فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}.
أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أي ميثاقكم.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} الآية. قال: أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له وأن لا يعبدوا غيره.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} قال: ميثاق أخذه الله على بني إسرائيل فاسمعوا على ما أخذ ميثاق القوم {لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانًا} الآية.
وأخرج عبد بن حميد عن عيسى بن عمر قال: قال الأعمش: نحن نقرأ {لا يعبدون إلا الله} بالياء لأنا نقرأ آخر الآية: {ثم تولوا} عنه وأنتم تقرأون {ثم توليتم} فاقرأوها لا تعبدون.
وأخرج ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس في قوله: {وقولوا للناس حسنًا} قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمرهم أن يأمروا بلا إله إلا الله من لم يقلها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وقولوا للناس حسنًا} قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن علي بن أبي طالب في قوله: {وقولوا للناس حسنًا} قال: يعني الناس كلهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء وأبي جعفر في قوله: {وقولوا للناس حسنًا} قالا: للناس كلهم.
وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر عن عبد الملك بن سليمان أن زيد بن ثابت كان يقرأ {وقولوا للناس حسنًا} وكان ابن مسعود يقرأ {وقولوا للناس حسنًا}.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ثم توليتم} أي تركتم ذلك كله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {ثم توليتم} قال: أعرضتم عن طاعتي {إلا قليلًا منكم} وهم الذين اخترتهم لطاعتي. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{إذْ} معطوف على الظرف قبله، وقد تقدم ما فيه من كونه متصرفًا أو لا.
و{أّخَذْنَا} في محلّ خفض، أي: واذكر وَقْت أَخْذنا ميثاقهم، أو نحو ذلك.
{لا تَعْبُدُونَ} قرأ ابن كثير وغيره والكِسائي بالياء، والباقون بالتاء.
فمن قرأ فلأن الأسماء الظَّاهرة حكمها الغيبة، ومن قرأ بالخطاب هو الْتِفَات، وحكمته أنه أدعى لِقَبُول المخاطب الأمر والنهي الواردين عليه.
وجعل أبو البقاء قراءة الخِطَاب على إضمار القول.
قال: يقرأ بالتاء على تقدير: قلنا لهم: لا تعبدون إلا الله وكونه التفاتًا أحسن.
وفي هذه الجملة المنفيّة من الإعراب ثمانية أوجه:
أظهرها: أنها مفسرة لأخذ الميثاق، وذلك لأنه تعالى لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل كان ذلك في إبْهَام للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجُمْلة مفسرة له، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب.
الثاني: أنها في محلّ نصب على الحال من {بَنِي إِسْرَائِيْلَ} وفيها حينئذ وجهان:
أحدهما: أنها حال مقدّرة بمعنى: أخذنا ميثاقهم مقدّرين التوحيد أبدًا ما عاشوا.
والثَّاني: أنَّها حال مقارنة بمعنى: أخذنا مِيْثَاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد، قاله أبو البقاء وسبقه إلى ذلك قطرب والمبرد.
وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذلك على الصحيح، خلافًا لمن أجاز مجيئها من المُضَاف إليه مطلقًا، لا يقال: المضاف إليه معمول له في المعنى ل {ميثاق}؛ لأن ميثاقًا إما مصدر أو في حكمه، فيكون ما بعده إما فاعلًا أو مفعولًا، وهو غير جائز لأن من شرط عمل المصدر غير الواقع موقع الفعل أن ينحل إلى حرف مصدري، وفعل هذا لا ينحل لهما، لو قدرت: وإذ أخذنا أن نواثق بني إسرائيل، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل، لم يصح ألا ترى أنك لو قلت: أخذت علم زيد لم يتقدر بقول: أخذت أن يعلم زيد، ولذلك منع ابن الطَّراوة في ترجمة سيبويه: هذا باب علم ما الكلم من العربية أن يقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ورده وأنكر على من أجازه.
الثالث: أن يكون جوابًا لقسم محذوف دلّ عليه لفظ المِيْثَاق، أي: استحلفناهم، أو قلنا لهم: بالله لا تعبدون، ونسب هذا الوجه لسيبويه، ووافقه الكسائي والفَرّاء والمبرد.
الرابع: أن يكون على تقدير حذف حرف الجر، وحذف أن، والتقدير: أخذنا ميثاقهم على ألاَّ تعبدوا، فَحُذِف حرف الجر؛ لأن حذفه مطرد مع أنَّ وأنْ كما تقدم، ثم حذفت أن الناصبة، فارتفع الفعل بعدها؛ كقول طرفة: الطويل:
أَلاّ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى ** وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ، هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي

