فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)}
اعلم أن المعنى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} من العذاب: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل ذلك، والمعنى: سواء أريناك ذلك أو توفيناك قبل ظهوره، فالواجب عليك تبليغ أحكام الله تعالى وأداء أمانته ورسالته وعلينا الحساب.
والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ كالسراج والأداء.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)}
اعلم أنه تعالى لما وعد رسوله بأن يريه بعض ما وعدوه أو يتوفاه قبل ذلك، بين في هذه الآية أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت.
وقوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} فيه أقوال:
القول الأول: المراد أنا نأتي أرض الكفرة {ننقصها من أطرافها} وذلك لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من الكفرة قهرًا وجبرًا فانتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات والأمارات على أن الله تعالى ينجز وعده.
ونظيره قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغالبون} [الأنبياء: 44] وقوله: {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا في الآفاق} [فصلت: 53].
والقول الثاني: وهو أيضًا منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} المراد: موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وذهاب الصلحاء والأخيار، وقال الواحدي: وهذا القول، وإن احتمله اللفظ، إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول.
ويمكن أن يقال هذا الوجه أيضًا لا يليق بهذا الموضع، وتقريره أن يقال: أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة، وموت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر على هؤلاء الكفرة فيجعلهم ذليلين بعد أن كانوا عزيزين، ويجعلهم مقهورين بعد أن كانوا قاهرين، وعلى هذا الوجه فيحسن اتصال هذا الكلام بما قبله، وقيل: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع؟
ثم قال تعالى مؤكدًا لهذا المعنى: {والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ} معناه: لا راد لحكمه، والمعقب هو الذي يعقبه بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب.
فإن قيل: ما محل قوله: {لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ}.
قلنا: هو جملة محلها النصب على الحال كأنه قيل: والله يحكم نافذًا حكمه خاليًا عن المدافع والمعارض والمنازع.
ثم قال: {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} قال ابن عباس: يريد سريع الانتقام يعني أن حسابه للمجازاة بالخير والشر يكون سريعًا قريبًا لا يدفعه دافع.
أما قوله: {وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني أن كفار الأمم الماضية قد مكروا برسلهم وأنبيائهم مثل نمروذ مكر بإبراهيم، وفرعون مكر بموسى، واليهود مكروا بعيسى.
ثم قال: {فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا} قال الواحدي: معناه أن مكر جميع الماكرين له ومنه، أي هو حاصل بتخليقه وإرادته، لأنه ثبت أن الله تعالى هو الخالق لجميع أعمال العباد، وأيضًا فذلك المكر لا يضر إلا بإذن الله تعالى ولا يؤثر إلى بتقديره، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وأمان له من مكرهم، كأنه قيل له: إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره من الممكور به أيضًا من الله وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى وأن لا يكون الرجاء إلا من الله تعالى، وذهب بعض الناس إلى أن المعنى: فلله جزاء المكر، وذلك لأنهم لما مكروا بالمؤمنين بين الله تعالى أنه يجازيهم على مكرهم.
قال الواحدي: والأول أظهر لقولين بدليل قوله: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} يريد أن اكساب العباد بأسرها معلومة لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك فكل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع، وكل ما علم الله عدمه كان ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله تعالى.
قالت المعتزلة: الآية الأولى إن دلت على قولكم فالآية الثانية وهي قوله: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} دلت على قولنا، لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة، ولو كان حدوث الفعل بخلق الله تعالى لم يكن لقدرة العبد فيه أثر، فوجب أن لا يكون للعبد كسب.
وجوابه: أن مذهبنا أن مجموع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد.
ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد فقال: {وَسَيَعْلَمْ الكافر لِمَنْ عُقْبَى الدار} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: {وَسَيَعْلَمْ الكافر} على لفظ المفرد والباقون على الجمع قال صاحب الكشاف قرئ: {الكفار}، و{الكافرون}، و{الذين كفروا}، و{الكفر} أي أهله قرأ جناح بن حبيش: {وسيعلم الكافر} من أعلمه أي سيخبر.
المسألة الثانية:
المراد بالكافر الجنس كقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2] والمعنى: إنهم وإن كانوا جهالًا بالعواقب فسيعلمون لمن العاقبة الحميدة، وذلك كالزجر والتهديد.
والقول الثاني: وهو قول عطاء يريد المستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون.
والقول الثالث: وهو قول ابن عباس يريد أبا الجهل.
والقول الأول هو الصواب.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)}
اعلم أنه تعالى حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولًا من عند الله.
