فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْخُطَّابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَلَكِنْ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشَارِكُونَهُ فِي الْأَلَمِ مِنْ إِيذَائِهِمْ وَالطَّمَعِ بِهِدَايَتِهِمْ فَأَشْرَكَهُمْ بِالتَّسْلِيَةِ كَمَا سَبَقَ؛ وَلِأَنَّ طَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِيمَانِهِمْ كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الِانْبِسَاطِ مَعَهُمْ فِي الْمُعَاشَرَةِ إِلَى حَدِّ الْإِفْضَاءِ إِلَيْهِمْ بِبَعْضِ الشُّئُونِ الْمَلِيَّةِ الْمَحْضَةِ وَاتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً، وَكَانَ يَعْقُبُ ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ مَا يَعْقُبُ حَتَّى نَهَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِأَوْصَافِ هَؤُلَاءِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [3: 118] وَالْآيَةُ التَّالِيَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْإِفْضَاءِ أَيْضًا.
أَمَّا الْحُجَّةُ الَّتِي وَصَلَهَا بِإِنْكَارِ الطَّمَعِ بِإِيمَانِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ طَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ؛ فَهِيَ تَعْمُدُ تَحْرِيفِ كَلَامِ اللهِ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى اخْتَارَ بِأَمْرِ اللهِ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ لِسَمَاعِ الْوَحْيِ وَمُشَاهَدَةِ الْحَالِ الَّتِي يُكَلِّمُهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا، وَقَدْ سَمِعُوا كَلَامَ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا نَعْرِفُهُ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ أَنَّهُمْ صَحِبُوهُ إِلَى حَيْثُ كَانَ يُنَاجِي اللهَ تَعَالَى، وَكَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى مَعَهُمْ أَنْ صَدَّقُوا بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عليه السلام هُوَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَالتَّصْدِيقُ بِذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّتِهِ وَكُنْهِهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا نُصَدِّقُ بِهِ تَصْدِيقَ يَقِينٍ لَا نَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَكُنْهَهُ وَلَا كَيْفِيَّةَ تَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُخْتَارِينَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، حَرَّفُوا كَلَامَ اللهِ الَّذِي حَضَرُوا وَحْيَهُ وَأَذْعَنُوا لَهُ، بِأَنْ صَرَفُوهُ عَنْ وَجْهِهِ بِالتَّأْوِيلِ- كَمَا حَقَّقَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُ- وَهَذَا التَّحْرِيفُ ثَابِتٌ عِنْدَهُمْ، مَنْصُوصٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالتَّارِيخِ الدِّينِيِّ الَّذِي يُسَمَّى التَّارِيخَ الْمُقَدَّسَ.
فَدَلَّ هَذَا مَا سَبَقَهُ عَلَى أَنَّ الْقَسْوَةَ الْمَانِعَةَ مِنَ التَّأَثُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَمُكَابَرَةَ الْحَقِّ وَالتَّفَصِّيَ مِنْ عِقَالِ الشَّرِيعَةِ، كَانَ شَنْشَنَةً قَدِيمَةً فِيهِمْ، ثُمَّ تَأَصَّلَ فَصَارَ غَرِيزَةً مَطْبُوعَةً، فَإِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ لَا يَسْتَلْزِمُ الطَّعْنَ عَلَيْهِ، وَلَا الْقَوْلَ بِجَوَازِ تَسَلُّقِ شَيْءٍ مِنَ الرَّيْبِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَعَانَدُوا وَجَاحَدُوا وَهُمْ يُشَاهِدُونَ الْآيَاتِ الْحِسِّيَّةَ، وَيُؤْخَذُونَ بِالْعُقُوبَاتِ الْمَعَاشِيَّةِ، فَكَيْفَ يُسْتَنْكَرُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْ دِينٍ دَلَائِلُهُ عَقْلِيَّةٌ، وَآيَتُهُ الْكُبْرَى مَعْنَوِيَّةٌ! وَهِيَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ بِمَا فِيهِ مِنْ عُلُومِ الْهِدَايَةِ، وَدَقَائِقِ الْبَلَاغَةِ، وَأَنْبَاءِ الْغَيْبِ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ أُمِّيٍّ عَاشَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُزَاحِمْ فُحُولَ الْبَلَاغَةِ فِي نَثْرٍ وَلَا نَظْمٍ، وَفَهْمُ تِلْكَ الدَّلَائِلِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ الْحُرَّةِ وَالْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ، الَّذِينَ لَطُفَ شُعُورُهُمْ وَرَقَّ وِجْدَانُهُمْ، وَصَحَّتْ أَذْوَاقُهُمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَا هُنَا تَحْرِيفَ كَلَامِ التَّوْرَاةِ الْمَكْتُوبِ لَمَا قَالَ: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ}، فَزِيَادَةُ {يَسْمَعُونَ} هُنَا لابد لَهَا مِنْ حِكْمَةٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى نَسَقِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا التَّحْرِيفَ، كَأَنْ يَقُولَ: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يُحَرِّفُ كَلَامَ اللهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} نَصٌّ فِي التَّعَمُّدِ وَسُوءِ الْقَصْدِ، وَإِبْطَالٌ لِمَا عَسَاهُ يُعْتَذَرُ لَهُمْ بِهِ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ. ثُمَّ قَالَ: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَيْ كَانُوا يَفْعَلُونَ فِعْلَتَهُمُ الشَّنْعَاءَ فِي حَالِ الْعِلْمِ بِالصَّوَابِ وَاسْتِحْضَارِهِ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى نِسْيَانٍ أَوْ ذُهُولٍ، وَفِي هَذَيْنَ الْقَيْدَيْنِ مِنَ النَّعْيِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ وَقَدْ بَطَلَ بِهِمَا عُذْرُ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَسَجَّلَ عَلَيْهِمْ تَعَمُّدَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ!
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الِاحْتِجَاجِ انْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ بَعْضِ أَحْوَالِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ وَقَدْ غَيَّرَ الْأُسْلُوبَ هُنَا، فَإِنَّهُ كَانَ يَحْكِي سَيِّئَاتِهِمْ مُبْتَدِئًا بِكَلِمَةِ وَإِذْ لِأَنَّهُ تَذْكِيرٌ بِمَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَالِابْتِدَاءُ بِكَلِمَةِ إِذَا هُنَا هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ حَالٍ وَاقِعَةٍ فِي الْحَالِ مُسْتَمِرَّةٍ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَالْمُرَادُ مِنْ حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْحَاضِرِينَ بَيَانُ أَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِأَحْوَالِ سَلَفِهِمُ الْغَابِرِينَ، وَأَنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْ هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ مِمَّا كَانَ مِنْ أُولَئِكَ، قَالَ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}؟.
تُرْشِدُ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ الْبَشَرِ فِي زَمَنِ الْإِصْلَاحِ، وَهِيَ أَنَّ جَمَاهِيرَ النَّاسِ يَقَعُونَ فِي الْحَيْرَةِ بَيْنَ الْهِدَايَةِ الْجَدِيدَةِ وَالتَّقَالِيدِ الْقَدِيمَةِ، لَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْحَقِّ فَيَتَحَرَّوُا اتِّبَاعَهُ أَيْنَ كَانَ، وَلَكِنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ فِي مَنْفَعَتِهِمُ الْخَاصَّةِ، يَقُولُونَ: نَخْشَى أَنْ نَجْهَرَ بِالْجَدِيدِ فَيُخْذَلَ حِزْبُهُ وَيَتَفَرَّقَ شَمْلُهُ فَنَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَلَا نَأْمَنُ إِنْ بَقِينَا عَلَى الْقَدِيمِ أَنْ يَتَقَلَّصَ ظِلُّهُ، وَيُذَلَّ أَهْلُهُ فَنَكُونَ مَعَ الضَّالِّينَ. فَالْحَزْمُ أَنْ نُوَافِقَ كُلَّ حِزْبٍ نَخْلُو بِهِ، وَنَعْتَذِرَ إِلَى الْآخَرِ إِذَا هُوَ عَلِمَ بِمَا كَانَ مِنَّا إِلَى أَنْ نَتَبَيَّنَ الْفَوْزَ فِي أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، فَيَكُونُونَ هَكَذَا مُذَبْذَبِينَ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ}... إِلَخْ.
