فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} فيه مسألتان:
الأولى: قيل: إن اليهود عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج، وعيرته بذلك وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النّساء والنكاح، ولو كان نبيًا لشغله أمر النبوّة عن النّساء؛ فأنزل الله هذه الآية، وذكرهم أمر داود وسليمان فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} أي جعلناهم بشرًا يقضون ما أحلّ الله من شهوات الدنيا، وإنما التخصيص في الوحي.
الثانية: هذه الآية تدلّ على الترغيب في النكاح والحض عليه، وتنهى عن التَّبَتُّل، وهو ترك النكاح، وهذه سنّة المرسلين كما نصّت عليه هذه الآية، والسنّة واردة بمعناها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «تزوّجوا فإني مكاثِر بكم الأمم» الحديث.
وقد تقدّم في آل عمران وقال: «من تزوج فقد استكمل نِصف الدّين فليتقِ الله في النصف الثاني».
ومعنى ذلك أن النكاح يعفّ عن الزنى، والعفاف أحد الْخَصْلَتين اللتين ضَمِن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما الجنة فقال: «من وقاه الله شر اثنتين وَلَجَ الجنّة ما بين لَحْييه وما بين رجليه» خرجه الموطأ وغيره.
وفي صحيح البخاري عن أنس قال: جاء ثلاثة رَهْط إلى بيوت أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تَقَالُّوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخّر.
فقال أحدهم: أمّا أنا فإني أُصلّي الليل أبدًا، وقال الآخر: إني أصوم الدهر فلا أُفطر.
وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوّج؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأُفطر وأصلّي وأرقد وأتزوّج النساء فمن رغب عن سنّتي فليس مني». خرجه مسلم بمعناه؛ وهذا أبْين.
وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقّاص قال: أراد عثمان أن يتبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولو أجاز له ذلك لاْخْتَصَيْنَا، وقد تقدّم في آل عمران الحضّ على طلب الولد والرّدّ على من جهل ذلك.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: إني لأتزوج المرأة وما لي فيها من حاجة، وأطؤها وما أشتهيها؛ قيل له: وما يحملك على ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: حبّي أن يخرج الله مِنّي من يكاثر به النبي صلى الله عليه وسلم النبِيّين يوم القيامة؛ وإني سمعته يقول: «عليكم بالأبكار فإنهنّ أَعْذَب أفواهًا وأحسن أخلاقًا وأَنْتَق أرحامًا وإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» يعني بقوله: «أنتق أرحامًا» أَقْبَل للولد؛ ويقال للمرأة الكثيرة الولد ناتق؛ لأنها ترمي بالأولاد رميًا.
وخرج أبو داود عن مَعْقِل بن يَسَار قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: «لا» ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم».
صححه أبو محمد عبد الحق وحَسْبُك.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} عاد الكلام إلى ما اقترحوا من الآيات ما تقدّم ذكره في هذه السورة فأنزل الله ذلك فيهم؛ وظاهر الكلام حَظْر ومعناه النفي؛ لأنه لا يحظر على أحدٍ ما لا يقدر عليه.
{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي لكل أمر قضاه الله كتاب عند الله؛ قاله الحسن.
وقيل: فيه تقديم وتأخير، المعنى: لكل كتاب أجل؛ قاله الفراء والضّحاك؛ أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤقت، ووقت معلوم؛ نظيره.
{لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67]؛ بيّن أن المراد ليس على اقتراح الأمم في نزول العذاب، بل لكل أجل كتاب.
وقيل: المعنى لكل مدة كتاب مكتوب، وأمر مقدّر لا تقف عليه الملائكة.
وذكر الترمذيّ الحكيم في نوادر الأصول عن شَهْر بن حَوْشَب عن أبي هريرة قال: لما ارتقى موسى صلوات الله عليه وسلامه طور سيناء رأى الجَبَّارُ في إصبعه خاتمًا، فقال: يا موسى ما هذا؟ وهو أعلم به، قال: شيء من حُليّ الرجال، قال: فهل عليه شيء من أسمائي مكتوب أو كلامي؟ قال: لا، قال: فاكتب عليه: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}.
قوله تعالى: {يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} أي يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به.
{وَيُثْبِتُ} ما يشاء؛ أي يؤخره إلى وقته؛ يقال: محوت الكتاب محوًا، أي أذهبت أثره.
