فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: المراد بالآية هلاك من هلك من الأمم.
وقيل: المراد نقص ثمرات الأرض.
وقيل: المراد جور ولاتها حتى تنقص.
{والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ} أي: يحكم ما يشاء في خلقه، فيرفع هذا ويضع هذا، ويحيي وهذا ويميت هذا، ويغني هذا، ويفقر هذا، وقد حكم بعزّة الإسلام وعلوّه على الأديان.
وجملة: {لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ} في محل نصب على الحال.
وقيل: معترضة.
والمعقب: الذي يكرّ على الشيء فيبطله، وحقيقته الذي يقفيه بالردّ والإبطال.
قال الفراء: معناه لا رادّ لحكمه، قال: والمعقب الذي يتبع الشيء فيستدركه، ولا يستدرك أحد عليه، والمراد من الآية أنه لا يتعقب أحد حكم الله سبحانه بنقص ولا تغيير.
{وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته على السرعة: {وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا} أي: قد مكر الكفار الذين من قبل كفار مكة بمن أرسله الله إليهم من الرسل؛ فكادوهم وكفروا بهم، وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم حيث أخبره أن هذا ديدن الكفار من قديم الزمان مع رسل الله سبحانه، ثم أخبره بأن مكرهم هذا كالعدم، وأن المكر كله لله، فقال: {فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا} لا اعتداد بمكر غيره، ثم فسر سبحانه هذا المكر الثابت له دون غيره، فقال: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} من خير وشرّ فيجازيها على ذلك.
ومن علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها كان المكر كله له؛ لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون.
وقال الواحدي: إن مكر الماكرين مخلوق فلا يضرّ إلاّ بإرادته.
وقيل: المعنى فللّه جزاء مكر الماكرين: {وَسَيَعْلَمْ الكافر لِمَنْ عُقْبَى الدار}.
قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: {الكافر} بالإفراد، وقرأ الباقون: {الكفار} بالجمع، أي: سيعلم جنس الكافر لمن العاقبة المحمودة من الفريقين في دار الدنيا، أو في الدار الآخرة، أو فيهما.
وقيل المراد بالكافر، أبو جهل.
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلًا} أي: يقول المشركون أو جميع الكفار: لست يا محمد مرسلًا إلى الناس من الله، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم، فقال: {قُلْ كفى بالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فهو يعلم صحة رسالتي، وصدق دعواتي، ويعلم كذبكم: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي: علم جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل، فإن أهلهما العالمين بهما يعلمون صحة رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر بذلك من أسلم منهم كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري ونحوهم، وقد كان المشركون من العرب يسألون أهل الكتاب ويرجعون إليهم، فأرشدهم الله سبحانه في هذه الآية إلى أن أهل الكتاب يعلمون ذلك.
وقيل: المراد بالكتاب القرآن، ومن عنده علم منه هم المسلمون.
وقيل: المراد من عنده علم اللوح المحفوظ، وهو الله سبحانه، واختار هذا الزجاج وقال: لأن الأشبه أن الله لا يستشهد على خلقه بغيره.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال: «ذهاب العلماء» وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، ونعيم بن حماد في الفتن، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال: موت علمائها وفقهائها وذهاب خيار أهلها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية قال: موت العلماء.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: أولم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه من طريق أخرى عنه نحوه.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: يعني أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان ينتقص له ما حوله من الأرضين ينظرون إلى ذلك فلا يعتبرون.
وقال الله في سورة الأنبياء: {نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغالبون} [الأنبياء: 44].
بل نبي الله وأصحابه هم الغالبون.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: نقصان أهلها وبركتها.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: إنما ننقص الأنفس والثمرات وأما الأرض فلا تنقص.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضًا قال: أولم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية منها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد: {والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ} ليس أحد يتعقب حكمه فيردّه كما يتعقب أهل الدنيا بعضهم حكم بعض فيرده.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقف من اليمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجدني في الإنجيل؟ قال: لا، فأنزل الله: {قُلْ كفى بالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}» يقول عبد الله بن سلام.
وأخرج ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب قال: جاء عبد الله بن سلام حتى أخذ بعضاضتي باب المسجد، ثم قال: أنشدكم بالله أتعلمون أني الذي أنزلت فيّ: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}؟ قالوا: اللهم نعم.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه من طريق أخرى عنه نحوه.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} قال: هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في الآية قال: كان قوم من أهل الكتاب يشهدون بالحق ويعرفونه، منهم عبد الله بن سلام، والجارود، وتميم الداري، وسلمان الفارسي.
وأخرج أبو يعلى، وابن جرير، وابن مردويه، وابن عديّ بسندٍ ضعيف عن ابن عمر، أن النبيّ قرأ: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} قال: {ومن عند الله علم الكتاب}.
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يقول: ومن عند الله علم الكتاب.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أنه سئل عن قوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أهو عبد الله بن سلام؟ قال: كيف؟ وهذه السورة مكية.. وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: ما نزل في عبد الله بن سلام شيء من القرآن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} قال: جبريل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: هو الله. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أي: من إنزال العذاب في حياتك: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} أي: قبل ذلك: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} أي: تبليغ الوحي: {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} أي: حسابهم وجزاؤهم. قال أبو حيان: جواب الشرط الأول: فذلك شافيك والثاني: فلا لوم عليك وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ} إلخ دليل عليهما.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي: أرض الكفرة، ننقصها عليهم بإظهار دين الإسلام في أطراف ممالكهم.
قال ابن عباس: أي: أولم يروا أنا نفتح للرسول الأرض بعد الأرض؛ يعني أن انتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أنه تعالى ينجز وعده، ونظيره قوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء: 44]، وقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} [فصلت: من الآية 53].
قال الشهاب: هذا مرتبط بما قبله. يعني لم يؤخر عذابهم لإهمالهم، بل لوقته المقدر، أوَ مَا تَرَى نقص ما في أيديهم من البلاد وزيادة ما لأهل الإسلام، ولم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم به تعظيمًا له، وخاطبهم تهويلًا وتنبيهًا عن سنة الغفلة. ومعنى: {نَأْتِي الأَرْضَ} يأتيها أمرنا وعذابنا. انتهى.
وقيل: {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم. فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع؟.
تنبيه:
يذكرون- ها هنا- رواية عن ابن عباس ومجاهد: أن نقصها من أطرافها هو موت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها. ويؤيد من يعتمد ذلك بأن الجوهري حكى عن ثعلب: أن الأطراف يطلق على الأشراف، جمع طرف وهو الرجل الكريم، وشاهده قول الفرزدق:
واسأل بنا وبكم إذا وردت ** منى أطراف كل قبيلة من يتبع