ثم إنه تعالى احتج عليهم بأمرين: الأول: شهادة الله على نبوته، والمراد من تلك الشهادة أنه تعالى أظهر المعجزات الدالة على كونه صادقًا في ادعاء الرسالة، وهذا أعلى مراتب الشهادة لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن بأن الأمر كذلك.
أما المعجز فإنه فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولًا من عند الله تعالى، فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة.
والثاني: قوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} وفيه قراءتان: إحداهما: القراءة المشهورة: {وَمَنْ عِندَهُ} يعني والذي عنده علم الكتاب.
والثانية: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} وكلمة: {من} هاهنا لابتداء الغاية أي ومن عند الله حصل علم الكتاب.
أما على القراءة الأولى ففي تفسير الآية أقوال:
القول الأول: أن المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري.
ويروى عن سعيد بن جبير: أنه كان يبطل هذا الوجه ويقول: السورة مكية فلا يجوز أن يراد به ابن سلام وأصحابه، لأنهم آمنوا في المدينة بعد الهجرة.
وأجيب عن هذا السؤال بأن قيل: هذه السورة وإن كانت مكية إلا أن هذه الآية مدنية، وأيضًا فإثبات النبوة بقول الواحد والإثنين مع كونهما غير معصومين عن الكذب لا يجوز، وهذا السؤال واقع.
القول الثاني: أراد بالكتاب القرآن، أي أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر وبرهان باهر، إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزًا إلا لمن علم ما في هذا الكتاب من الفصاحة والبلاغة، واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة.
فمن عرف هذا الكتاب على هذا الوجه علم كونه معجزًا.
فقوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي ومن عنده علم القرآن وهو قول الأصم.
القول الثالث: ومن عنده علم الكتاب المراد به: الذي حصل عنده علم التوراة والإنجيل، يعني: أن كل من كان عالمًا بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا أنصف ذلك العالم ولم يكذب كان شاهدًا على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول حق من عند الله تعالى.
القول الرابع: ومن عنده علم الكتاب هو الله تعالى، وهو قول الحسن، وسعيد بن جبير، والزجاج قال الحسن: لا والله ما يعني إلا الله، والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيدًا بيني وبينكم، وقال الزجاج: الأشبه أن الله تعالى لا يستشهد على صحة حكمه بغيره، وهذا القول مشكل، لأن عطف الصفة على الموصوف وإن كان جائزًا في الجملة إلا أنه خلاف الأصل.
لا يقال: شهد بهذا زيد والفقيه، بل يقال: شهد به زيد الفقيه، وأما قوله إن الله تعالى لا يستشهد بغيره على صدق حكمه فبعيد، لأنه لما جاز أن يقسم الله تعالى على صدق قوله بقوله: {والتين والزيتون} [التين: 1] فأي امتناع فيما ذكره الزجاج.
وأما القراءة الثانية: وهي قوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} على من الجارة فالمعنى: ومن لدنه علم الكتاب، لأن أحدًا لا يعلم الكتاب إلا من فضله وإحسانه وتعليمه، ثم على هذه القراءة ففيه أيضًا قراءتان: ومن عنده علم الكتاب، والمراد العلم الذي هو ضد الجهل، أي هذا العلم إنما حصل من عند الله.
والقراءة الثانية: ومن عنده علم الكتاب بضم العين وبكسر اللام وفتح الميم على ما لم يسم فاعله، والمعنى: أنه تعالى لما أمر نبيه أن يحتج عليهم بشهادة الله تعالى على ما ذكرناه، وكان لا معنى لشهادة الله تعالى على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه، ولا يعلم كون القرآن معجزًا إلا بعد الإحاطة بما في القرآن وأسراره، بين تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله، والمعنى: أن الوقوف على كون القرآن معجزًا لا يحصل إلا إذا شرف الله تعالى ذلك العبد بأن يعلمه علم القرآن، والله تعالى أعلم بالصواب.
تم تفسير هذه السورة يوم الأحد الثامن عشر من شعبان سنة إحدى وستمائة.
وأنا ألتمس من كل من نظر في كتابي هذا وانتفع به، أن يخص ولدي محمدًا بالرحمة والغفران، وأن يذكرني بالدعاء.
وأقول في مرثية ذلك الولد شعرًا:
أرى معالم هذا العالم الفاني ** ممزوجة بمخافات وأحزان

خيراته مثل أحلام مفزعة ** وشره في البرايا دائم داني

. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
قَوْلُهُ: {قُلْ كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فِيهَا الِاكْتِفَاءُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَهُوَ خَيْرُ الشَّاهِدِينَ إنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنِّي الْحَقَّ فِي الدَّعْوَى وَالصِّدْقَ فِي التَّبْلِيغُ فَسَيَنْصُرُنِي، فَلَا جَرَمَ صَدَّقَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَنَصَرَهُ بِالدَّلَالَاتِ، وَأَكْرَمَهُ بِالظُّهُورِ فِي الْعَوَاقِبِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}؟ قِيلَ: هُوَ وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ فَإِنَّهُ مَقْطُوعٌ عَنْهُ فِي الْمَعْنَى.