الضَّمِيرُ فِي قَالُوا الثَّانِيَةِ غَيْرُ الضَّمِيرِ فِي قَالُوا الْأُولَى كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ السِّيَاقِ وَلَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، وَمِثْلُهُ مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ، وَفِي التَّنْزِيلِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [2: 232] فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنِ الْعَضَلِ الْأَوْلِيَاءُ لَا الْمُطَلِّقُونَ. وَالْكَلَامُ فِي الْقُرْآنِ لِلْمُكَلَّفِينَ كَافَّةً، فَيُوَجِّهُ كُلَّ كَلَامٍ إِلَى صَاحِبِهِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَوِ الْمَقَالِ. فَإِذَا وَجَّهَ الْخِطَابَ بِالطَّلَاقِ إِلَى الْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ يُوَجِّهُ الْخِطَابَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْعَضَلِ- وَهُوَ مَنْعُ الْمَرْأَةِ مِنَ التَّزَوُّجِ- إِلَى الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُمْ. وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَتَخَرَّجُ قَوْلُهُ: {قَالُوا آمَنَّا} وَقَوْلُهُ: {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ} فَالْكَلَامُ فِي مَجْمُوعِ الْيَهُودِ، وَيُوَجِّهُ الْأَوَّلَ إِلَى الَّذِينَ يُلَاقُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالثَّانِي إِلَى الَّذِينَ يُلَاقِيهِمْ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَيَعْذِلُونَهُمْ عَلَى الْإِفْضَاءِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ.
الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هُنَا: الْإِنْعَامُ بِالشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ، وَالْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَبَّهَ الَّذِي يُعْطَى الشَّرِيعَةَ بِالْمَحْصُورِ يُفْتَحُ عَلَيْهِ فَيَخْرُجُ مِنَ الضِّيقِ، أَوْ مَعْنَى {بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} بِمَا حَكَمَ بِهِ وَأَخَذَ بِهِ الْمِيثَاقَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يَجِيئُكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَنَصْرِهِ، وَقَوْلُهُ: {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} مَعْنَاهُ يُقِيمُونَ بِهِ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكُمْ وَهُوَ التَّوْرَاةُ مِنْ حَيْثُ أَنَّ مَا تُحَدِّثُونَهُمْ بِهِ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ، فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلَا أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ لَمَا عَلِمَ بِهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْكُمْ، وَقَدْ كَانَ مِثْلُنَا لَا يَعْرِفُ مِنْ أَمْرِ الْكِتَابِ شَيْئًا. هَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فِي تَفْسِيرِ {عِنْدَ رَبِّكُمْ} وَهُوَ أَنَّهُ بِمَعْنَى فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [24: 13] أَيْ فِي حُكْمِهِ الْمُبَيَّنِ فِي كِتَابِهِ. وَذَهَبَ مُفَسِّرُنَا الْجَلَالُ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الْمُحَاجَّةُ فِي الْآخِرَةِ، وَالنَّظْمُ لَا يَأْبَاهُ، وَلَكِنَّ فِيهِ اعْتِرَافًا مِنَ اللَّائِمِينَ الْمُؤَنِّبِينَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي لَا يُنْجِي عِنْدَ اللهِ سِوَاهُ، وَمَنِ اعْتَقَدَ هَذَا لَا يَجْعَلُهُ تَعْلِيلًا لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَرَاهُ مِنْ قَوْمِهِ، يُحَدِّثُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُوَافِقُهُمْ وَيُقَوِّي حُجَّتَهُمْ، بَلْ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ تَرْكَ تَحْدِيثِهِمْ لَا يَمْنَعُهَا فِي الْآخِرَةِ.
