فصل: من فوائد الألوسي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الألوسي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} شروع في تعداد بعض آخر من قبائح أسلاف اليهود مما ينادي باستبعاد إيمان أخلافهم، وقيل: إنه نوع آخر من النعم التي خصهم الله تعالى بها، وذلك لأن التكليف بهذه الأشياء موصل إلى أعظم النعم وهو الجنة والموصل إلى النعمة نعمة، وهذا الميثاق ما أخذ عليهم على لسان موسى وغيره من أنبيائهم عليهم السلام، أو ميثاق أخذ عليهم في التوراة، وقول مكي: إنه ميثاق أخذه الله تعالى عليهم وهم في أصلاب آبائهم كالذر لا يظهرهم وجهه هنا.
{لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} على إرادة القول أي قلنا أو قائلين ليرتبط بما قبله وهو إخبار في معنى النهي كقوله تعالى: {لا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} [البقرة: 282] وكما تقول: تذهب إلى فلان وتقول له كيت وكيت، وإلى ذلك ذهب الفراء، ويرجحه أنه أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي كأنه سارع إلى ذلك فوقع منه حتى أخبر عنه بالحال أو الماضي أي ينبغي أن يكون كذلك فلا يرد أن حال المخبر عنه على خلافه وأنه قرأ ابن مسعود {لاَّ تَعْبُدُواْ} على النهي وأن {قُولُواْ} عطف عليه فيحصل التناسب المعنوي بينهما في كونهما إنشاء، وإن كان يجوز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب، وقيل: تقديره أن لا تعبدوا، فلما حذف الناصب ارتفع الفعل، ولا يجب الرفع بعد الحذف في مثل ذلك خلافًا لبعضهم وإلى هذا ذهب الأخفش ونظيره من نثر العرب مره يحفرها ومن نظمها:
ألا أيها الزاجري احضر الوغى ** وإن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

ويؤيد هذا قراءة {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ} ويضعفه أن أن لا تحذف قياسًا في مواضع ليس هذا منها؛ فلا ينبغي تخريج الآية عليه، وعلى تخريجها عليه فهو مصدر مؤول بدل من الميثاق أو مفعول به بحذف حرف الجر أي بأن لا أو على أن لا، وقيل: إنه جواب قسم دل عليه الكلام، أي حلفناهم لا تعبدون، أو جواب الميثاق نفسه لأن له حكم القسم، وعليه يخلو الكلام عما مر في وجه رجحان الأول، وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، ويعقوب، بالتاء حكاية لما خوطبوا به والباقون بالياء لأنهم غيب، وفي الآية حينئذٍ التفاتان في لفظ الجلالة ويعبدون.
{وبالوالدين إِحْسَانًا} متعلق بمضمر تقديره وتحسنون، أو أحسنوا، والجملة معطوفة على تعبدون وجوّز تعلقه ب {إحسانًا} وهو يتعدى بالباء، وإلى ك{أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السجن} [يوسف: 00 1] {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [القصص: 77] ومنع تقدم معمول المصدر عليه مطلقًا ممنوع، ومن المعربين من قدر استوصوا فبالوالدين متعلق به وإحسانًا مفعوله، ومنهم من قدر ووصيناهم فإحسانًا مفعول لأجله، والوالدان تثنية والد لأنه يطلق على الأب والأم أو تغليب بناءً على أنه لا يقال إلا للأب كما ذهب إليه الحلبي، وقد دلت الآية على الحث ببر الوالدين وإكرامهما، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، وناهيك احتفالًا بهما أن الله عز اسمه قرن ذلك بعبادته.
{وَذِى القربى واليتامى والمساكين} عطف على الوالدين والقربى مصدر كالرجعى والألف فيه للتأنيث وهي قرابة الرحم والصلب.
واليتامى وزنه فعالى وألفه للتأنيث، وهو جمع يتيم كنديم وندامى، ولا ينقاس، ويجمع على أيتام.
واليتم أصل معناه الانفراد، ومنه: الدرة اليتيمة، وقال ثعلب: الغفلة، وسمي اليتيم يتيمًا لأنه يتغافل عن بره، وقال أبو عمرو: الإبطاء لإبطاء البر عنه، وهو في الآدميين من قبل الآباء ولا يتم بعد بلوغ وفي البهائم من قبل الأمهات، وفي الطيور من جهتهما.
