فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)}
عطف على جملة: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت} [الرعد: 39] باعتبار ما تفيده من إبهام مراد الله في آجال الوعيد ومواقيت إنزال الآيات، فبينت هذه الجملة أن النبي ليس مأمورًا بالاشتغال بذلك ولا بترقبه وإنما هو مبلّغ عن الله لعباده والله يعلم ما يحاسب به عباده سواء شهد النبي ذلك أم لم يشهده.
وجعل التوفي كناية عن عدم رؤية حلول الوعيد بقرينة مقابلته بقوله: {نرينك}.
والمعنى: ما عليك إلا البلاغ سواء رأيت عذابهم أم لم تره.
وفي الإتيان بكلمة: {بعض} إيماء إلى أنه يرى البعض.
وفي هذا إنذار لهم بأن الوعيد نازل بهم ولو تأخر؛ وأن هذا الدين يستمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه إذا كان الوعيد الذي أمر بإبلاغه واقعًا ولو بعد وفاته فبالأولى أن يكون شرعه الذي لأجله جاء وعيد الكافرين به شرعًا مستمرًا بعده، ضرورة أن الوسيلة لا تكون من الأهمية بأشدّ من المقصد المقصودة لأجله.
وتأكيد الشرط بنون التوكيد و: {مَا} المزيدة بعد: {إنْ} الشرطية مراد منه تأكيد الربط بين هذا الشرط وجوابه وهو: {إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.
على أن نون التوكيد لا يقترن بها فعل الشرط إلاّ إذا زيدت: {ما}؛ بعد: {إن} الشرطية فتكون إرادة التأكيد مقتضية لاجتلاب مؤكدين، فلا يكون ذلك إلا لغرض تأكيد قويّ.
وقد أرى الله نبيئه بعض ما توعد به المشركين من الهلاك بالسيف يوم بدر ويوم الفتح ويوم حنين وغيرها من أيام الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُرِهِ بعضه مثل عذاب أهل الردة فإن معظمهم كان من المكذبين المبطنين الكفر مثل: مسيلمة الكذاب.
وفي الآية إيماء إلى أن العذاب الذي يحل بالمكذبين لرسوله صلى الله عليه وسلم عذاب قاصر على المكذبين لا يصيب غير المكذب لأنه استئصال بالسيف قابل للتجزئة واختلاف الأزمان رحمةً من الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم و{على} في قوله: {عليك البلاغ وعلينا الحساب} مستعملة في الإيجاب والإلزام، وهو في الأول حقيقة وفي الثاني مجاز في الوجوب لله بالتزامه به.
و{إنما} للحصر، والمحصور فيه هو البلاغ لأنه المتأخر في الذكر من الجملة المدخولة لِحرف الحصر، والتقدير: عليك البلاغ لا غيره من إنزال الآيات أو من تعجيل العذاب، ولهذا قدم الخبر على المبتدأ لتعيين المحصور فيه.
وجملة: {وعلينا الحساب} عطف على جملة: {عليك البلاغ} فهي مدخولة في المعنى لحرف الحصر.
والتقدير: وإنما علينا الحساب، أي محاسبتهم على التكذيب لا غير الحساب من إجابة مقترحاتهم.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)}
عطف على جملة: {وإما نرينك بعض الذي نعدهم} [الرعد: 40] المتعلقة بجملة {لكل أجل كتاب}.
عقبت بهذه الجملة لإنذار المكذبين بأن ملامح نصر النبي صلى الله عليه وسلم قد لاحت وتباشير ظَفَره قد طلعت ليتدبروا في أمرهم، فكان تعقيب المعطوف عليها بهذه الجملة للاحتراس من أن يتوهموا أن العقاب بطيء وغيرُ واقع بهم.
وهي أيضًا بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله مظهر نصره في حياته وقد جاءت أشراطه، فهي أيضًا احتراس من أن ييأس النبي صلى الله عليه وسلم من رؤية نصره مع علمه بأن الله متم نوره بهذا الدّين.
