربها وهو يسكْبها في فمه لِتمُرَّ بسرعة فلا يشعر بلسعها في فمه، فتذهب إلى معدته مباشرة فتلهبها.
ويختلف الحال لو كان المشروب هو شراب عصير المانجو أو البرتقال أو القصب؛ حيث تستطيب النفس مذاقَ تلك الفواكه؛ فنجد مَنْ يشربها يتمهَّل ليستبقى أثرها في فمه.
ويقول الحق سبحانه عن خمر أنهار الجنة: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ...} [الصافات: 47]
أي: أنه سبحانه ينفي عن خَمْر أنهار الجنة كُلَّ المُكدِّرات التي توجد في خمر الدنيا.
إذن: فساعةَ تسمع مثلًا عن الجنة؛ فاعلم أنه مَثَلٌ تقريبيّ؛ لأنه لا يمكن أن تأتي الحقيقة، حيث لا يوجد لفظ يُعبِّر عنها؛ وهي لم توجد عندنا؛ وسبحانه لا يخاطبنا إلا بما نعلم من اللغة؛ لذلك يأتي لنا بالمثَلِ المضروب لنأخذ منه صورة تقريبية.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يقول الحق سبحانه: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار...} [الرعد: 35]
ونعلم أن عَصَب حياة العرب أيام نزول القرآن كان هو الماء؛ ألم يطلبوا من الرسول أن يُفجِّر لهم الأنهار تفجيرًا؟