وحكى الماوردي أنه يقال في الآدميين لمن فقدت أمه أيضًا والأول هو المعروف والمساكين جمع مسكين على وزن مفعيل مشتق من السكون، كأن الحاجة أسكنته فالميم زائدة كمحضر من الحضور، وروي تمسكن فلان والأصح تسكن أي صار مسكينًا والفرق بينه وبين الفقير معروف وسيأتي إن شاء الله تعالى وقد جاء هذا الترتيب اعتناءً بالأوكد فالأوكد، فبدأ بالوالدين إذ لا يخفى تقدمهما على كل أحد في الإحسان إليهما، ثم بذي القربى لأن صلة الأرحام مؤكدة، ولمشاركة الوالدين في القرابة وكونهما منشأ لها وقد ورد في الأثر «إن الله تعالى خاطب الرحم فقال: أنت الرحم وأنا الرحمن أصل من وصلك وأقطع من قطعك»، ثم باليتامى لأنهم لا قدرة لهم تامة على الاكتساب، وقد جاء: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» وأشار صلى الله عليه وسلم إلى السبابة والوسطى وتأخرت درجة المساكين لأن المسكين يمكنه أن يتعهد نفسه بالاستخدام ويصلح معيشته مهما أمكن بخلاف اليتيم فإنه لصغره لا ينتفع به ويحتاج إلى من ينفعه وأفرد ذي القربى كما في (البحر) لأنه أريد به الجنس، ولأن إضافته إلى المصدر يندرج فيه كل ذي قرابة، وكأن فيه إشارة إلى أن ذوي القربى وإن كثروا كشيء واحد لا ينبغي أن يضجر من الإحسان إليهم.
{وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} أي قولًا حسنًا سماه به للمبالغة وقيل: هو لغة في الحسن كالبخل والبخل والرشد والرشد، والعرب والعرب، والمراد قولوا لهم القول الطيب وجاوبوهم بأحسن ما يحبون قاله أبو العالية وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قولوا لهم لا إله إلا الله مروهم بها، وقال ابن جريج: أعلموهم بما في كتابكم من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول أبي العالية في المرتبة العالية والظاهر أن هذا الأمر من جملة الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل: ومن قال: إن المخاطب به الأمة وهو محكم أو منسوخ بآية السيف أو إن الناس مخصوص بصالحي المؤمنين إذ لا يكون القول الحسن مع الكفار والفساق لأنا أمرنا بلعنهم وذمهم ومحاربتهم فقد أبعد وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب {حَسَنًا} بفتحتين وعطاء وعيسى بضمتين وهي لغة الحجاز وأبو طلحة بن مصرف {حسنى} على وزن فعلى، واختلف في وجهه فقيل: هو مصدر كرجعى، واعترضه أبو حيان بأنه غير مقيس ولم يسمع فيه، وقيل: هو صفة كحبلى أي مقالة أو كلمة حسنى وفي الوصف بها وجهان أحدهما: أن تكون باقية على أنها للتفضيل واستعمالها بغير الألف واللام والإضافة للمعرفة نادر وقد جاء ذلك في الشعر كقوله:
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة ** يومًا كرام سراة الناس فادعينا

وثانيهما: أن تجرد عن التفضيل فتكون بمعنى حسنة كما قالوا ذلك في: يوسف أحسن إخوته وقرأ الجحدري: {وبالوالدين إحسانا} على أنه مصدر أحسن الذي همزته للصيرورة كما تقول: أعشبت الأرض إعشابًا أي صارت ذا عشب فهو حينئذٍ نعت لمصدر محذوف أي قولًا ذا حسن.
{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءاتُواْ الزكواة} أراد سبحانه بهما ما فرض عليهم في ملتهم لأنه حكاية لما وقع في زمان موسى عليه السلام وكانت زكاة أموالهم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قربانًا تهبط إليها نار فتحملها وكان ذلك علامة القبول وما لا تفعل النار به كذلك كان غير متقبل، والقول بأن المراد بهما هذه الصلاة وهذه الزكاة المفروضتان علينا، والخطاب لمن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من أبناء اليهود لا غير، والأمر بهما كناية عن الأمر بالإسلام، أو للإيذان بأن الكفار مخاطبون بالفروع أيضًا ليس بشيء كما لا يخفى.