مِثْلُ هَذِهِ الذَّبْذَبَةِ تَكُونُ مِنَ الْأُمَمِ فِي طَوْرِ الضَّعْفِ وَلاسيما ضَعْفُ الْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ، وَلَوْ كَانَ لِأُولَئِكَ الْقَوْمِ إِرَادَةٌ قَوِيَّةٌ لَثَبَتُوا ظَاهِرًا عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ بَاطِلًا، وَلَمْ يُصَانِعُوا مُخَالِفِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْأُولَى أَوِ الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ وَبَّخَهُمُ اللهُ تَعَالَى وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّلَوُّنَ وَالدِّهَانَ فِي الدِّينِ، وَلِقَاءَ كُلِّ فَرِيقٍ بِوَجْهٍ يُظْهِرُونَ لَهُ مَا يُسِرُّونَ مِنْ أَمْرِ الْآخَرِ، فَقَالَ: {أَوَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} يَعْنِي أَيَقُولُ اللَّائِمُونَ أَوِ الْمُنَافِقُونَ كُلُّهُمْ مَا قَالُوا، وَيَكْتُمُونَ مِنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَتَمُوا، وَيُحَرِّفُونَ مِنْ كِتَابِهِمْ مَا حَرَّفُوا، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ مِنْ كُفْرٍ وَكَيْدٍ، وَمَا يُعْلِنُونَ مِنْ إِظْهَارِ إِيمَانٍ وَوُدٍّ، فَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى، فَلِمَ لَا يَحْفَلُونَ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى ظَوَاهِرِهِمْ، وَإِحَاطَتِهِ بِمَا يَجُولُ فِي أَطْوَاءِ ضَمَائِرِهِمْ، وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عِلْمِهِ مِنْ خِزْيٍ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابٍ فِي الْآخِرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}.
ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ شَأْنُ عُلَمَائِهِمْ، يُحَرِّفُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَخْرُجُونَ مِنْ حُكْمِهِ بِالتَّأْوِيلِ، وَهَذَا هُوَ شَأْنُ عَامَّتِهِمْ، لَا عِلْمَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ، وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِالْأَحْكَامِ، وَمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الدِّينِ فَهُوَ أَمَانِيٌّ يَتَمَنَّوْنَهَا وَتَجُولُ صُوَرُهَا فِي خَيَالَاتِهِمْ، وَهَذِهِ الصُّوَرُ هِيَ كُلُّ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِدِينِهِمْ، وَمَا هُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا هِيَ ظُنُونٌ يَلْهَوْنَ بِهَا، وَهَذَا هُوَ مَحِلُّ الذَّمِّ لَا مُجَرَّدُ كَوْنِهِمْ أُمِّيِّينَ، فَإِنَّ الْأُمِّيَّ قَدْ يَتَلَقَّى الْعِلْمَ عَنِ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ وَيَعْقِلُهُ عَنْهُمْ بِدَلِيلِهِ فَيَكُونُ عِلْمُهُ صَحِيحًا، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ سُمِّيَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمَانِيِّ ظَنًّا مَعَ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ عَنْ رُؤَسَاءِ دِينِهِمُ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ عِنْدَهُمْ وَسَلَّمُوهُ تَسْلِيمًا، فَلَمْ يَكُنْ فِي نُفُوسِهِمْ مَا يُخَالِفُهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى اعْتِقَادًا وَعِلْمًا؟ نَقُولُ: إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالدَّلِيلِ وَلَا يُسَمِّي مِثْلَ ذَلِكَ عِلْمًا إِلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مَعْنَى الْعِلْمِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا وَمُسَلَّمًا إِلَّا لِأَنَّ مُقَابِلَهُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ، وَلَوْ أُرِدَ عَلَيْهِمْ لَتَزَلْزَلَ مَا عِنْدَهُمْ ثُمَّ زَالَ، أَوْ ظَهَرَ فِيهِ الشَّكُّ وَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ الِاحْتِمَالُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ: إِنَّ الظَّنَّ أَوِ التَّرَدُّدَ كَانَ نَائِمًا فِي نُفُوسِهِمْ، وَهُوَ عُرْضَةٌ لِأَنْ يُوقِظَهُ نَقِيضُهُ وَيَذْهَبَ بِهِ مَتَى طَرَأَ، وَنَوْمُ الظَّنِّ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى اعْتِقَادًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْأَمَانِيُّ تُوجَدُ فِي كُلِّ الْأُمَمِ فِي حَالِ الضَّعْفِ وَالِانْحِطَاطِ، يَفْتَخِرُونَ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَبِسَلَفِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا مُهْتَدِينَ بِهَا، وَبِمَا لَهُمْ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي كَانَتْ ثَمَرَةَ تِلْكَ الْهِدَايَةِ، وَتُسَوِّلُ لَهُمُ الْأَمَانِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي نَجَاتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ. هَكَذَا كَانَ الْيَهُودُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ، وَقَدِ اتَّبَعْنَا سُنَنَهُمْ وَتَلَوْنَا تُلُوَّهُمْ، فَظَهَرَ فِينَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ» وَإِنَّنَا نَقْرَأُ أَخْبَارَهُمْ فَنَسْخَرُ مِنْهُمْ وَلَا نَسْخَرُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَنَعْجَبُ لَهُمْ كَيْفَ رَضُوا بِالْأَمَانِيِّ، وَنَحْنُ غَارِقُونَ فِيهَا!
ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِيمَانِ صَاحِبِهِ، وَقَدْ مَضَى عَلَى هَذَا إِجْمَاعُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَأَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْجَاهِلُ يَأْخُذُ عَنِ الْعَالِمِ الْعَقِيدَةَ بِبُرْهَانِهَا، وَالْأَحْكَامَ بِرِوَايَتِهَا، وَلَا يَتَقَلَّدُ رَأْيَهُ كَيْفَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْأَمَانِيَّ بِالْأَكَاذِيبِ ابْتِدَاءً، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْقِرَاءَاتِ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا قِرَاءَةَ أَلْفَاظِهِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ وَلَا اعْتِبَارٍ يَظْهَرُ أَثَرُهُمَا فِي الْعَمَلِ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [62: 5] وَقَدْ وَرَدَ التَّمَنِّي بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ** تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّمَنِّي قَدْ بَرَزَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى سَبَقُوا مَنْ قَبْلَهُمْ، فَقَدْ أَمْسَوْا أَكْثَرَ الْأُمَمِ تِلَاوَةً لِكِتَابِهِمْ، وَأَقَلَّهُمْ فَهْمًا لَهُ وَاهْتِدَاءً بِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّمَا يُحْسِنُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ مَنْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ بِتَارِيخِ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَوُقُوفٍ عَلَى حَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَّا نُسْخَةً مِنْ حَالِ بَعْضِ الشُّعُوبِ الْمَوْجُودِينَ الْآنَ كَانُوا أَكْثَرَ النَّاسِ مِرَاءً وَجِدَالًا فِي الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ بَيِّنًا بَاهِرًا، وَأَشَدَّ النَّاسِ كَذِبًا وَغُرُورًا وَأَكْلًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا الْفَاحِشِ، وَغِشًّا وَتَدْلِيسًا وَتَلْبِيسًا، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْخَاصُّ وَأَفْضَلُ النَّاسِ كَمَا يَعْتَقِدُ أَشْبَاهُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَهَذِهِ هِيَ الْأَمَانِيُّ الَّتِي صَدَّتْهُمْ عَنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا اللَّفْظُ وَالنَّظْمُ فَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَمَانِيَّ} اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ قَاصِرٌ لَا يَشْمَلُ الْأَمَانِيَّ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا، وَالْآيَةُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: مَا عَلِمْتُ فُلَانًا إِلَّا فَاضِلًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْكِتَابِ أَنَّهُ مَجْمُوعَةُ أَمَانِيٍّ يُمَنُّونَهَا أَنْفُسَهُمْ، فَهُمْ لَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ إِلَّا مَا هُوَ لَهُمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي غُرُورِهِمْ، وَأَمَّا مَا يُنَبِّهُهُمْ عَلَى سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ.
ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}.