التَّقْدِيرُ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ يَشْهَدُ لِي بِصِدْقِي؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ مُجَاهِدٌ: إنَّ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ: {قُلْ كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا}، فَلَوْ كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هُوَ اللَّهُ لَكَانَ تَكْرَارًا مَحْضًا خَارِجًا عَنْ صِحَّةِ الْمَعْنَى وَجَزَالَةِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ فِي: الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ: اُخْتُلِفَ فِيمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ آمَنَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
الثَّانِي: أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ قُرِئَ: {وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ} بِخَفْضِ الْمِيمِ مِنْ: {مِنْ} وَرَفْعِ الْعَيْنِ مِنْ: {عُلِمَ}.
وَقُرِئَ بِخَفْضِ الْمِيمِ مِنْ: {مِنْ} وَبَاقِيهِ عَلَى الْمَشْهُورِ. الرَّابِعُ: الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
فِي تَدَبُّرِ مَا مَضَى: أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْيَهُودِ، كَابْنِ سَلَامٍ، وَابْنِ يَامِينَ.
وَمِنْ النَّصَارَى، كَسَلْمَانَ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، فَإِنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَعَوَّلَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا لِأَنَّهُ عِنْدَهُ أَعْلَمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ أَعْلَمُ مِنْهُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِي ذِكْرِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ أَوْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا}.
وَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ، النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدِينَةُ عِلْمٍ وَأَبْوَابُهَا أَصْحَابُهَا؛ وَمِنْهُمْ الْبَابُ الْمُنْفَسِحُ، وَمِنْهُمْ الْمُتَوَسِّطُ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ فِي الْعُلُومِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُمْ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ فَصَدَقَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ الْكِتَابَ، وَيُدْرِك وَجْهَ إعْجَازِهِ؛ يَشْهَدُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصِّدْقِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَعَوَّلَ عَلَى حَدِيثٍ خَرَّجَهُ لِلتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمَّا أُرِيدَ قَتْلُ عُثْمَانَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا جَاءَ بِك؟ قَالَ: جِئْت فِي نَصْرِك.
قَالَ: اُخْرُجْ إلَى النَّاسِ، فَاطْرُدْهُمْ عَنِّي، فَإِنَّك خَارِجًا خَيْرٌ لِي مِنْك دَاخِلًا.
فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّهُ كَانَ اسْمِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فُلَانٌ، فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ، وَنَزَلَتْ فِي آيَاتٌ مِنْ الْقُرْآنِ فَنَزَلَتْ فِي: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا، وَنَزَلَتْ فِي: {قُلْ كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}.
إنَّ لِلَّهِ سَيْفًا مَغْمُودًا عَنْكُمْ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ جَاوَرَتْكُمْ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا الَّذِي نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
اللَّهَ اللَّهَ فِي هَذَا الرَّجُلِ أَنْ تَقْتُلُوهُ، فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَتُطْرَدَنَّ جِيرَانُكُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَلَيُسَلَّنَّ سَيْفُ اللَّهِ الْمَغْمُودُ عَنْكُمْ، فَلَا يُغْمَدُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَالُوا: اُقْتُلُوا الْيَهُودِيَّ، وَاقْتُلُوا عُثْمَانَ.
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَنْزِلَ فِي عَبْدِ اللَّهِ سَبَبًا، وَتَتَنَاوَلَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ لَفْظًا؛ وَيُعَضِّدُهُ مِنْ النِّظَامِ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يَعْنِي بِهِ قُرَيْشًا؛ فَاَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ إلَى مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ أَقْرَبُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
فِي هَذَا قَوْلُ الْمُتَجَادِلِينَ: كَفَى بِفُلَانٍ بَيْنَنَا شَهِيدًا فَيَرْضَيَانِ بِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَيَزِيدُ هَذَا عَلَيْهِ ظُهُورُ هَذَا الْحَقِّ يَقِينًا، وَأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ نَصْرًا مُبِينًا، وَيُوَفِّقُ مَنْ يَعْرِفُهُ حَقًّا، وَيَشْهَدُ بِهِ تَصْدِيقًا وَصِدْقًا.
وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ كَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. اهـ.