والاستفهام في: {أولم يروا أنا} إنكاري، والضمير عائد إلى المكذبين العائد إليهم ضمير: {نعدهم}.
والكلام تهديد لهم بإيقاظهم إلى ما دب إليهم من أشباح الاضمحلال بإنقاص الأرض، أي سكانها.
والرؤية يجوز أن تكون بصرية.
والمراد: رؤية آثار ذلك النقص؛ ويجوز أن تكون علمية، أي ألم يعملوا ما حل بأرضي الأمم السابقة من نقص.
وتعريف: {الأرض} تعريف الجنس، أي نأتي أية أرض من أرضي الأمم.
وأطلقت الأرض هنا على أهلها مجازًا، كما في قوله تعالى: {واسأل القرية} [سورة يوسف: 82] بقرينة تعلق النقص بها، لأن النقص لا يكون في ذات الأرض ولا يرى نقص فيها ولكنه يقع فيمن عليها.
وهذا من باب قوله تعالى: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها} [سورة محمد: 10].
وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بالأرض أرض الكافرين من قريش فيكون التعريف للعهد، وتكون الرؤية بصرية، ويكون ذلك إيقاظًا لهم لما غلب عليه المسلمون من أرض العدوّ فخرجت من سلطانه فتنقص الأرض التي كانت في تصرفهم وتزيد الأرض الخاضعة لأهل الإسلام.
وبنوا على ذلك أن هذه الآية نزلت بالمدينة وهو الذي حمل فريقًا على القول بأن سورة الرعد مدنية فإذا اعتبرت مدنية صح أن تفسر الأطراف بطرفين وهما مكة والمدينة فإنهما طرفا بلاد العرب، فمكة طرفها من جهة اليَمن، والمدينة طرف البلاد من جهة الشام، ولم يزل عدد الكفار في البلدين في انتقاص بإسلام كفارها إلى أن تمحضت المدينة للإسلام ثم تمحضت مكة له بعد يوم الفتح.
وأيًّا ما كان تفسير الآية وسبب نزولها ومكانه فهي للإنذار بأنهم صائرون إلى زوال وأنهم مغلوبون زائلون، كقوله في الآية الأخرى في سورة الأنبياء: {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون} [سورة الأنبياء: 51]، أي ما هم الغالبون. وهذا إمهال لهم وإعذار لعلهم يتداركون أمرهم.
وجملة: {والله يحكم لا معقب لحكمه} [سورة الرعد: 41] عطف على جملة {أولم يروا أنا} مؤكدة للمقصود منها، وهو الاستدلال على أن تأخير الوعيد لا يدل على بطلانه، فاستدل على ذلك بجملة: {وإما نرينك بعض الذي نعدهم} ثم بجملة: {أولم يروا أنا نأتي الأرض} ثم بجملة: {والله يحكم}، لأن المعنى: أن ما حكم الله به من العقاب لا يبطله أحد وأنه واقع ولو تأخر.
ولذلك فجملة: {لا معقب لحكمه} في موضع الحال، وهي المقيدة للفعل المراد إذ هي مصب الكلام إذ ليس الغرض الإعلام بأن الله يحكم إذ لا يكاد يخفى، وإنما الغرض التنبيه إلى أنه لا معقب لحكمه. وأفاد نفي جنس المعقب انتفاء كل ما من شأنه أن يكون معقبًا من شريك أو شفيع أو داع أو راغب أو مستعصم أو مفتد.
والمعقب: الذي يعقب عملًا فيبطله، مشتق من العَقِب، وهو استعارة غلبت حتى صارت حقيقة.
وتقدم عند قوله تعالى: {له معقبات} [سورة الرعد: 11] في هذه السورة، كأنه يجيء عقب الذي كان عمل العمل.