قَالَ الْمُفَسِّرُ الْجَلَالُ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَ الْأَحْكَامَ عَلَى خِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ، كَآيَةِ الرَّجْمِ وَوَصَفِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لَمَا بُدِئَ الْكَلَامُ بِالْفَاءِ، وَإِنَّمَا الْآيَةُ وَعِيدٌ عَلَى أَنْ لَبَّسُوا عَلَى النَّاسِ بِالْكِتَابَةِ، وَتَأْلِيفِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ وَإِيهَامِ الْعَامَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا كَتَبُوهُ فِيهَا مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ كَمَا يَعْتَقِدُ الْمُقَلِّدُونَ مِنْ كُلِّ مِلَّةٍ بِكُتُبِ الدِّينِ الَّتِي يُؤَلِّفُهَا عُلَمَاؤُهُمْ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ اخْتِلَافَهَا لَا يُنَافِي كَوْنَهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، خِلَافًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [4: 82]، فَهَذِهِ الْكُتُبُ هِيَ مَثَارُ الْأَمَانِيِّ وَالْغُرُورِ؛ وَلِذَلِكَ أَنْزَلَ عَلَى أَصْحَابِهَا الْهَلَاكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَصْنَافَ الْيَهُودِ مِنْ مُنَافِقِينَ وَمُحَرِّفِينَ وَأُمِّيِّينَ فَقَالَ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينِ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ}.
أَقُولُ: أَيْ وَيْلٌ وَهَلَاكٌ عَظِيمٌ لِأُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكُتُبَ بِأَيْدِيهِمْ وَيُودِعُونَهَا آرَاءَهُمْ وَيَحْمِلُونَ النَّاسَ عَلَى التَّعَبُّدِ بِهَا قَائِلِينَ: إِنَّ مَا فِيهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهَا عَنِ الْكِتَابِ الَّذِي نَفْهَمُ مِنْهُ مَا لَا يَفْهَمُ غَيْرُنَا، يَخْطُبُونَ بِتِلْكَ الْكُتُبِ مَيْلَ الْعَامَّةِ وَوُدَّهُمْ، وَيَبْتَغُونَ الْجَاهَ عِنْدَهُمْ وَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالدِّينِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، وَكُلُّ مَا يُبَاعُ بِهِ الْحَقُّ وَيُتْرَكُ لِأَجْلِهِ فَهُوَ قَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ أَثْمَنُ الْأَشْيَاءِ وَأَغْلَاهَا، وَأَرْفَعُهَا وَأَعْلَاهَا؛ وَلِذَلِكَ كَرَّرَ الْوَعِيدَ فَقَالَ: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}، فَالْهَلَاكُ وَالْوَيْلُ مُحِيطٌ بِهِمْ مِنْ أَقْطَارِهِمْ، وَنَازِلٌ بِهِمْ مِنْ جَانِبِ الْوَسِيلَةِ وَمِنْ جَانِبِ الْمَقْصِدِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَنْ شَاءَ أَنْ يَرَى نُسْخَةً مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الْيَهُودُ، فَلْيَنْظُرْ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ يَرَاهَا وَاضِحَةً جَلِيَّةً، يَرَى كُتُبًا أُلِّفَتْ فِي عَقَائِدِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ حَرَّفُوا فِيهَا مَقَاصِدَهُ وَحَوَّلُوهَا إِلَى مَا يَغُرُّ النَّاسَ وَيُمَنِّيهِمْ وَيُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَيَقُولُونَ: هِيَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هِيَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإِنَّمَا هِيَ صَادَّةٌ عَنِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَلَا يَعْمَلُ هَذَا إِلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ مَارِقٌ مِنَ الدِّينِ يَتَعَمَّدُ إِفْسَادَهُ وَيَتَوَخَّى إِضْلَالَ أَهْلِهِ، فَيَلْبَسُ لِبَاسَ الدِّينِ وَيَظْهَرُ بِمَظْهَرِ أَهْلِ الصَّلَاحِ، يُخَادِعُ بِذَلِكَ النَّاسَ لِيَقْبَلُوا مَا يَكْتُبُ وَيَقُولُ، وَرَجُلٌ يَتَحَرَّى التَّأْوِيلَ وَيَسْتَنْبِطُ الْحِيَلَ لِيُسَهِّلَ عَلَى النَّاسِ مُخَالَفَةَ الشَّرِيعَةِ ابْتِغَاءَ الْمَالِ وَالْجَاهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ وَقَائِعَ، طَابَقَ فِيهَا بَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ قَبْلُ، وَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ، ذَكَرَ وَقَائِعَ لِلْقُضَاةِ وَالْمَأْذُونِينَ، وَلِلْعُلَمَاءِ وَالْوَاعِظِينَ، فَسَقُوا فِيهَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ وَيَغْتَرُّ بِأَنَّهُ يَقْصِدُ نَفْعَ أُمَّتِهِ، كَمَا كَانَ أَحْبَارُ الْيَهُودُ يُفْتُونَ بِأَكْلِ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لِيَسْتَغْنِيَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ عَامِدًا عَالِمًا أَنَّهُ مُبْطَلٌ، وَلَكِنْ تَغُرُّهُ أَمَانِيُّ الشَّفَاعَاتِ وَالْمُكَفِّرَاتِ.
