فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَقَدْ مَكَرَ} الكفار: {الذين} خلوا: {مِن قَبْلِهِمُ} من قبل كفار مكة بأنبيائهم وبالمؤمنين كما فعل هؤلاء، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا عبرة بمكرهم ولا تأثير بل لا وجود له في الحقيقة، ولم يصرح سبحانه بذلك اكتفاءً بدلالة القصر المستفاد من تعليله أعني قوله تعالى: {فَلِلَّهِ المكر} أي جنس المكر: {جَمِيعًا} لا وجود لمكرهم أصلًا، إذ هو عبارة عن إيصال المكروه إلى الغير من حيث لا يشعر به وحيث كان جميع ما يأتون ويذرون بعلمه وقدرته سبحانه وإنما لهم مجرد الكسب من غير فعل ولا تأثير حسبما يبينه قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} ومن قضيته عصمة أوليائه سبحانه وعقاب الماكرين بهم توفية لكل نفس جزاء ما كسبت ظهر أن ليس لمكرهم بالنسبة إلى من مكروا بهم عين ولا أثر وإن المكر كله لله تعالى حيث يؤاخذهم بما كسبوا من فنون المعاصي التي من جملتها مكرهم من حيث لا يحتسبون، كذا قاله شيخ الإسلام، وقد تكلف قدس سره في ذلك ما تكلف، وحمل الكسب على ما هو الشائع عند الأشاعرة والله تعالى لا يفرق بينه وبين الفعل وكذا رسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعون واللغويون؛ وقيل: وجه الحصر أنه لا يعتد بمكر غيره سبحانه لأنه سبحانه هو القادر بالذات على إصابة المكروه المقصود منه وغيره تعالى إن قدر على ذلك فبتمكينه تعالى وإذنه فالكل راجع إليه جل وعلا.
وفي الكشاف أن قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} إلخ تفسير لقوله سبحانه: {فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا} لأن من علم ما تكسب كل نفس وأعدلها جزاءها فهو له المكر لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون وهم في غفلة مما يراد بهم، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي فلله جزاء المكر.
وجوز في أل أن تكون للعهد أي له تعالى المكر الذي باشروه جميعًا لا لهم، على معنى أن ذلك ليس مكرًا منهم بالأنبياء بل هو بعينه مكر من الله تعالى بهم وهم لا يشعرون حيث لا يحيق المكر السيء إلا بأهله: {وَسَيَعْلَمُ الكفار} حين يأتيهم العذاب: {لِمَنْ عُقْبَى الدار} أي العاقبة الحميدة من الفريقين وإن جهل ذلك قبل، وقيل: السين لتأكيد وقوع ذلك وعلمه به حينئذٍ، والمراد من الكافر الجنس فيشمل سائر الكفار، وهذه قراءة الحرميين وأبي عمرو، وقرأ باقي السبعة: {وَسَيَعْلَمُ الكفار} بصيغة جمع التكسير.
وقرأ ابن مسعود: {الكافرون} بصيغة جمع السلامة، وقرأ أبي: {الذين كَفَرُواْ} وقرأ: {الكفر} أي أهله، وقرأ جناح بن حبيس: {وَسَيَعْلَمْ} بالبناء للمفعول من أعلم أي سيخبر واللام للنفع، وجوز أن تكون للملك على معنى سيعلم الكفرة من يملك الدنيا آخرًا، وفسر عطاء: {الكافر} بالمستهزئين وهم خمسة والمقسمين وهم ثمانية وعشرون، وقال ابن عباس: يريد بالكافر أبا جهل، وما تقدم هو الظاهر، ولعل ما ذكر من باب التمثيل.
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلًا}
قيل: قاله رؤساء اليهود.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقف من اليمن فقال له عليه الصلاة والسلام: هل تجدني في الإنجيل رسولًا؟ قال: لا» فأنزل الله تعالى الآية، فالمراد من الذين كفروا على هذا هذا ومن وافقه ورضي بقوله، وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة كلمتهم الشنعاء تعجيبًا منها أو للدلالة على تجدد ذلك منهم واستمراره: {قُلْ كفى بالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فإنه جل وعلا قد أظهر على رسالتي من الأدلة والحجج ما فيه غني عن شهادة شاهد آخر، وتسمية ذلك شهادة مع أنه فعل وهي قول مجاز من حيث أنه يغني غناها بل هو أقوى منها: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي علم القرآن وما عليه من النظم المعجز، قيل: والشهادة إن أريد بها تحملها فالأمر ظاهر وإن أريد أداؤها فالمراد بالموصول المتصف بذلك العنوان من ترك العناد وآمن.