وحكي عن العرب: مُرْهُ يَحْفِرَهَا أي: بأن يحفرها، والتقدير: عن أن يحضر، أو بأن يحفرها، وفيه نظر، فإن إضمار أن لا ينقاس، إنما يجوز في مواضع عدها النحويون، وجعلوا ما سواها شاذًّا قليلًا، وهو الصحيح خلافًا للكوفيين، وإذا حذفت أن، فالصحيح جواز النصب والرفع، وروي مُرْهُ يَحْفِرهَا وأحضر الوَغَى بالوجهين، وهذا رأي المبرد والكوفيين خلافًا لأبي الحسن، حيث التزم رفعه.
وأيد الزمخشري هذا الوجه الرابع بقراءة عبد الله: {لاَ تَعْبُدُوا} على النهي، قال: إلاَّ أنه جاء على لفظ الخبر لقوله تعالى: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233]، قال: والذي يؤكد كونه نهيًا قوله: {وأقيموا الصلاة} فإنه تنصره قراءة عبد الله وأُبي: {لا تعبدوا}.
الخامس: أن يكون في محلّ نصب بالقول المحذوف، وذلك القول حال تقديره: قائلين لهم: لا تعبدون إلا الله، ويكون خبرًا في معنى النهي، ويؤيده قراءة أُبَي المتقدمة، ولهذا يصح عطف {قُولُوا} عليه، وبه قال الفَرّاء.
السادس: أَنَّ أنْ الناصبة مضمرة كما تقدم، ولكنها هي وما في حَيّزها في محلّ نصب على أنها بدل من {مِيْثَاق}، وهذا قريب من القول الأول من حيث إن هذه الجملة مفسرة للميثاق، وفيه النظر المتقدم أعني حذف أن في غير المواضع المقيسة.
السابع: أن يكون منصوبًا بقول محذوف، وذلك القول ليس حالًا، بل مجرد أخبار، والتقدير: وقلنا لهم ذلك، ويكون خبرًا في معنى النهي.
قال الزمخشري: كما تقول: تذهب إلى فلان تقول له: كذا تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي؛ لأنه كأنه سُورعَ إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه، وتَنْصره قراءى عبد الله وأُبَيّ: {لاَ تَعْبُدُوا} ولابد من إرادة القول بهذا.
الثامن: أن يكون التقدير: {ألاَّ تَعْبُدُونَ} وهي أن المفسرة؛ لأن في قوله: {أخَذْنَا مِيْثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} إيهامًا كما تقدم، وفيه معنى القول، ثم حذف أن المفسرة، ذكره الزَّمخشري.
وفي ادعاء حذف حرف التفسير نظر لا يخفى.
قوله: {إِلاَّ اللهَ} استثناء مفرغ؛ لأن ما قبله مفتقر إليه وقد تقدم تحقيقه أولًا.
وفيه التفات من التكلّم إلى الغيبة، إذ لو جرى الكَلاَم على نسقه لقيل: لا تعبدون إلاَّ إيانا، لقوله: {أَخّذْنَا}.
وفي هذا الالتفات من الدّلالة على عظم هذا الاسم والتفرد به ما ليس في المضمر، وأيضًا الأسماء الواقعة ظاهرة، فناسب أن يجاوز الظاهرُ الظاهرَ.
و{بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن تتعلق الباء ب {إحسانًا} على أنه مصدر واقع موقع فعل الأمر، والتقدير وأحسنوا وبالوالدين، والباء ترادف إلى في هذا المعنى، تقول: أحسنت به وإليه، بمعنى أن يكون على هذا الوجه ثَمَّ مضافٌ محذوف، وأحسنوا بر الوالدين بمعنى: أحسنوا إليهما برّهما.