وإظهار اسم الجلالة بعد الإضمار الذي في قوله: {أنا نأتي الأرض} لتربية المهابة، وللتذكير بما يحتوي عليه الاسم العظيم من معنى الإلهية والوحدانية المقتضية عدم المنازع، وأيضًا لتكون الجملة مستقلة بنفسها لأنها بمنزلة الحكمة والمثل.
وجملة: {وهو سريع الحساب} يجوز أن تكون عطفًا على جملة: {والله يحكم} فتكون دليلًا رابعًا على أن وعده واقع وأن تأخره وإن طال فما هو إلا سريع باعتبار تحقق وقوعه؛ ويجوز أن يكون عطفًا على جملة الحال.
والمعنى: يحكم غير منقوص حكمه وسريعًا حسابه.
ومآل التقديرين واحد.
والحساب: كناية عن الجزاء والسرعة: العجلة، وهي في كل شيء بحسبه.
{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)}
لما كان قوله: {أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} [سورة الرعد: 41] تهديدًا وإنذارًا مثل قوله: {فقد جاء أشراطها} [محمد: 18] وهو إنذار بوعيد على تظاهرهم بطلب الآيات وهم يضمرون التصميم على التكذيب والاستمرار عليه.
شبه عملهم بالمكر وشبه بعمل المكذبين السابقين كقوله: {ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها} [سورة الأنبياء: 6].
وفي هذا التشبيه رمز إلى أن عاقبتهم كعاقبة الأمم التي عَرفوها.
فنقص أرض هؤلاء من أطرافها من مكر الله بهم جزاء مكرهم، فلذلك أعقب بقوله: {وقد مكر الذين من قبلهم} أي كما مكر هؤلاء.
فجملة: {وقد مكر الذين من قبلهم} حال أو معترضة.
وجملة: {فللَّه المكر جميعًا} تفريع على جملة: {أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} [الرعد: 41] وجملة: {والله يحكم لا معقب لحكمه} [الرعد: 41].
والمعنى: مكَرَ هؤلاء ومكرَ الذين من قبلهم وحل العذاب بالذين من قبلهم فمكر الله بهم وهو يمكر بهؤلاء مكرًا عظيمًا كما مكر بمن قبلهم.
وتقديم المجرور في قوله: {فللَّه المكر جميعًا} للاختصاص، أي له لا لغيره، لأن مكره لا يدفعه دافع فمكر غيره كلاَ مكر بقرينة أنه أثبت لهم مكرًا بقوله: {وقد مكر الذين من قبلهم}.
وهذا بمعنى قوله تعالى: {والله خير الماكرين}.
وأكد مدلول الاختصاص بقوله: {جميعًا} وهو حال من المكر.
وتقدم في قوله تعالى: {إليه مرجعكم جميعًا} في [سورة يونس: 4].
وإنما جعل جميع المكر لله بتنزيل مكر غيره منزلة العدم، فالقصر في قوله: {فللَّه المكر} ادعائي، والعموم في قوله: {جميعًا} تنزيليّ.
وجملة: {يعلم ما تكسب كل نفس} بمنزلة العلة لجملة: {فللَّه المكر جميعًا}، لأنه لما كان يعلم ما تكسب كل نفس من ظاهر الكسب وباطنه كان مكره أشد من مكر كل نفس لأنه لا يفوته شيء مما تضمره النفوس من المكر فيبقى بعض مكرهم دون مقابلة بأشد منه فإن القوي الشديد الذي لا يعلم الغيوب قد يكون عقابه أشد ولكنه قد يفوقه الضعيف بحيلته.
وجملة: {وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار} عطف على جملة: {فللَّه المكر جميعًا}.
والمراد بالكافر الجنس، أي الكفار، و: {عقبى الدار} تقدم آنفًا، أي سيعلم عقبى الدار للمؤمنين لا للكافرين، فالكلام تعريض بالوعيد.
وقرأ الجمهور: {وسيعلم الكافر} بإفراد الكافر.
وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة والكسائي، وخلف: {وسيعلم الكفار} بصيغة الجمع.