{وَيُثْبِتُ} أي ويثبِته؛ كقوله: {والذاكرين الله كَثِيرًا والذاكرات} [الأحزاب: 35] أي والذاكرات الله.
وقرأ ابن كثيِر وأبو عمرو وعاصم: {وَيُثْبِتُ} بالتخفيف، وشَدّد الباقون؛ وهي قراءة ابن عباس، واختيار أبي حاتم وأبي عبيد لكثرة من قرأ بها؛ لقوله: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ} [إبراهيم: 27].
وقال ابن عمر: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السعادة والشقاوة والموت» وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا أشياء؛ الخَلق والخُلُق والأجل والرزق والسعادة والشقاوة؛ وعنه: هما كتابان سوى أمّ الكتاب، يمحو الله منهما ما يشاء ويثبت.
{وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} الذي لا يتغيّر منه شيء.
قال القُشَيْريّ: وقيل السعادة والشقاوة والخَلق والخُلُق والرزق لا تتغير؛ فالآية فيما عدا هذه الأشياء؛ وفي هذا القول نوع تحكّم.
قلت: مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ توقيفًا، فإن صح فالقول به يجب ويوقف عنده، وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر والله أعلم؛ وهذا يروى معناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وأبي وائل وكعب الأحبار وغيرهم، وهو قول الْكَلْبِيّ.
وعن أبي عثمان النَّهْدِيّ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب.
وقال ابن مسعود: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني في السعداء؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت؛ وعندك أمّ الكتاب.
وكان أبو وائل يكثر أن يدعو: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامح واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبِت وعندك أمّ الكتاب.
وقال كعب لعمر بن الخطاب: لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة.
{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}. وقال مالك بن دينار في المرأة التي دعا لها: اللهم إن كان في بطنها جارية فأبدِلها غلامًا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب.
وقد تقدّم في الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من سَرّه أن يُبْسَط له في رزقه ويُنْسَأَ له في أثَرِهِ فلْيَصِلْ رَحِمَه» ومثله عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَحَبَّ» فذكره بلفظه سواء؛ وفيه تأويلان: أحدهما: معنوي، وهو ما يبقى بعده من الثناء الجميل والذكر الحسن، والأجر المتكرر، فكأنه لم يمت.
والآخر: يؤخر أجله المكتوب في اللوح المحفوظ؛ والذي في علم الله ثابت لا تبدّل له، كما قال: «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ». وقيل لابن عباس لما روى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحبّ أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله ولْيَصِلْ رَحمَه» كيف يزاد في العمر والأجل؟ فقال: قال الله عز وجل: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2].
فالأجل الأوّل أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل الثاني يعني المسمى عنده من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البَرْزخ لا يعلمه إلا الله؛ فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحِمه زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البَرْزخ ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أَجَل عمره في الدنيا ما شاء، فيزيده في أجل البَرْزَخ؛ فإذا تحتم الأَجل في علمه السابق امتنع الزيادة والنقصان؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 61] فتوافق الخبر والآية؛ وهذه زيادة في نفس العمر وذات الأَجَل على ظاهر اللفظ، في اختيار حبر الأمة، والله أعلم.
وقال مجاهد: يُحكم الله أمر السَّنَة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة؛ وقد مضى القول فيه.
وقال الضّحاك: يمحو الله ما يشاء من ديوان الحَفَظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب؛ وروى معناه أبو صالح عن ابن عباس.
وقال الْكَلْبِي: يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم سئل الكَلْبِي عن هذه الآية فقال: يكتب القول كله، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك: أكلت وشربت ودخلت وخرجت ونحوه، وهو صادق، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب.
وقال قَتَادة وابن زيد وسعيد بن جُبَيْر: يمحو الله ما يشاء من الفرائض والنوافل فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أمّ الكتاب؛ ونحوه ذكره النحاس والمهدويّ عن ابن عباس؛ قال النحاس: وحدّثنا بكر بن سهل، قال حدّثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس،: {يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ} يقول: يبدل الله من القرآن ما يشاء فينسخه،: {ويثبت} ما يشاء فلا يبدله،: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} يقول: جملة ذلك عنده في أمّ الكتاب، الناسخ والمنسوخ.