قال ابن عطية: يعترض على هذا القول، أن يتقدّم على المصدر معمولُهُ، وهذا الاعتراض لا يتم على مَذْهَب الجمهور، فإن مذهبهم جواز تقديم معمول المَصْدر النَّائب عن فعل الأمر عليه، تقول: ضربًا زيدًا وإن شئت زيدًا ضربًا وسواء عندهم إن جعلنا العمل للفعل المقدر، أم للمصدر النائب عن فعله، فإن التقديم عندهم جائز، وإنما بمتنع تقدم معمول المَصْدر المنحل لحرف مصدري والفعل كما تقدم وإنما يتم على مذهب أبي الحسن، فإنه منع تقديم معمول المصدر النائب عن الفعل، ويخالف الجمهور في ذلك.
الثاني: أنها متعلّقة بمحذوف وذلك المحذوف يجوز أن يقدر فعل أمر مُرَاعاة لقوله: {لاَ تَعْبُدُونَ} فإنه في معنى النهي كما تقدم، كأنه قال: لا تبعدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين، ويجوز أن يقدر خبرًا مراعاة لِلَفْظِ {لاَ تَعْبُدُونَ} والتقدير: وتحسنون وإن كان معناه الأمر، وبهذين الاحتمالين قدره الزمخشري، وينتصب {إحسانًا} حينئذ على المصدر المؤكّد لذلك الفعل المحذوف.
وفيه نظر من حيث إن حذف عامل المؤكّد منصوصٌ على عدم جوازه، وفيه بحث ليس هذا موضعه.
الثالث: أن يكون التقدير: واستوصوا بالوالدين، فالباء متعلّقة بهذا الفعل المقدر أيضًا، وينتصب {إحسانًا} حينئذ على أنه مفعول به.
الرابع: تقديره: وَوَصَّيْنَاهُمْ بالوالدين، فالباء متعلّقة بالمحذوف أيضًا، وينتصب {إحسانًا} حينئذ على أنه مفعول لأجله، أي: لأجل إحساننا إلى الموصى بهم من حيث إنّ الإحسان متسبّب عن وصيتنا بهم، أو الموصى لما يترتب الثواب منّا لهم إذا أحسنوا إليهم.
الخامس: أن تكون الباء وما عملت فيه عطفًا على قوله: {لاَ تَعْبُدُونَ} إذا قيل بأن أن المصدرية مقدرة فينسبك منها ومما بعدها مصدر يعطف عليه هذا المجرور، والتقدير: أخذنا ميثاقهم بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين، أي: وببرّ الوالدين، أو: بإحسان إلى الوالدين، فتتعلّق الباء حينئذ بالميثاق لما فيه من مَعْنَى الفعل، فإن الظرف وشبهه تعمل فيه رَوَائح الأفعال، وينتصب {إحسانًا} حينئذ على المصدر من ذلك المضاف المحذوف، وهو البر لأنه بمعناه، أو الإحسان الذي قدرناه.
والظّاهر من هذه الأوجه هو الثَّاني، لعدم الإضمار اللازم في غيره، أو لأن ورود المصدر نائبًا عن فعل الأمر مطّرد شانع.
وإنما تقدّم المعمول اهتمامًا به وتنبيهًا على أنه أولى بالإحسان إليه ممن ذُكِرَ معه.
والَوالِدَان الأب والأم، يقال لكل واحدٍ منهما: والد؛ قال: الطويل:
عَجِبْتُ لمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ** وَدْي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أِبَوَانِ

