فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني: أنه عليه السلام إذا قال لهم إن الله يخلق الكفر والضلال فيكم، فلهم أن يقولوا له فما الفائدة في بيانك، وما المقصود من إرسالك، وهل يمكننا أن نزيل كفرًا خلقه الله تعالى فينا عن أنفسنا وحينئذ تبطل دعوة النبوة وتفسد بعثة الرسل.
الثالث: أنه إذا كان الكفر حاصلًا بتخليق الله تعالى ومشيئته، وجب أن يكون الرضا به واجبًا لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب، وذلك لا يقوله عاقل.
والرابع: أنا قد دللنا على أن مقدمة هذه الآية وهو قوله: {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] يدل على مذهب العدل، وأيضًا مؤخرة الآية يدل عليه، وهو قوله: {وَهُوَ العزيز الحكيم} فكيف يكون حكيمًا من كان خالقًا للكفر والقبائح ومريدًا لها، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل قوله: {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ} على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد، فوجب المصير إلى التأويل، وقد استقصينا ما في هذه التأويلات في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] ولا بأس بإعادة بعضها، فالأول: أن المراد بالإضلال: هو الحكم بكونه كافرًا ضالًا كما يقال: فلان يكفر فلانًا ويضلله، أي يحكم بكونه كافرًا ضالًا، والثاني: أن يكون الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار، والهداية عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة.
والثالث: أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله ولم يتعرض له صار كأنه أضله، والمهتدي لما أعانه بالألطاف صار كأنه هو الذي هداه.
قال صاحب الكشاف: المراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف وبالهداية التوفيق واللطف.
والجواب عن قولهم أولًا أن قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} لا يليق به أن يضلهم.
قلنا: قال الفراء: إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر، فإن كان الفعل الثاني مشاكلًا للأول نسقته عليه، وإن لم يكن مشاكلًا له استأنفته ورفعته.
ونظيره قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم ويأبى الله} [التوبة: 32] فقوله: {ويأبى الله} في موضع رفع لا يجوز إلا ذلك، لأنه لا يحسن أن يقال: يريدون أن يأبى الله، فلما لم يمكن وضع الثاني موضع الأول بطل العطف، ونظيره أيضًا قوله: {لّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ في الأرحام} [الحج: 5] ومن ذلك قولهم: أردت أن أزورك فيمنعني المطر بالرفع غير منسوق على ما قبله لما ذكرناه، ومثله قول الشاعر:
يريد أن يعربه فيعجمه

إذا عرفت هذا فنقول: هاهنا قال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} ثم قال: {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ} ذكر فيضل بالرفع فدل على أنه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله، وأقول تقرير هذا الكلام من حيث المعنى، كأنه تعالى قال: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه، ثم قال ومع أن الأمر كذلك فإنه تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء، والغرض منه التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان وحصلت الهداية، وإنما كان الأمر كذلك لأجل أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى.
أما قوله ثانيًا: لو كان الضلال حاصلًا بخلق الله تعالى لكان الكافر أن يقول له: ما الفائدة في بيانك ودعوتك؟ فنقول: يعارضه أن الخصم يسلم أن هذه الآيات أخبار عن كونه ضالًا فيقول له الكافر: لما أخبر إلهك عن كوني كافرًا فإن آمنت صار إلهك كاذبًا فهل أقدر على جعل إلهك كاذبًا، وهل أقدر على جعل علمه جهلًا.
وإذا لم أقدر عليه فكيف يأمرني بهذا الإيمان، فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الخصم علينا هو أيضًا وارد عليه.
وأما قوله ثالثًا: يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجبًا، لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قلنا: ويلزمك أيضًا على مذهبك أنه يجب على العبد السعي في تكذيب الله وفي تجهيله، وهذا أشد استحالة مما ألزمته علينا، لأنه تعالى لما أخبر عن كفره وعلم كفره فإزالة الكفر عنه يستلزم قلب علمه جهلًا وخبره الصدق كذبًا.
وأما قوله رابعًا: إن مقدمة الآية وهي قوله تعالى: {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] يدل على صحة الاعتزال فنقول: قد ذكرنا أن قوله: {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} يدل على صحة مذهب أهل السنة.
وأما قوله خامسًا: أنه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيمًا وذلك ينافي كونه تعالى خالقًا للكفر مريدًا له.
فنقول: وقد وصف نفسه بكونه عزيزًا والعزيز هو الغالب القاهر فلو أراد الإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل أو أراد عمل الكفر منهم، وقد حصل لما بقي عزيزًا غالبًا.