وفي الكشف أن المعنى كفى هذا العالم شهيدًا بيني وبينكم، ولا يلزم من كفايته في الشهادة أن يؤديها فمن أداها فهو شاهد أمين ولم لم يؤدها فهو خائن، وفيه تعريض بليغ بأنهم لو أنصفوا شهدوا، وقيل: المراد: {بالكتاب} التوراة والإنجيل، والمراد بمن عنده علم ذلك الذين أسلموا من أهل الكتابين كعبد الله بن سلام وأضرابه فإنهم يشهدون بنعته عليه الصلاة والسلام في كتابهم وإلى هذا ذهب قتادة، فقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال في الآية: كان من أهل الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه منهم عبد الله بن سلام والجارود وتميم الداري وسلمان الفارسي، وجاء عن مجاهد وغيره وهي رواية عن ابن عباس أن المراد بذلك عبد الله ولم يذكروا غيره.
وأخرج ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب قال: جاء عبد الله بن سلام حتى أخذ بعضادتي باب المسجد ثم قال: أنشدكم بالله تعالى أتعلمون أني الذي أنزلت فيه: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}؟ قالوا: اللهم نعم.
وأنكر ابن جبير ذلك، فقد أخرج سعيد بن منصور وجماعة عنه أنه سئل أهذا الذي عنده علم الكتاب هو عبد الله بن سلام؟ فقال: كيف وهذه السورة مكية.
والشعبي أنكر أن يكون شيء من القرآن نزل فيه وهذا لا يعول عليه فمن حفظ حجة على من لم يحفظ، وأجيب عن شبهة ابن جبير بأنهم قد يقولون: إن السورة مكية وبعض آياتها مدنية فلتكن هذه من ذلك، وأنت تعلم أنه لابد لهذا من نقل.
وفي البحر أن ما ذكر لا يستقيم إلا أن تكون هذه الآية مدنية والجمهور على أنها مكية، وأجيب بأن ذلك لا ينافي كون الآية مكية بأن يكون الكلام إخبارًا عما سيشهد به، ولك أن تقول.
إذا كان المعنى على طرز ما في الكشف وأنه لا يلزم من كفاية من ذكر في الشهادة أداؤها لم يضر كون الآية مكية وعدم إسلام عبد الله بن سلام حين نزولها بل ولا عدم حضوره، ولا مانع أن تكون الآية مكية، والمراد من الذين كفروا أهل مكة: {وَمِمَّن عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} اليهود والنصارى كما أخرجه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس ويكون حاصل الجواب بذلك إنكم لستم بأهل كتاب فاسألوا أهله فإنهم في جواركم.
نعم قال شيخ الإسلام: إن الآية مدنية بالاتفاق وكأنه لم يقف على الخلاف، وقيل: المراد بالكتاب اللوح و: {مِنْ} عبارة عنه تعالى؛ وروي هذا عن مجاهد والزجاج، وعن الحسن لا والله ما يعني إلا الله تعالى، والمعنى كما في الكشاف كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيدًا بيني وبينكم، وبهذا التأويل صار العطف مثله في قوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

فلا محذور في العطف، والحصر إما من الخارج لأن علم ذلك مخصوص به تعالى أو للذهاب إلى أن الظرف خبر مقدم فيفيد الحصر.
وقسم الحسن للمبالغة في رد ما زعموا على ما قيل: وفي الكشف إنما بالغ الحسن لما قدمنا من بناء السورة الكريمة على ما بنى وجعل السابقة مثل الخاتمة وما في العطف من النكتة، ولهذا فسره الزمخشري بقوله: كفى بالذي إلخ عطفه عطف ذات على ذات إشارة إلى الاستقلال بالشهادة من كل واحد من الوصفين من غير نظر إلى الآخر فالذي يستحق العبادة قد شهد بما شحن الكتاب من الدعوة إلى عبادته وبما أيد عبده من عنده بأنواع التأييد والذي لا يعلم علم ما في اللوح أي علم كل شيء إلا هو قد شهد بما ضمن الكتاب من المعارف وأنزله على أسلوب فائق على المتعارف، ويعضد ذلك القول أنه قرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وأبي. وابن عباس. وعكرمة. وابن جبير. وعبد الرحمن بن أبي بكرة. والضحاك. وسالم بن عبد الله بن عمر. وابن أبي إسحاق. ومجاهد. والحكم. والأعمش: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يجعل من حرف جر والجار والمجرور خبر مقدم وعلم مبتدأ مؤخر.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه أيضًا وابن السميقع والحسن بخلاف عنه: {وَمَنْ عِندَهُ} بحرف الجر و: {عِلْمُ الكتاب} على أن علم فعل مبني للمفعول و: {الكتاب} نائب الفاعل فإن ضمير: {عِندَهُ} على القراءتين راجع لله تعالى كما في القراءة السابقة على ذلك التأويل والأصل توافق القراءات، وقيل: المراد بالكتاب اللوح: {وَبِمَن} جبريل عليه السلام.