وقيل: لا يقال في الأم: والدة بالتاء، وإنما قيل فيها وفي الأب: والدان تغليبًا للذكر.
والإحسان: الإنعام على الغير.
وقيل: بل هو أعم من الإنعام.
وقيل: هو النَّافع لكل شيء.
و{ذِي الْقُرْبى} وما بعده عطف على المجرور بالباء، وعلامة الجر فيها الياء؛ لأنها من الأسماء الستة التي ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجر بالياء بشروط مذكورة، وهل إعرابها بالحروف أو بغيرها؟ عشرة مذاهب للنَّحويين فيها.
وهي من الأسماء اللاَّزمة للإضافة لفظًا ومعنى إلى أسماء الأجناس الظاهرة؛ ليتوصّل بذلك إلى وصف النكرة باسم الجنس؛ نحو: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ذِي مَالٍ وإضافته إلى المضمر ممنوعةٌ إلا في ضرورة أو نادر كلام؛ كقوله: الوافر:
صَبَحْنَا الْخزرَجِيَّةَ مُرْهَفَاتٍ ** أَبَانَ ذَوِي أَرُومَتِهَا ذَوُوهَا

وأنشد الكسائِيُّ: الرمل:
إِنَّما يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ ** في النَّاسِ ذَوُوهُ

وعلى هذا قولهم: اللهم صَلِّ على محمد وذويه.
وإضافته إلى العلم قليلة جدًّا، وهي على ضربين:
واجبة: وذلك إذا اقترنا وضعًا، نحو: ذي يزن وذي رعين.
وجائزة وذلك إذا لم يقترنا وضعًا، نحو: ذي قطري وذي عمرو أي: صاحب هذا الاسم.
وأقل من ذلك إضافتها إلى ضمير المخاطب؛ كقوله: الطويل:
وَإِنَّا لَنَرْجُو عَجِلًا مِنْكَ مِثْلَ مَا ** رَجَوْنَاهُ قِدْمًا مِنْ ذَوِيكَ الأَفَاضِلِ

وتجيء ذو موصولة بمعنى الذي وفروعه، والمشهورُ حينئذ بِنَاؤها وتذكيرها، ولها أحكام كثيرة.
و{القربى} مضاف إليه، وألفه للتَّأنيث، وهو مصدر كالرُّجْعَى والعُقْبَى، ويطلق على قرابة الصُّلْب والرَّحِم؛ قال طَرَفَةُ: الطويل:
وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً ** عَلَى الْحُرِّ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ

وقال أيضًا: الطويل:
وَقَرَّبْتُ بالْقُرْبَى وَجَدِّكَ إِنَّهُ ** مَتَى يَكُ أَمْرٌ لِلنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ

والمادة تدلّ على الدّنو عند البعد.
قوله: {وَاليَتَامَى} وزنه فَعَالى، وألفه للتأنيث، وهو جمع يتيم كنديم ونَدَامى ولا ينقاس هذا الجمع.
وقال ابن الخطيب: جمعه أَيْتَام ويتامى واليُتْم: الانفراد، ومنه اليتيم؛ لانفراده عن أبويه أو أحدهما، ودرة يتيمة: إذا لم يكن لها نظير.
وقيل: اليَتَيم: الإبطاء، ومنه: صبي يتيم؛ لأنه يبطئ عنه البرّ وقيل: هو التغافل، لأن الصبيّ يتغافل عما يصلحه.
قال الأَصْمَعيّ: اليتيم في الآدميين من فَقَدَ الآباء، وفي غيرهم من فقد الأمّهات.
وقال المَاوَرْدِي: إن اليتم أيضًا في الناس من قبل فقد الأمهات.
والأول هو المعروف عند أهل اللغة، ويسمى يتيمًا إلى أن يبلغ، يقال: يَتِمَ يَيْتَم يَتْمًا مثل: سَمِعَ يَسْمعُ سَمْعًا ويَتُمَ يَيْتُم يُتْمًا مثل: عَظُمَ يَعْظُم عُظْمًا، فهاتان لُغَتان مشهورتان حكاهما الفرَّاء، ويقال: أيتمه الله إيتامًا، أي: فعل به ذلك.
وعلامة الجَرّ في {القربى} و{اليَتَامى} كسرة مقدرة على الألف، وإن كانت للتأنيث؛ لأنَّ ما لا ينصرف إذا أضيف أو دخلته (أل) انجزّ بالكسرة، وهل يسمّى حينئذ منجرًّا أو منصرفًا.
ثلاثة أقوال، يفصل في الثالث بين أن يكون أحدَ سببيه العلمية، فيسمى منصرفًا نحو: يَعْمُرُكُمْ أو لا يسمى منجرًا نحو: بالأحمر، والقربى واليتامى من هذا الأخير.
قوله: {والمساكين} جمع مسكين، ويسمونه جمعًا لا نظير له من الآحاد، وجمعًا على صيغة منتهى الجُمُوع، وهو من العِلَلِ القائمة مقام علّتين، وسيأتي تحقيقه قريبًا إن شاء الله تعالى.
وتقدم القول في اشتقاقه عند ذكر المسكنة.
واختلف فيه: هل هو بمعنى الفقير أو أسوأ حالًا منه كقوله: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] أي: لصق جلده بالتراب، وهو قول أبي حنيفة وغيره بخلاف القير؛ فإن له شيئًا ما.
قال: البسيط:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ** وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَم يُتْرَكْ لَهُ سَبدُ