فثبت أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة، وأما التأويلات الثلاثة التي ذكروها فقد مر إبطالها في هذا الكتاب مرارًا فلا فائدة في الإعادة. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} هذه الآية طعن ورد على المستغربين أمر محمد عليه السلام، أي لست يا محمد ببدع من الرسل، وإنما أرسلناك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور على عادتنا في رسلنا، في أن نبعثهم بألسنة أممهم ليقع البيان والعبارة المتمكنة، ثم يكون سائر الناس من غير أهل اللسان عيالًا في التبيين على أهل اللسان الذي يكون للنبي، وجعل الله العلة في إرسال الرسل بألسنة قومهم طلب البيان ثم قطع قوله: {فيضل} أي إن النبي إنما غايته أن يبلغ ويبين، وليس فيما كلف أن يهدي ويضل، بل ذلك بيد الله ينفذ فيه سابق قضائه، وله في ذلك العزة التي لا تعارض، والحكمة التي لا تعلل، لا رب غيره.
قال القاضي أبو محمد: فإن اعترض أعجمي بأن يقول: من أين يبين لي هذا الرسول الشريعة وأنا لا أفهمه؟ قيل له: أهل المعرفة باللسان يعبرون ذلك، وفي ذلك كفايتك.
فإن قال: ومن أين تتبين لي المعجزة وأفهم الإعجاز وأنا لا أفقه اللغة؟ قيل له: الحجة عليك إذعان أهل الفصاحة والذين كانوا يظن بهم أنهم قادرون على المعارضة وبإذعانهم قامت الحجة على البشر، كما قامت الحجة في معجزة موسى بإذعان السحرة، وفي معجزة عيسى بإذعان الأطباء.
واللسان في هذه الآية يراد به اللغة. وقرأ أبو السمال {بلسْن} بسكون السين دون ألف- كريش ورياش- ويقال: لسن ولسان في اللغة، فأما العضو فلا يقال فيه لسن- بسكون السين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إِلا بلسان قومه}
أي: بلُغتهم.
قال ابن الأنباري: ومعنى اللغة عند العرب: الكلام المنطوق به، وهو مأخوذ من قولهم: لَغا الطائر يَلْغُو: إِذا صَوَّت في الغَلَس.
وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، والجُحدري: {إِلاَّ بِلُسُنِ قومه} برفع اللام والسين من غير ألف.
وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران: {بِلِسْنِ قومه} بكسر اللام وسكون السين من غير ألف.
قوله تعالى: {ليُبيِّن لهم} أي: الذي أُرسل به فيفهمونه عنه.
وهذا نزل، لأن قريشًا قالوا: ما بال الكتب كلِّها أعجمية، وهذا عربي!. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ} أي قبلك يا محمد: {إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} أي بلغتهم، ليبيّنوا لهم أمر دينهم؛ ووحد اللسان وإن أضافه إلى القوم لأن المراد اللغة؛ فهي اسم جنس يقع على القليل والكثير؛ ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه الآية؛ لأن كل من ترجِم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة يفهمها لزمته الحجة؛ وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28].
وقال صلى الله عليه وسلم: «أُرسِل كلُّ نبيّ إلى أمته بلسانها وأرسلني الله إلى كلّ أحمرَ وأسودَ من خَلْقه».
وقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم لم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار». خرجه مسلم، وقد تقدّم.
{فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} ردّ على القَدَرية في نفوذ المشيئة، وهو مستأنف، وليس بمعطوف على {لِيُبَيِّنَ} لأن الإرسال إنما وقع للتبيين لا للإضلال.
ويجوز النصب في {يضل} لأن الإرسال صار سببًا للإضلال؛ فيكون كقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وإنما صار الإرسال سببًا للإضلال لأنهم كفروا به لما جاءهم؛ فصار كأنه سبب لكفرهم.
{وَهُوَ العزيز الحكيم} تقدّم معناه. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}
يعني بلغة قومه ليفهموا عنه ما يدعوهم إليه وهو قوله تعالى: {ليبين لهم} يعني ما يأتون وما يذرون.
فإن قلت: لم يبعث الله-صلى الله عليه وسلم- إلى العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس جميعًا بدليل قوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا} بل هو مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس، وهم على ألسنة مختلفة ولغات شتى وقوله بلسان قومه وليس قومه سوى العرب يقتضي بظاهره أنه مبعوث إلى العرب خاصة فكيف يمكن الجمع؟ قلت: بعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم- من العرب وبلسانهم والناس تبع للعرب فكان مبعوثًا إلى جميع الخلق، لأنهم تبع للعرب ثم إنه يبعث الرسل إلى الرسل إلى الأطراف، فيترجمون لهم بألسنتهم ويدعونهم إلى الله تعالى بلغاتهم.