يريد أشراف كل قبيلة. فمعنى الآية: أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات: موت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كان هذا مشاهدًا محسوسًا؛ فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر عليهم فيذلهم بعد العزة! ولا يخفاك أن هذا المعنى لا يذكره السلف تفسيرًا للآية على أنه المراد منها، وإنما يذكرونه تهويلًا لخطب موت العلماء بسبب أنهم أركان الأرض وصلاحها وكمالها وعمرانها، فموتهم نقص لها وخراب منها. كما قال أحمد بن غزال:
الأرض تحيى إذا ما عاش عالمها ** متى يمت عالم منها يمت طرف

كالأرض تحيى إذا ما الغيث حل بها ** وإن أبى عاد في أكنافها التلف

ولذا قال الزهري كما في لسان العرب: أطراف الأرض نواحيها، الواحد طرف، و: {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي: نواحيها ناحية ناحية، وعلى هذا من فسر نقصها من أطرافها فتوح الأرضين. وأما من جعل نقصها من أطرافها موت علمائها فهو من غير هذا، قال: والتفسير على القول الأول.
وقوله تعالى: {وَاللّهُ يَحْكُمُ} أي: ما يشاء كما يشاء، وقد حكم للإسلام بالعز والإقبال، وعلى الكفر بالذل والإدبار، حسبما يشاهد من المخايل والآثار. وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وبناء الحكم على الاسم الجليل، من الدلالة على الفخمة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى، وهو جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها.
وقوله تعالى: {لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} اعتراض في اعتراض؛ لبيان علو شأن حكمه تعالى، وقيل: نصب على الحالية، كأنه قيل: والله يحكم نافذًا حكمه، كما تقول: جاء زيد لا عمامة على رأسه، أي: حاسرًا. والمعقب من ينكر على الشيء فيبطله، وحقيقته من يعقبه ويقفّيه بالرد والإبطال. أفاده أبو السعود.
{وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي: فعمَّا قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا بالقتل والأسر.
{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي: مكر الكفار الذين خلوا، إيقاع المكروه بأنبيائهم والمؤمنين كما مكر هؤلاء، وقوله: {فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} إشارة إلى ضعف مكرهم وكيدهم لاضمحلاله وذهاب أثره، وأنه مما لا يسوء، وأن المكر المرهوب هو ما سيؤخذون به من إيقاع فنون النكال، وهم نائمون على فرش الإمهال، مما لا يخطر لهم على بال، كما يومئ إليه قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} أي: فيوفيها جزاءها المعد لها على ما كسبت من فنون المعاصي التي منها مكرهم، من حيث لا يحتسبون: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} أي: العاقبة الحميدة، وعلى من تدور الدائرة، وهذا كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 50- 52].
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فإنه أظهر على رسالتي، من الحجج القاطعة والبينات الساطعة، وما فيه مندوحة عن شهادة شاهد آخر. قيل: جعل هذا شهادة وهو فعل والشهادة قول على سبيل الاستعارة؛ لأنه يغني عن الشهادة بل هو أقوى. انتهى. ولا يخفى أن الشهادة أعم من القول والفعل. على أن المراد من تلك الججج هي آيات القرآن والذكر الحكيم، وهي كلامه تعالى، وقد قال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس: 53].
وقوله تعالى: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي: ومن هو من علماء أهل الكتاب فإنهم يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم من بشارات الأنبياء به. كما قال تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء: 197].
ويروى عن مجاهد أنه عنى بـ: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} عبد الله بن سلام. ونوقش بأن السورة مكية، وإسلامه كان بالمدينة. وأجاب البعض بأن بعض السور المكية ربما وجد في مدني وبالعكس، وكأن هذه الآية من ذلك.
وقد روى الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في دلائل النبوة: أن عبد الله بن سلام أسلم قبل الهجرة، حيث رحل إلى مكة قبلها، واستيقن نبوته صلوات الله عليه. ثم آب إلى المدينة وكتم إسلامه إلى أن كانت الهجرة. والله أعلم. اهـ.