فصل: تفسير الآيات (38- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (38- 39):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)}

.مناسبة الآيتين لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما حسمت الأطماع عن إجابتهم رجاء الاتباع أو خشية الامتناع، وكان بعضهم قد قال: لو كان نبيًا شغلته نبوته عن كثرة التزوج، كان موضع توقع الخبر عما كان للرسل في نحو ذلك، فقال تعالى: {ولقد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة: {رسلًا} ولما كانت أزمان الرسل غير عامة لزمان القبل، أدخل الجار فقال: {من قبلك} أي ولم نجعلهم ملائكة بل جعلناهم بشرًا،: {و} أثقلنا ظهورهم بما يدعو إلى المداراة والمسالمة بإرضاء الأمم في بعض أهوائهم، أو فصل الأمر عند تحقق المصارمة بإنجاز الوعيد بأن: {جعلنا} أي بعظمتنا: {لهم أزواجًا} أي نساء ينكحونهن؛ والزوج: القرين من الذكر والأثى، وهو هنا الأنثى: {وذرية} وهي الجماعة المتفرقة بالولادة عن أب واحد في الجملة، وفعل بهم أممهم ما يفعل بك من الاستهزاء، فما اتبع أحد منهم شيئًا من أهواء أمته: {و} لم نجعل إليهم الإتيان بما يقترح المتعنتون من الآيات تالفًا لهم، بل: {ما كان لرسول} أي رسول كان: {أن يأتي بآية} مقترحة أو آية ناسخة لحكم من أحكام شريعته أو شريعة من قبله أو غير ذلك: {إلا بإذن الله} أي المحيط بكل شيء علمًا وقدرة، فإن الأمور عنده ليست على غير نظام ولا مفرطًا فيها ولا ضائعًا شيء منها بل: {لكل أجل} أي غاية أمر قدره وحده لأن يكون عنده أمر من الأمور: {كتاب} قد أثبت فيه أن أمر كذا يكون في وقت كذا من الثواب والعقاب والأحكام والإيتان بالآيات وغيرها، إثباتًا ونسخًا على ما تقتضيه الحكمة، والحكمة اقتضت أن النبوة يكفي في إثباتها معجزة واحدة، وما زاد على ذلك فهو إلى المشيئة؛ ثم علل ذلك بقوله: {يمحوا الله} أي الملك الأعظم: {ما يشاء} أي محوه من الشرائع والأحكام وغيرها بالنسخ فيرفعه: {ويثبت} ما يشاء إثباته من ذلك بأن يقره ويمضي حكمه كما قال تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننساها} [البقرة: 106] إلى قوله تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 106] كل ذلك بحسب المصالح التابعة لكل زمن، فإنه العالم بكل شيء، وهو الفعال لما يريد لا اعتراض عليه، وقال الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة: يمحو فرض ما يشاء ويثبت فرض ما يشاء.
وإثبات واو: {يمحوا} في جميع المصاحف مشير- بما ذكر أهل الله من أن الواو معناه العلو والرفعة- إلى أن بعض الممحوات تبقى آثارها عالية، فإنه قد يمحو عمر شخص بعد أن كانت له آثار جميلة، فيبقيها سبحانه وينشرها ويعليها، وقد يمحو شريعة ينسخها ويبقى منها آثارًا صالحة تدل على ما أثبت من الشريعة الناسخة لها، وأما حذفها باتفاق المصاحف أيضًا في: {يمح الله الباطل} في الشورى مع أنه مرفوع أيضًا، فللبشارة بإزهاق الباطل إزهاقًا هو النهاية- كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وذلك لمشابهة الفعل بالأمر المقتضي لتحتم الإيقاع بغاية الاتقان والدفاع، وقال: {وعنده} مع ذلك: {أم} أي أصل: {الكتاب} لمن وهمه مقيد بأن الحفظ بالكتابة، وهو اللوح المحفوظ الذي هو أصل كل كتاب، وقد تقدم غير مرة أنه الكتاب المبين الذي هو بحيث يبين كل ما طلب علمه منه كلما طلب؛ قال ابن عباس- رضى الله عنهما ـ: هما كتابان: كتاب سوى أم الكتاب، يمحو منه ما يشاء ويثبت، وأم الكتاب الذي لا يغير منه شيء- انتهى.