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
هَذَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ غُرُورِهِمْ، عَطَفَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَقَالَ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} قِيلَ: هِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُدَّةُ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْيَهُودِ أَنَّهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ عُمْرَ الدُّنْيَا عِنْدَهُمْ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، فَالْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الشَّفَاعَةُ يَمْكُثُ فِي النَّارِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ عَنْ كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا، وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَالْجَزَاءِ، وَإِلَّا كَانَ افْتِئَاتًا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَقَوْلًا عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَهَذَا مَا رَدَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِهِ بِقَوْلِهِ: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ}، أَيْ هَلْ عَهِدَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذَلِكَ وَوَعَدَ بِهِ فَكَانَ حَقًّا لَكُمْ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ عَهْدَهُ؟ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ: هَلِ اتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا بِاتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ اعْتِقَادًا وَائْتِمَارًا وَانْتِهَاءً وَتَخَلُّقًا، فَأَنْتُمْ وَاثِقُونَ بِعَهْدِ اللهِ فِي كِتَابِهِ لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَمَغْفِرَةِ مَا عَسَاهُ يَفْرُطُ مِنْهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ أَوِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ مُدَّةً قَصِيرَةً؟!
وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ لَسْتُمْ عَلَى عَهْدٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ كَذَّبَهُمْ بِقَوْلِهِ: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، أَيْ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ شَيْئًا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، إِذِ الْعِلْمُ بِمِثْلِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْهُ يُبَلِّغُهُ عَنْهُ رُسُلُهُ، وَالْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ جُرْأَةٌ وَافْتِيَاتٌ عَلَيْهِ وَكُفْرٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لابد مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا: إِمَّا اتِّخَاذُ عَهْدِ اللهِ، وَإِمَّا الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِذَا كَانَ اتِّخَاذُ الْعَهْدِ لَمْ يَحْصُلْ، تَعَيَّنَ أَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ بِجَهْلِكُمْ وَغُرُورِكُمْ، {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} الْآيَةِ، بَلَى مُبْطِلَةٌ لِدَعْوَاهُمْ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: لِلسَّيِّئَةِ هُنَا إِطْلَاقُهَا، وَخَصَّهَا مُفَسِّرُنَا الْجَلَالُ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِالشِّرْكِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا كَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} مَعْنًى؛ فَإِنَّ الشِّرْكَ أَكْبَرُ السَّيِّئَاتِ، وَهُوَ يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَعِيدَ لِذَاتِهِ كَيْفَمَا كَانَ، وَمَعْنَى إِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ هُوَ حَصْرُهَا لِصَاحِبِهَا، وَأَخْذُهَا بِجَوَانِبِ إِحْسَاسِهِ وَوِجْدَانِهِ، كَأَنَّهُ مَحْبُوسٌ فِيهَا لَا يَجِدُ لِنَفْسِهِ مَخْرَجًا مِنْهَا، يَرَى نَفْسَهُ حُرًّا مُطْلَقًا وَهُوَ أَسِيرُ الشَّهَوَاتِ، وَسَجِينُ الْمُوبِقَاتِ، وَرَهِينُ الظُّلُمَاتِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْإِحَاطَةُ بِالِاسْتِرْسَالِ فِي الذُّنُوبِ، وَالتَّمَادِي عَلَى الْإِصْرَارِ، قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [83: 14] أَيْ مِنَ الْخَطَايَا وَالسَّيِّئَاتِ، فَفِي كَلِمَةِ {يَكْسِبُونَ} مَعْنَى الِاسْتِرْسَالِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَرَانَ عَلَيْهِ: غَطَّاهُ وَسَتَرَهُ، أَيْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي غُلْفٍ مِنْ ظُلُمَاتِ الْمَعَاصِي، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَنْفَذٌ لِلنُّورِ يَدْخُلُ إِلَيْهَا مِنْهُ، وَمَنْ أَحْدَثَ لِكُلِّ سَيِّئَةٍ يَقَعُ فِيهَا تَوْبَةً نَصُوحًا وَإِقْلَاعًا صَحِيحًا، لَا تُحِيطُ بِهِ الْخَطَايَا، وَلَا تَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ السَّيِّئَاتُ. رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ- وَصَحَّحَاهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}» [83: 14].