وقيل: يحتمل أنه أراد بقومه أهل بلدة، وفيهم العرب وغير العرب فيدخل معهم من غير جنسهم في عموم الدعوى وقيل: إن الرسول إذا أرسل بلسان قومه وكانت دعوته خاصة وكان كتابه بلسان قومه كان أقرب لفهمهم عنه وقيام الحجة عليهم في ذلك، فإذا فهموه ونقل عنهم انتشر عنهم علمه وقامت التراجم ببيانه وتفهيمه لمن يحتاج إلى ذلك ممن هو من غير أهله، وإذا كان الكتاب بلغة واحدة مع اختلاف الأمم وتباين اللغات كان ذلك أبلغ في اجتهاد المجتهدين في تعليم معانيه، وتفهيم فوائده وغوامضه وأسراره وعلومه وجميع حدوده وأحكامه وقوله: {فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} يعني أن الرسول ليس عليه إلا التبليغ والتبيين والله هو الهادي المضل يفعل ما يشاء: {وهو العزيز} يعني الذي يغلب ولا يغلب: {الحكيم} في جميع أفعاله. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}
سبب نزولها أنّ قريشًا قالوا: ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي؟ فنزلت.
وساق قصة موسى أنه تعالى أرسله إلى قومه بلسانه، أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور، كما أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور.
والظاهر أن قوله: {وما أرسلنا من رسول}، العموم فيندرج فيه الرسول عليه الصلاة والسلام.
فإن كانت الدعوة عامة للناس كلهم، أو اندرج في اتباع ذلك الرسول من ليس من قومه، كان من لم تكن لغته لغة ذلك النبي موقوفًا على تعلم تلك اللغة حتى يفهمها، وأن يرجع في تفسيرها إلى من يعلمها.
وقيل: في الكلام حذف تقديره: وما أرسلنا من رسول قبلك إلا بلسان قومه، وأنت أرسلناك للناس كافة بلسان قومك، وقومك يترجمون لغيرهم بألسنتهم، ومعنى بلسان قومه: بلغة قومه.
وقرأ أبو السمال، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني: {بلسن} بإسكان السين، قالوا: هو كالريش والرياش.
وقال صاحب اللوامح: واللسن خاص باللغة، واللسان قد يقع على العضو، وعلى الكلام.
وقال ابن عطية مثل ذلك قال: اللسان في هذه الآية يراد به اللغة، ويقال: لسن ولسان في اللغة، فأما العضو فلا يقال فيه لسن.
وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدري: {لسن} بضم اللام والسين، وهو جمع لسان كعماد وعمد.
وقرئ أيضًا بضم اللام وسكون السين مخفف كرسل ورسل، والضمير في {قومه} عائد على {رسول} أي: قوم ذلك الرسول.
وقال الضحاك: والضمير في {قومه} عائد على محمد-صلى الله عليه وسلم- قال: والكتب كلها نزلت بالعربية، ثم أداها كل نبي بلغة قومه.
قال الزمخشري: وليس بصحيح، لأنّ قوله: {ليبين لهم}، ضمير القوم وهم العرب، فيؤدي إلى أنّ الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب، وهذا معنى فاسد انتهى.
وقال الكلبي: جميع الكتب أدت إلى جبريل بالعربية، وأمره تعالى أن يأتي رسول كل قوم بلغتهم.
وأورد الزمخشري هنا سؤالًا وابن عطية أخرهما في كتابيهما، ويقول: قامت الحجة على البشر بإذعان الفصحاء الذين يظن بهم القدرة على المعارضة وإقرارهم بالعجز، كما قامت بإذعان السحرة لموسى، والأطباء لعيسى عليهما السلام.
وبين تعالى العلة في كون من أرسل من الرسل بلغة قومه وهي التبيين لهم، ثم ذكر أنه تعالى يضل من يشاء إضلاله، ويهدي من يشاء هدايته، فليس على ذلك الرسول غير التبليغ والتبيين، ولم يكلف أن يهدي بل ذلك بيد الله على ما سبق به قضاؤه وهو العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الواضع الأشياء على ما اقتضته حكمته وإرادته.
وقال الزمخشري: والمراد بالإضلال التخلية ومنع الإلطاف، وبالهداية التوفيق واللطف، وكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان، وهو العزيز فلا يغلب على مشيئته، الحكيم فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال. اهـ.