والمراد- والله أعلم- أنه يكون في أم الكتاب أنا نفعل كذا- وإن كان في الفرع على غير ذلك، فإنه بالنسبة إلى شريعة دون أخرى، فإذا نقضت الشريعة الأولى فإنا نمحوه في أجل كذا، أو يكون المعنى: يمحو ما يشاء من ذلك الكتاب بأن يعدم مضمونه بعد الإيجاد، ويثبت ما يشاء بأن يوجده من العدم وعنده أم الكتاب؛ قال الرازي في اللوامع: وقد أكثروا القول فيها، وعلى الجملة فكل ما يتعلق به المشيئة من الكائنات فهو بين محو وإثبات، محو بالنسبة إلى الصورة التي ارتفعت، إثبات بالنسبة إلى الصورة الثانية، والقضاء الأزلي، والمشيئة الربانية مصدر هذا المحو والإثبات، فلذلك هو القضاء وهذا هو القدر، فالقضاء مصدر القدر، والقدر مظهر القضاء، والله تعالى وصفاته منزه عن التغير. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)}
اعلم أن القوم كانوا يذكرون أنواعًا من الشبهات في إبطال نبوته.
فالشبهة الأولى: قولهم: {مالهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى في الأسواق} [الفرقان: 7] وهذه الشبهة إنما ذكرها الله تعالى في سورة أخرى.
والشبهة الثانية: قولهم: الرسول الذي يرسله الله إلى الخلق لابد وأن يكون من جنس الملائكة كما حكى الله عنهم في قوله: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملئكة} [الحجر: 7] وقوله: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8].
فأجاب الله تعالى عنه هاهنا بقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً} يعني أن الأنبياء الذين كانوا قبله كانوا من جنس البشر لا من جنس الملائكة فإذا جاز ذلك في حقهم فلم لا يجوز أيضًا مثله في حقه.
الشبهة الثالثة: عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة الزوجات وقالوا: لو كان رسولًا من عند الله لما كان مشتغلًا بأمر النساء بل كان معرضًا عنهن مشتغلًا بالنسك والزهد، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً} وبالجملة فهذا الكلام يصلح أن يكون جوابًا عن الشبهة المتقدمة ويصلح أن يكون جوابًا عن هذه الشبهة، فقد كان لسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة مهيرة، وسبعمائة سرية.
ولداود مائة امرأة.
والشبهة الرابعة: قالوا لو كان رسولًا من عند الله لكان أي شيء طلبنا منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه ليس برسول، فأجاب الله عنه بقوله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} وتقريره: أن المعجزة الواحدة كافية في إزالة العذر والعلة، وفي إظهار الحجة والبينة، فأما الزائد عليها فهو مفوض إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها ولا اعتراض لأحد عليه في ذلك.
الشبهة الخامسة: أنه عليه السلام كان يخوفهم بنزول العذاب وظهور النصرة له ولقومه.
ثم إن ذلك الموعود كان يتأخر فلما لم يشاهدوا تلك الأمور احتجوا بها على الطعن في نبوته، وقالوا: لو كان نبيًا صادقًا لما ظهر كذبه.
فأجاب الله عنه بقوله: {لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ} يعني نزول العذاب على الكفار وظهور الفتح والنصر للأولياء قضى الله بحصولها في أوقات معينة مخصوصة، ولكل حادث وقت معين: {وَلِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ} فقبل حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث فتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه كاذبًا.
الشبهة السادسة: قالوا: لو كان في دعوى الرسالة محقًا لما نسخ الأحكام التي نص الله تعالى على ثوبتها في الشرائع المتقدمة نحو التوراة والإنجيل، لكنه نسخها وحرفها نحو تحريف القبلة، ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل، فوجب أن لا يكون نبيًا حقًا.
فأجاب الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: {يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} ويمكن أيضًا أن يكون قوله: {لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ} كالمقدمة لتقرير هذا الجواب، وذلك لأنا نشاهد أنه تعالى يخلق حيوانًا عجيب الخلقة بديع الفطرة من قطرة من النطفة ثم يبقيه مدة مخصوصة ثم يميته ويفرق أجزاءه وأبعاضه فلما لم يمتنع أن يحيي أولًا، ثم يميت ثانيًا فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات، ثم ينسخه في سائر الأوقات فكان المراد من قوله: {لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ} ما ذكرناه، ثم إنه تعالى لما قرر تلك المقدمة قال: {يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} والمعنى: أنه يوجد تارة ويعدم أخرى، ويحيي تارة ويميت أخرى، ويغني تارة ويفقر أخرى فكذلك لا يبعد أن يشرع الحكم تارة ثم ينسخه أخرى بحسب ما اقتضته المشيئة الإلهية عند أهل السنة أو بحسب ما اقتضته رعاية المصالح عند المعتزلة فهذا اتمام التحقيق في تفسير هذه الآية، ثم هاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
قوله تعالى: {لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ} فيه أقوال.