لِمِثْلِ هَذَا كَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ.
قَوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} خَبَرُ {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، أَيْ هُمْ أَصْحَابُ دَارِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ الْأَحِقَّاءُ بِهَا دُونَ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ وَتَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْخَيْرِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَرَكَ السَّيِّئَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى إِطْلَاقِهَا فَلَمْ يُؤَوِّلْهَا بِالشِّرْكِ، وَلَكِنَّهُمْ أَوَّلُوا جَزَاءَهَا فَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخُلُودِ طُولُ مُدَّةِ الْمُكْثِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مَنْ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ وَإِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْمَعَاصِي عُمْرَهُ وَأَحَاطَتِ الْخَطَايَا بِنَفْسِهِ فَانْهَمَكَ فِيهَا طُولَ حَيَاتِهِ.
أَوَّلُوا هَذَا التَّأْوِيلَ هُرُوبًا مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، وَتَأْيِيدًا لِمَذْهَبِهِمْ أَنْفُسِهِمُ الْمُخَالِفِ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَالْقُرْآنُ فَوْقَ الْمَذَاهِبِ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مَنْ تُحِيطُ بِهِ خَطِيئَتُهُ، لَا يَكُونُ أَوْ لَا يَبْقَى مُؤْمِنًا.
وَأَقُولُ: إِنَّ فَتْحَ بَابِ تَأْوِيلِ الْخُلُودِ يُجَرِّئُ أَصْحَابَ اسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، وَالْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى خُلُودِ الْكَافِرِينَ فِي الْعَذَابِ طُولُ مُكْثِهِمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ الَّذِي سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، مَا كَانَ لِيُعَذِّبَ خَلْقَهُ عَذَابًا لَا نِهَايَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا بِالدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ لِمَنْفَعَتِهِمْ لَا لِمَنْفَعَتِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا الْمَنْفَعَةَ، وَإِذَا كَانَ التَّقْلِيدُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ كَمَا يَرَى فَاتِحُو الْبَابِ، فَقَدْ وَضَحَ عُذْرُ الْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مُقَلِّدُونَ لِعُلَمَائِهِمْ إِلَى آخِرِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ النَّاسُ وَلاسيما فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدِيمَةٌ، وَهِيَ أَكْبَرُ مُشْكِلَاتِ الدِّينِ.
نَعَمْ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِجْمَاعِ- وَلَوْ سُكُوتِيًّا- وَلَكِنَّ التَّأْوِيلَ بَابٌ لَا يَكَادُ يَسُدُّهُ- مَتَى فُتِحَ- شَيْءٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِي مُقَابَلَةِ أَهْلِ النَّارِ أَضْدَادَهُمْ أَهْلَ الْجَنَّةِ عَلَى سُنَّتِهِ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ فَ {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. أَقُولُ: أَيْ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ أَصْحَابُهَا الْحَقِيقِيُّونَ بِهَا، بِحَسَبِ وَعْدِ اللهِ وَفَضْلِهِ هُمْ خَالِدُونَ فِيهَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ مَعًا، إِذْ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، إِلَّا مَنْ آمَنَ فَمَاتَ وَلَمْ يَتَّسِعْ لَهُ الْوَقْتُ لِلْعَمَلِ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ بِمُقْتَضَى إِيمَانِهِ الصَّحِيحِ، وَمَا حَالَ دُونَهُ مِنَ الْآجَالِ عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ فِيهِ. اهـ.