والمفرد والجمع سواء في المعرف بلام الجنس.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)}
عطف على ما تضمنته جملة: {وقد مكر الذين من قبلهم} [الرعد: 42] من التعريض بأن قولهم: لولا أنزل عليه آية من ربه [سورة الأنعام: 37] ضَرْب من المكر بإظهارهم أنهم يتطلبون الآيات الدالة على صدق الرسول، مظهرين أنهم في شك من صدقه وهم يبطنون التصميم على التكذيب.
فذكرت هذه الآيةُ أنهم قد أفصحوا تارات بما أبطنوه فنطقوا بصريح التكذيب وخرجوا من طور المكر إلى طور المجاهرة بالكفر فقالوا: {لست مرسلًا}.
وقد حكي قولهم بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم ولاستحضار حالهم العجيبة من الاستمرار على التكذيب بعد أن رأوا دلائل الصدق، كما عبر بالمضارع في قوله تعالى: {ويصنع الفلك} [سورة هود: 38] وقوله: {يجادلنا في قوم لوط} [سورة هود: 11].
ولما كانت مقالتهم المحكية هنا صريحة لا مواربة فيها أمر الرسول بجواب لا جدال فيه وهو تحكيم الله بينه وبينهم.
وقد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يجيبهم جواب الواثق بصدقه المستشهد على ذلك بشهادة الصدق من إشهاد الله تعالى وإشهاد العالمين بالكتب والشرائع.
ولما كانت الشهادة للرسول عليه الصلاة والسلام بالصدق شهادة على الذين كفروا بأنهم كاذبون جعلت الشهادة بينه وبينهم.
وإشهاد الله في معنى الحلف على الصدق كقول هود عليه السلام: {إنّي أشهد الله} [هود: 54].
والباء الداخلة على اسم الجلالة الذي هو فاعل {كفى} في المعنى للتأكيد وأصل التركيب: كفى اللّهُ.
و{شهيدًا} حال لازمة أو تمييز، أي كفى الله من جهة الشاهد.
{ومن عنده علم الكتاب} معطوف على اسم الجلالة.
والموصول في: {ومن عنده علم الكتاب} يجوز أن يراد به جنس من يتصف بالصلة.
والمعنى: وكل من عندهم علم الكتاب.
وإفراد الضمير المضاف إليه: {عِنْدَ} لمراعاة لفظ: {من}.
وتعريف: {الكتاب} تعريف للعهد، وهو التوراة، أي وشهادة علماء الكتاب.
وذلك أن اليهود كانوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يستظهرون على المشركين بمجيء النبي المصدق للتوراة.
ويحتمل أن يكون المراد بمن عنده علم الكتاب معيّنًا، فهو ورقة بن نوفل إذ علم أهل مكة أنه شهد بأن ما أوحي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الناموس الذي أنزل على موسى عليه السلام كما في حديث بدء الوحي في الصحيح.
وكان ورقة منفردًا بمعرفة التوراة والإنجيل.
وقد كان خبر قوله للنبيء صلى الله عليه وسلم ما قاله معروفًا عند قريش..
فالتعريف في: {الكتاب} تعريف الجنس المنحصر في التوراة والإنجيل.
وقيل: أريد به عبد الله بن سلام الذي آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول مقدمهِ المدينة.
ويبعده أن السورة مكية كما تقدم.
ووجه شهادة علماء الكتاب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وجدانهم البشارة بنبيء خاتم للرسل صلى الله عليه وسلم ووجدانهم ما جاء في القرآن موافقًا لسنن الشرائع الإلهية ومفسرًا للرموز الواردة في التوراة والإنجيل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم المصدق الموعود به.
ولهذا المعنى كان التعبير في هذه الآية بـ: {من عنده علم الكتاب} دون أهل الكتاب لأن تطبيق ذلك لا يدركه إلا علماؤهم.
قال تعالى: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [سورة الشعراء: 97]. اهـ.