الأول: أن لكل شيء وقتًا مقدرًا فالآيات التي سألوها لها وقت معين حكم الله به وكتبه في اللوح المحفوظ فلا يتغير عن ذلك الحكم بسبب تحكماتهم الفاسدة ولو أن الله أعطاهم ما التمسوا لكان فيه أعظم الفساد.
الثاني: أن لكل حادث وقتًا معينًا قضى الله حصوله فيه كالحياة والموت والغنى والفقر والسعادة والشقاوة، ولا يتغير ألبتة عن ذلك الوقت.
والثالث: أن هذا من المقلوب والمعنى: أن لكل كتاب منزل من السماء أجلًا ينزله فيه، أي لكل كتاب وقت يعمل به، فوقت العمل بالتوراة والإنجيل قد انقضى ووقت العمل بالقرآن قد أتى وحضر.
والرابع: لكل أجل معين كتاب عند الملائكة الحفظة فللإنسان أحوال أولها نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يصير شابًا ثم شيخًا، وكذا القول في جميع الأحوال من الإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحسن والقبح.
الخامس: كل وقت معين مشتمل على مصلحة خفية ومنفعة لا يعلمها إلا الله تعالى، فإذا جاء ذلك الوقت حدث ذلك الحادث ولا يجوز حدوثه في غيره.
واعلم أن هذه الآية صريحة في أن الكل بقضاء الله وبقدره وأن الأمور مرهونة بأوقاتها، لأن قوله: {لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ} معناه أن تحت كل أجل حادث معين، ويستحيل أن يكون ذلك التعيين لأجل خاصية الوقت فإن ذلك محال، لأن الأجزاء المعروضة في الأوقات المتعاقبة متساوية، فوجب أن يكون اختصاص كل وقت بالحادث الذي يحدث فيه بفعل الله تعالى واختياره وذلك يدل على أن الكل من الله تعالى وهو نظير قوله عليه السلام: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة».
المسألة الثانية:
{يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: {وَيُثَبّتْ} ساكنة الثاء خفيفة الباء من أثبت يثبت، والباقون بفتح الثاء وتشديد الباء من التثبيت، وحجة من خفف أن ضد المحو الإثبات لا التثبت.
ولأن التشديد للتكثير، وليس القصد بالمحو التكثير، فكذلك ما يكون في مقابلته، ومن شدد احتج بقوله: {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] وقوله: {فَثَبّتُواْ} [الأنفال: 12].
المسألة الثالثة:
المحو ذهاب أثر الكتابة، يقال: محاه يمحوه محوًا إذا أذهب أثره، وقوله: {وَيُثَبّتْ} قال النحويون: أراد ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية للفعل الأول عن تعدية الثاني، وهو كقوله تعالى: {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات} [الأحزاب: 35].
المسألة الرابعة:
في هذه الآية قولان:
القول الأول: إنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ.
قالوا: إن الله يمحو من الرزق ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر، وهو مذهب عمر وابن مسعود.
والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء، وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والقول الثاني: أن هذه الآية خاصة في بعض الأشقياء دون البعض، وعلى هذا التقرير ففي الآية وجوه: الأول: المراد من المحو والإثبات: نسخ الحكم المتقدم وإثبات حكم آخر بدلًا عن الأول.
الثاني: أنه تعالى يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة، لأنهم مأمورون بكتابة كل قول وفعل ويثبت غيره، وطعن أبو بكر الأصم فيه فقال: إنه تعالى وصف الكتاب بقوله: {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] وقال أيضًا: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
أجاب القاضي عنه: بأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الذنوب والمباح لا صغيرة ولا كبيرة، وللأصم أن يجيب عن هذا الجواب فيقول: إنكم باصطلاحكم خصصتم الصغيرة بالذنب الصغير، والكبيرة بالذنب الكبير، وهذا مجرد اصطلاح المتكلمين.