أو أكمل حالًا؛ لأن الله جعل لهم ملكًا ما، قال: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79] وهو قول الشافعي وغيره.
قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} هذه الجملة عَطْفٌ على قوله: {لاَ تْعُبُدُونَ} في المعنى، كأنه قال: لا تعبدوا إلا الله، وأحسنوا بالوالدين وقولوا، أو على أحسنوا المقدر، كما تقدم تقريره في قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولًا لقول محذوف تقديره: وقلنا لهم: قولُوا.
وقرأ حمزة والكسائي: {حَسَنًا} بفتحتين، و{حُسُنًا} بضمتين، و{حُسْنَى} من غير تنوين كحُبْلى وإِحْسَانًا من الرباعي.
فأما من قرأ: {حُسْنًا} بالضم والإسكان، فيحتمل أوجهًا:
أحدها وهو الظَّاهر أنه مصدر وقع صفةً لمحذوف تقديره: وقولوا للناس حُسنًا أي: ذا حسن.
الثاني: أن يكون وصف به مُبَالغة كأنه جعل القول نفسه حسنًا.
الثالث: أنه صفة على وزن فُعْل، وليس أصله المصدر، بل هو كالحلو والمر، فيكون بمعنى حَسَنٍ بفتحتين، فيكون فيه لغتان: حُسْن وحَسَن كالبُخْل والبَخَل، والحُزْن والحَزَن، والعُرْب والْعَرب.
الرابع: أنه منصوب على المَصْدر من المعنى، فإن المعنى: وَلْيَحْسُنْ قَوْلُكم حُسْنًا.
وأما قراءة: {حَسَنًا} بفتحتين فصفة لمصدر محذوف تقديره: قولًا حسنًا، كما تقدم في أحد أوجه {حُسْنًا}.
وأما {حُسْنًا} بضمتين، فضمة السين لإتباع الحاء، فهو بمعنى {حُسْنًا} بالسكون، وفيه الأوجه المتقدمة.
وأما {حُسْنَى} بغير تنوين فمصدر كالبُشْرَى والرُّجْعَى.
وقال النحاس في هذه القراءة: ولا يجوز هذا في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام، نحو: الكُبْرَى والفُضْلى.
هذا قول سيبويه، وتابعه ابن عطية على هذا، فإنه قال: ورده سيبويه؛ لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة إلاَّ أن يزال عنها معنى التَّفضيل، ويبقى مصدرًا كالعُقْبى، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها.
انتهى وناقشه أبو حيان وقال: في كلامه ارْتباك؛ لأنه قال: لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، وهذا ليس بصحيح.
أما أَفْعل فله ثلاثة استعمالات.
أحدها: أن يكون معها مِنْ ظاهرة أو مقدرة، أو مضافًا إلى نكرة، ولا يتعرف في هذين بحال.
الثاني: أن تدخل عليه (أل) فيتعرف بها.
الثالث: أن يضاف إلى معرفة فيتعرف على الصحيح.
وأما فعلى فلها استعمالان:
أحدهما: بالألف واللام.
والثاني: الإضافة لمعرفة، وفيها الخلاف السابق.
وقوله: إلا أن يزال عنها معنى التفضيل، وتبقى مصدرًا ظاهر هذا أن فُعْلى أنثى أفعل إذا زال عنها معنى التفضيل تبقى مصدرًا وليس كذلك، بل إذا زال عن فعلى أنثى أفعل معنى التفضيل صارت بمنزلة الصفة التي لا تفضيل فيها؛ ألا ترى إلى تأويلهم كُبْرى بمعنى كبيرة، وصُغْرى بمعنى صغيرة، وأيضًا فإن فعلى مصدر لا يَنْقَاسُ، إنما جاءت منها الألفاظ كالعُقْبَى والبُشْرَى.
ثم أجاب الشيخ عن هذا الثاني بما معناه أن الضمير في قوله: {عنها} عائد إلى حسنى لا إلى فعلى أنثى أفعل، ويكون استثناء منقطعًا كأنه قال: إلا أن يزال عن حسنى التي قرأ بها أُبَيّ معنى التفضيل، ويصير المعنى: إلا أن يُعْتقد أن حسنى مصدر لا أنثى أفعل.
وقوله: وهو وجه القراءة بها أي والمصدر وجه القراءة بها.
وتخريج هذه القراءة على وجهين:
أحدهما: المصدر كالبُشْرى وفيه الأوجه المتقدمة في {حسنًا} مصدرًا، إلا أنه يحتاج إلى إثبات حُسْنى مصدرًا من قول العرب: حَسُن حُسْنَى، كقولهم: رَجَع رُجْعَى، إذا مجيء فُعْلى مصدرًا لا يَنْقَاسُ.
والوجه الثاني: أن تكون صفةً لموصوف محذوف، أي: وقولوا للناس كلمةً حُسْنَى، أو مقالةً حسنى، وفي الوصف بها حينئذ وجهان:
أحدهما: أن تكون للتفضيل، ويكون قد شَذَّ استعمالها غير معرفة ب (أل)، ولا مضافة إلى معرفة، كما شذَّ قوله: البسيط:
وَإِنْ دَعَوتِ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ ** يَوْمًا سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا

وقوله: الرجز:
في سَعْي دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مَدَّتِ

والوجه الثاني: أن تكون لغير التفضيل، فيكون معنى حُسْنى: حَسَنة ككبرى في معنى كبيرة، أي: وقولوا للناس مَقَالة حَسَنة، كما قال: يوسف أحسن إخوته في معنى حسن إخوته. انتهى.
وبهذا يعلم فساد قول النحاس.
وأما من قرأ: {إحسانًا} فهو مصدر وقع صفةً لمصدر محذوف، أي: قولًا إحسانًا وفيه تأويل مشهور، ف {أحسانًا} مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة، أي: قولًا ذا حُسْن، كما تقول: أعشبت الأرض، أي: صارت ذا عُشْب.
قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إلاَّ قَلِيلًا مِنْكُمْ}.
قال الزمخشري: وهذا على طريقة الالتفات وهذا الذي قاله إنما يجيء على قراءة: {لاَ يَعْبُدُونَ} بالغيبة، وأما على قراءة الخطاب فلا التفات ألبتَّة، ويجوز أن يكون أراد بالالتفات الخروج من خطاب بني إسرائيل القدماء إلى خطاء الحاضرين في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد قيل ذلك ويؤيده قوله تعالى: {إِلاَّ قَلِيلًا مِنْكُمْ}.
قيل: يعني بهم الذين أسلموا في زمانه عليه الصلاة والسلام كعبد الله بن سَلام وأضرابه، فيكون التفاتًا على القِرَاءتين.
و{قليلًا} منصوب على الاستثناء؛ لأنه من موجب.
وقال القرطبي: المستثنى عند سيبويه منصوب؛ لأنه مشبه بالمَفْعُول.
وقال محمد بن يزيد: هو المفعول حقيقة؛ لأن معناه: استثنيت قليلًا.
وروي عن أبي عمرو وغيره: {إلاَّ قَلِيلٌ} بالرفع، وفيه ستّة أقوال:
أصحها: أن رفعه على الصفة بتأويل {إلاّ} وما بعدها بمعنى غَيْر، وقد عقد سيبويه رحمه الله في كتابه لذلك بابًا فقال: هذا باب ما يكن فيه إلاَّ ما بعدها وصفًا بمنزلة غَيْر ومثل وذكر من أمثلة هذا الباب: لو كان معنا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبْنَا و{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
قال الشاعر: الطويل:
......... ** قَلِيلٌ بِهَا الأَصْوَاتُ إِلاَّ بُغَامُهَا

وسَوَّى بين هذا وبين قراءة: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر} [النساء: 95] برفع غير وجوز في نحو: ما قام القومُ إلا زيدٌ بالرفع البدل والصِّفةن وخرج على ذلك قوله: الوافر:
وَكُلّ أخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ** لَعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الفَرْقَدَانِ

كأنه قيل: وكلُّ أخٍ غيرُ الفَرْقَدَين مُفَارِقُهُ أخُوهُ؛ كما قال الشَّمَّاخ: الطويل:
وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ ** لِوَصلِ خَلِيلٍ صَارٍمٌ أَو مُعَارِزُ

وأنشد غيره: الرمل:
لِدَمٍ ضَائِعٍ تَغَيَّبَ عَنْهُ ** أَقْرَبُوهُ إلاَّ الصَّبَا والجَنُوبُ