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أي أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه.
و{ثُمَّ} للاستبعاد أو لحقيقة التراخي فيكون توبيخًا لهم بالارتداد بعد الانقياد مدة مديدة وهو أشنع من العصيان من الأول، وقد ذكر بعض المحققين أنه إذا جعل ناصب الظرف خطابًا له صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فهذا التفات إلى خطاب بني إسرائيل جميعًا بتغليب أخلافهم على أسلافهم لجريان ذكرهم كلهم حينئذٍ على نهج الغيبة، فإن الخطابات السابقة للأسلاف محكية بالقول المقدر قبل لا تعبدون كأنهم استحضروا عند ذكر جناياتهم فنعيت عليهم وإن جعل خطابًا لليهود المعاصرين فهذا تعميم للخطاب بتنزيل الأسلاف منزلة الأخلاف كما أنه تعميم للتولي بتنزيل الأخلاف منزلة الأسلاف للتشديد في التوبيخ، وقيل: الالتفات إنما يجئ على قراءة {لا يَعْبُدُونَ} بالغيبة، وأما على قراءة الخطاب فلا التفات ومن الناس من جعل هذا الخطاب خاصًا بالحاضرين في زمنه عليه الصلاة والسلام وما تقدم خاصًا بمن تقدم، وجعل الالتفات على القراءتين لكنه بالمعنى الغير المصطلح عليه أن كون الالتفات بين خطابين لاختلافهما لم يقل به أهل المعاني لكنه وقع مثله في كلام بعض الأدباء وما ذكرناه من التغليب أولى وأحرى خلافًا لمن التفت عنه.
{إِلاَّ قَلِيلًا مِنْكُمْ} وهم من الأسلاف من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ، ومن الأخلاف من أسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه فالقلة في عدد الأشخاص، وقول ابن عطية: إنه يحتمل أن تكون في الإيمان أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل إذ لا ينفعهم لا يقدم عليه إلا القليل ممن لم يعط فهمًا في الألفاظ العربية، وروي عن أبي عمرو وغيره رفع قليل والكثير المشهور في أمثال ذلك النصب لأن ما قبله موجب، واختلفوا في تخريج الرفق فقيل: إن المرفوع تأكيد للضمير أو بدل منه، وجاز لأن توليتم في معنى النفي أي لم يفوا، وقد خرّج غير واحد قوله صلى الله عليه وسلم: فيما صح على الصحيح: «العالمون هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر» وقول الشاعر:
وبالصريمة منهم منزل خلق ** عاف تغير إلا النوء والوتد

على ذلك، وقول أبي حيان إنه ليس بشيء إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بنفي فيلزم جواز قام القوم إلا زيد بالرفع على التأويل والإبدال ولم يجوزه النحويون ليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: إن إلا صفة بمعنى غير ظهر إعرابها فيما بعدها، وقد عقد سيبويه لذلك بابًا في كتابه فقال: هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعدها وصفًا بمنزلة غير ومثل، وذكر من أمثلة هذا الباب لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا و{لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وقوله:
أينخت فألقت بلدة فوق بلدة ** قليل بها الأصوات إلا بغامها

وخرج جمع جميع ما سلف على هذا، وفيه أن ذلك فيما نحن فيه لا يستقيم إلا على مذهب ابن عصفور حيث ذهب إلى أن الوصف بإلا يخالف الوصف بغيرها من حيث إنه يوصف بها النكرة والمعرفة، والظاهر والمضمر وأما على مذهب غيره وهو ابن شاهين بالنسبة إليه من أنه لا يوصف بها إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة بلام الجنس فلا، والمبرد يشترط في الوصف بها صلاحية البدل في موضعه؛ وقيل: إنه مبتدأ خبره محذوف أي لم يقولوا ولا يرد عليه شيء مما تقدم إلا أن فيه كلامًا سنذكره إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: {إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين} [الأعراف: 11].
{وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} جملة معترضة أي وأنتم قوم عادتكم الإعراض والتولي عن المواثيق، ويؤخذ كونه عادتهم من الاسمية الدالة على الثبوت، وقيل: حال مؤكدة والتولي والإعراض شيء واحد ويجوز فصل الحال المؤكدة بالواو عند المحققين وفرق بعضهم بين التولي والإعراض بأن الأول قد يكون لحاجة تدعو إلى الانصراف مع ثبوت العقد والإعراض هو الانصراف عن الشيء بالقلب.