وأخرج تفسير: {مِنْ} بذلك ابن أبي حاتم عن ابن جبير وهو كما ترى.
وقال محمد بن الحنفية والباقر كما في البحر: المراد: {بِمَنِ} علي كرم الله تعالى وجهه، والظاهر أن المراد: {بالكتاب} حينئذٍ القرآن، ولعمري أن عنده رضي الله تعالى عنه علم الكتاب كملًا لكن الظاهر أنه كرم الله تعالى وجهه غير مراد، والظاهر أن: {مِنْ} في قراءة الجمهور في محل جر بالعطف على لفظ الاسم الجليل، ويؤيده أنه قرئ بإعادة الباء في الشواذ، وقيل: إنه في محل رفع بالعطف على محله لأن الباء زائدة، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون في موضع رفع على الإبتداء والخبر محذوف تقديره أعدل أو أمضى قولًا أو نحو هذا مما يدل عليه لفظ: {شَهِيدًا} ويراد بذلك الله تعالى، وفيه من البعد ما لا يخفى، والعلم في القراءة التي وقع: {عِندَهُ} فيها صلة مرفوع بالمقدر في الظرف؛ فيكون فاعلًا لأن الظرف إذا وقع صلة أو غل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول فعمل عمل الفعل كقولك: مررت بالذي في الدار أخوه فأخوه فاعل كما تقول: بالذي استقر في الدار أخوه قاله الزمخشري، وليس بالمتحتم لأن الظرف وشبهه إذا وقعا صلتين أو صفتين أو حالين أو خبرين أو تقدمهما أداة نفي أو استفهام جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعلية وهو الأجوز وجاز أن يكون مبتدأ والظرف أو شبهه في موضع الخبر والجملة من المبتدا والخبر صلة أو صفة أو حال أو خبر، وهذا مبني على اسم الفاعل فكما جاز ذلك فيه وإن كان الأحسن أعماله في الاسم الظاهر فكذلك يجوز فميا ناب عنه من ظرف أو مجرور، وقد نص سيبويه على إجازة ذلك في نحو مررت برجل حسن وجهه فأجاز رفع حسن على أنه خبر مقدم، وقد توهم بعضهم أن اسم الفاعل إذا اعتمد على شيء مما ذكر تحتم أعماله في الظاهر وليس كذلك، وقد أعرب الحوفي: {عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} مبتدأ وخبرًا في صلة: {مِنْ} وهو ميل إلى المرجوح، وفي الآية على القراءتين بمن الجارة دلالة على أن تشريف العبد بعلوم القرآن من إحسان الله تعالى إليه وتوفيقه، نسأل الله تعالى أن يشرفنا بهاتيك العلوم ويوفقنا للوقوف على أسرار ما فيه من المنطوق والمفهوم ويجعلنا ممن تمسك بعروته الوثقى واهتدى بهداه حتى لا يضل ولا يشقى ببركة النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال الشوكاني:

{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} ما زائدة وأصله: وإن نرك: {بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} من العذاب كما وعدناهم بذلك بقولنا: {لَّهُمْ عَذَابٌ في الحياة الدنيا} وبقولنا: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} والمراد أريناك بعض ما نعدهم قبل موتك، أو توفيناك قبل إراءتك لذلك: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} أي: فليس عليك إلاّ تبليغ أحكام الرسالة، ولا يلزمك حصول الإجابة منهم لما بلغته إليهم: {وَعَلَيْنَا الحساب} أي: محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها، وليس ذلك عليك.
وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم وإخبار له أنه قد فعل ما أمره الله به، وليس عليه غيره، وأن من لم يجب دعوته، ويصدّق نبوّته فالله سبحانه محاسبه على ما اجترم واجترأ عليه من ذلك.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} يعني أهل مكة، والاستفهام للإنكار، أي: أولم ينظروا: {أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي: نأتي أرض الكفر كمكة ننقصها من أطرافها بالفتوح على المسلمين منها شيئًا فشيئًا.
قال الزجاج: أعلم الله أن بيان ما وعد المشركين من قهرهم قد ظهر، يقول: أولم يروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم، فكيف لا يعتبرون؟ وقيل: إن معنى الآية: موت العلماء والصلحاء.
قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف.
وقد قال ابن الأعرابي: الطرف الرجل الكريم.
قال القرطبي: وهذا القول بعيد؛ لأن مقصود الآية: أنا أريناهم النقصان في أمرهم ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز إلاّ أن يحمل على موت أحبار اليهود والنصارى.
وقيل: المراد من الآية خراب الأرض المعمورة حتى يكون العمران في ناحية منها.