وقوله: البسيط:
وَبِالصَّرِمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ ** عَافٍ تَغَيَّرَ إلاَّ النُّؤْيُ والوَتِدُ

والفرق بين الوصف إلاَّ والوصْفِ بغيرها أنَّ إلاَّ توصف بها المعارفُ والنكرات، والظاهرُ والمضمرُ.
وقال بعضهم: لا توصف بها إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس، فإنه في قوة النكرة.
وقال المبرِّد: شرطه صلاحية البدلِ في موضعه.
الثاني: أنه عطف بيان، قاله ابن عصفور.
وقال: إنما يعني النحويون بالوصف إلاَّ عطف البيان، وفيه نظرٌ.
الثالث: أنه مرفوع بفعل مَحْذُوف، كأنه قال: امتنع قليل.
الرابع: أن يكون مبتدأ وخبره محذوف، أي إلاَّ قليل منكم لم يتولّوا، كما قالوا مامررت بأحد إلاّ رجلٌ من بني تميم خيرٌ منه.
الخامس: أنه توكيد للضمير المرفوع، ذكر هذه الأوجه أبو البقاء.
وقال: سيبويه وأصحابه يسمونه نعتًا ووصفًا يعني التوكيد، وفي هذه الأوجه التي ذكرها ما لا يخفى، ولكنها قد قيلت.
السادس: أنه بدلٌ من الضمير {تولّيتم}.
قال ابن عطية: وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي؛ لأنَّ {توليتم} معناه النفي كأنه قال: لم تَفُوا بالميثاق إلا قليل، وهذا الذي ذكره مِنْ جَوَاز البدل منعه النحويون، فلا يجيزون قام القوم إلا زيد على البدل.
قالوا: لأن البدل يَحُلّ محلّ المبدل منه فيؤول إلى قولك: قام إلا زيد، وهو ممتنع.
وأما قوله: إنه في تأويل النفي، فما من موجب إلاَّ يمكن فيه ذلك، ألا ترى أن قولك: قام القوم إلا زيد في حكم قوله: لم يجلسوا إلاَّ زيد، فكل موجب إذا أخذت نفي نقيضه أو ضده كان كذلك، ولم تعتبر العرب هذا في كلامها، وإنما أجاز النحويون:
قام القوم إلا زيد بالرفع على الصيغة كما تقدم تقديره.
و{منكم} صفة ل {قَلِيلًا} فيه في محل نصب، أو رفع على حسب القراءتين، والظاهر أن القليل مراد بهم الأشخاصُ لوصفه بقوله: {مِنْكُمْ}.
وقال ابن عطية: ويُحْتَمَل أن تكون القلة في الإيمان، أي: لم يبق حينَ عَصَو وكمفروا آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى. انتهى.
وهذا قول بعيد جدًّا أو ممتنع.
{وأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال من فاعل {تَوَلَّيْتُمْ} وفيها قولان:
أحدهما: أنها حال مؤكِّدة؛ لأن التولّي والإعراَ مُتَرَادفان، وقيل مبيِّنة، فإن التولي باليدين والإعراض بالقلب، قاله أبو البقاء.
وقال بعده: وقيل: {تَوَلَّيْتُمْ} يعني آباءهم، و{وأنتم معرضون} يعني أنفسهم، كما قال: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] أي آباءهم. انتهى.
وهذا يؤدّي إلى أن جملة قوله: {وأنْتُمْ معْرِضُونَ} لا تكون حالًا؛ لأن فاعل التولّي في الحقيقة ليس هو صَاحِبَ الحال والله أعلم.
وكذلك تكون {مبيّنة} إذا اختلف متعلّق التولي والإراض كما قال بعضهم: ثم توليتم عن أخذ ميثاقكم، وأنتم معرضون عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: التولّي والإعراض مأخوذان من سلوك الطريق، وذلك أنه إذا سلك طريقًا ورجع عَوْدَه على بَدْئه سمي ذلك توليًا، وإن سلك في عُرْض الطريق سمي إعراضًا.
وجاءت الحال جملة اسمية مصدرة ب {أنتم}؛ لأنه أكد.
وجيء بخبر المبتدأ اسمًا، لأنه أولّ على الثبوت فكأنه قيل: وأنتم عادتكم التولي والإعراض عن الحق. اهـ. باختصار.