وقيل: إن التولي أن يرجع عوده إلى بدئه، والإعراض أن يترك المنهج ويأخذ في عرض الطريق والمتولي أقرب أمرًا من المعرض لأنه متى عزم سهل عليه العود إلى سلوك المنهج والمعرض حيث ترك المنهج وأخذ في عرض الطريق يحتاج إلى طلب منهجه فيعسر عليه العود إليه.
ومن الناس من جوز أن يكون معرضون على ظاهره، والجملة حال مقيدة أي لم يتول القليل وأنتم معرضون عنهم ساخطون لهم فيكون في ذلك مزيد توبيخ لهم ومدحًا للقليل فهو بعيد كالقول بأنها مقيدة ومتعلق التولي والإعراض مختلف أي توليتم على المضي في الميثاق وأعرضتم عن اتباع هذا النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
أعيد ذكر أحوال بني إسرائيل بعد ذلك الاستطراد المتفنن فيه، فأعيد الأسلوب القديم وهو العطف بإعادة لفظ إذ في أول القصص.
وأظهر هنا لفظ {بني إسرائيل} وعدل عن الأسلوب السابق الواقع فيه التعبير بضمير الخطاب المراد به سلف المخاطبين وخلفهم لوجهين: أحدهما أن هذا رجوع إلى مجادلة بني إسرائيل وتوقيفهم على مساويهم فهو افتتاح ثان جرى على أسلوب الافتتاح الواقع في قوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعدكم} [البقرة: 40] الآية.
ثانيهما: أن ما سيذكر هنا لما كان من الأحوال التي اتصف بها السلف والخلف وكان المقصود الأول منه إثبات سوء صنيع الموجودين في زمن القرآن تعين أن يعبر عن سلفهم باللفظ الصريح ليتأتى توجيه الخطاب من بعد ذلك إلى المخاطبين حتى لا يظن أنه من الخطاب الذي أريد به أسلافهم على وزان {وإذ نجيناكم من آل فرعون} [البقرة: 49] أو على وزان {ثم اتخذتم العجل من بعده} [البقرة: 51].
وقوله: {ميثاق بني إسرائيل} أريد به أسلافهم لأنهم الذين أعطوا الميثاق لموسى على امتثال ما أنزل الله من التوراة كما قدمناه، أو المراد بلفظ بني إسرائيل المتقدمون والمتأخرون، والمراد بالخطاب في {توليتم} خصوص من بعدهم لأنهم الذين تولوا فليس في الكلام التفات ما، وهو أولى من جعل ما صدق {بني إسرائيل} هو ما صدق ضمير {توليتم} وأن الكلام التفات.
وقوله: {لا تعبدون إلا الله} خبر في معنى الأمر ومجيء الخبر للأمر أبلغ من صيغة الأمر لأن الخبر مستعمل في غير معناه لعلاقة مشابهة الأمر الموثوق بامتثاله بالشيء الحاصل حتى إنه يخبر عنه.
وجملة {لا تعبدون} مبدأ بيان للميثاق فلذلك فصلت وعطف ما بعدها عليها ليكون مشاركًا لها في معنى البيانية سواء قَدَّرْت أنْ أو لم تقدِّرْها أو قدَّرت قولًا محذوفًا.
وقوله: {وبالوالدين إحسانًا} هو مما أخذ عليهم الميثاق به وهو أمر مؤكد لما دل عليه تقديم المتعلق على متعلقه وهما {بالوالدين إحسانًا} وأصله وإحسانًا بالوالدين، والمصدر بدل من فعله والتقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانًا.
ولا يريبكم أنه معمول مصدر وهو لا يتقدم على عامله على مذهب البصريين لأن تلك دعوى واهية دعاهم إليها أن المصدر في معنى أنْ والفعل فهو في قوة الصلة ومعمول الصلة لا يتقدم عليها مع أن أن والفعل هي التي تكون في معنى المصدر لا العكس، والعجب من ابن جني كيف تابعهم في شرحه للحماسة على هذا عند قول الحماسي:
وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان

وعلى طريقتهم تعلق قوله: {بالوالدين} بفعل محذوف تقديره وأحسنوا، وقوله: {إحسانًا} مصدر ويرد عليهم أن حذف عامل المصدر المؤكد ممتنع لأنه تبطل به فائدة التأكيد الحاصلة من التكرير فلا حاجة إلى جميع ذلك.
ونجزم بأن المجرور مقدم على المصدر، على أن التوسع في المجرورات أمر شائع وأصل مفروغ منه. اهـ.
واليتامى جمع يتيم كالندامى للنديم وهو قليل في جمع فعيل.
وجعل الإحسان لسائر الناس بالقول لأنه القدر الذي يمكن معاملة جميع الناس به وذلك أن أصل القول أن يكون عن اعتقاد، فهم إذا قالوا للناس حسنًا فقد أضمروا لهم خيرًا وذلك أصل حسن المعاملة مع الخلق قال النبيء صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» وقد علمنا الله تعالى ذلك بقوله: {ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا} [الحشر: 10] على أنه إذا عرض ما يوجب تكدر الخاطر فإن القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من الكدر ويرى للمقول له الصفاء فلا يعامله إلا بالصفاء قال المعري:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره ** مع الصفاء ويُخيفها مع الكدر

على أن الله أمر بالإحسان الفعلي حيث يتعين ويدخل تحت قدرة المأمور وذلك الإحسان للوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وإيتاء الزكاة، وأمر بالإحسان القولي إذا تعذر الفعلي على حد قول أبي الطيب:
فليسعد النطق إن لم تسعدالحال

وقوله: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} أطلقت الزكاة فيه على الصدقة مطلقًا أو على الصدقة الواجبة على الأموال: وليس المراد الكناية عن شريعة الإسلام لما علمت من أن هاته المعاطيق تابعة لبيان الميثاق وهو عهد موسى عليه السلام.
وقوله: {ثم توليتم إلا قليلًا منكم} خطاب للحاضرين وليس بالتفات كما علمت آنفًا.
والمعنى أخذنا ميثاق الأمة الإسرائيلية على التوحيد وأصول الإحسان فكنتم ممن تولى عن ذلك وعصيتم شرعًا اتبعتموه.
والتولي الإعراض وإبطال ما التزموه، وحذف متعلقه لدلالة ما تقدم عليه، أي توليتم عن جميع ما أخذ علكيم الميثاق به أي أشركتم بالله وعبدتم الأصنام وعققتم الوالدين وأسأتم لذوي القربى واليتامى والمساكين وقلتم للناس أفحش القول وتركتم الصلاة ومنعتم الزكاة.
ويجوز أن يكون المراد بالخطاب في {توليتم} المخاطبين زمن نزول الآية، وبعض من تقدمهم من متوسط عصور الإسرائيليين فيكون ضمير الخطاب تغليبًا، نكتته إظهار براءة الذين أخذ عليهم العهد أولًا من نكثه وهو من الإخبار بالجمع والمراد التوزيع أي توليتم فمنكم من لم يحسن للوالدين وذي القربى إلخ وهذا من صفات اليهود في عصر نزول الآية كما سيأتي في تفسير الآية التي بعدها، ومنكم من أشرك بالله وهذا لم ينقل عن يهود زمن النزول وإنما هومن صفات من تقدمهم من بعد سليمان فقد كانت من ملوك إسرائيل عبدة أصنام وتكرر ذلك فيهم مرارًا كما هو مسطور في سفري الملوك الأول والثاني من التوراة.
وثم للترتيبين الترتبي والخارجي.
وقوله: {إلا قليلًا منكم} إنصاف لهم في توبيخهم ومذمتهم وإعلان بفضل من حافظ على العهد.
وقوله: {وأنتم معرضون} جملة حالية ولكونها اسمية أفادت أن الإعراض وصف ثابت لهم وعادة معروفة منهم كما أشار إليه في (الكشاف) وهو مبني على اعتبار اسم الفاعل مشتقًا من فعل منزل منزلة اللازم ولا يقدر له متعلق ويجوز أن يقدر مشتقًا من فعل حذف متعلقه تعويلًا على القرينة أي وأنتم معرضون عن الوصايا التي تضمنت ذلك الميثاق أي توليتم عن تعمد وجرأة وقلة اكتراث بالوصايا وتركًا للتدبر فيها والعمل بها. اهـ.