فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن قولنا: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن في الأرض جَمِيعًا} سواء حمل على الكفر الذي يقابل الإيمان أو على الكفران الذي يقابل الشكر، فالمعنى لا يتفاوت ألبتة، فإنه تعالى غني عن العالمين في كمالاته وفي جميع نعوت كبريائه وجلاله.
ثم إنه تعالى قال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} وذكر أبو مسلم الأصفهاني أنه يحتمل أن يكون ذلك خطابًا من موسى عليه السلام لقومه والمقصود منه أنه عليه السلام كان يخوفهم بمثل هلاك من تقدم، ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعالى على لسان موسى لقومه يذكرهم أمر القرون الأولى، والمقصود إنما هو حصول العبرة بأحوال المتقدمين، وهذا المقصود حاصل على التقديرين إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلى الله عليه وسلم.
واعلم أنه تعالى ذكر أقوامًا ثلاثة، وهم: قوم نوح وعاد وثمود.
ثم قال تعالى: {والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} وذكر صاحب الكشاف فيه احتمالين: الأول: أن يكون قوله: {والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضًا.
والثاني: أن يقال قوله: {والذين مِن بَعْدِهِمْ} معطوف على قوم نوح وعاد وثمود وقوله: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} فيه قولان:
القول الأول: أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله، لأن المذكور في القرآن جملة فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل.
والقول الثاني: أن المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلًا كذبوا رسلًا لم نعرفهم أصلًا، ولا يعلمهم إلا الله والقائلون بهذا القول الثاني طعنوا في قول من يصل الأنساب إلى آدم عليه السلام كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد، وعن ابن عباس: بين عدنان وبين إسماعيل ثلاثون أبًا لا يعرفون، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذلك كَثِيرًا} [الفرقان: 38] وقوله: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان في انتسابه لا يجاوز معد بن عدنان بن أدد. وقال: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق» قال القاضي: وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع على مقدار السنين من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الوقت، لأنه إن أمكن ذلك لم يبعد أيضًا تحصيل العلم بالأنساب الموصولة.
فإن قيل: أي القولين أولى؟
قلنا: القول الثاني عندي أقرب، لأن قوله تعالى: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} نفى العلم بهم، وذلك يقتضي نفي العلم بذواتهم إذ لو كانت ذواتهم معلومة، وكان المجهول هو مدد أعمارهم وكيفية صفاتهم لما صح نفي العلم بذواتهم، ولما كان ظاهر الآية دليلًا على نفي العلم بذواتهم لا جرم كان الأقرب هو القول الثاني، ثم إنه تعالى حكى عن هؤلاء الأقوام الذين تقدم ذكرهم أنه لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات أتوا بأمور: أولها: قوله: {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} وفي معناه قولان: الأول: أن المراد باليد والفم الجارحتان المعلومتان، والثاني: أن المراد بهما شيء غير هاتين الجارحتين وإنما ذكرهما مجازًا وتوسعًا.
أما من قال بالقول الأول ففيه ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يكون الضمير في: {أَيْدِيَهُمْ} و: {أَفْوَاهِهِمْ} عائدًا إلى الكفار، وعلى هذا ففيه احتمالات: الأول: أن الكفار ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها من الغيظ والضجر من شدة نفرتهم عن رؤية الرسل واستماع كلامهم، ونظيره قوله تعالى: {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119] وهذا القول مروي عن ابن عباس وابن مسعود رحمهما الله تعالى، وهو اختيار القاضي.
والثاني: أنهم لما سمعوا كلام الأنبياء عجبوا منه وضحكوا على سبيل السخرية، فعند ذلك ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل ذلك من غلبه الضحك فوضع يده على فيه، والثالث: أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن كفوا عن هذا الكلام واسكتوا عن ذكر هذا الحديث، وهذا مروي عن الكلبي.
والرابع: أنهم أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم إنا كفرنا بما أرسلتم به، أي هذا هو الجواب عندنا عما ذكرتموه، وليس عندنا غيره إقناطًا لهم من التصديق ألا ترى إلى قوله: {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ}.
الوجه الثاني: أن يكون الضميران راجعين إلى الرسل عليهم السلام وفيه وجهان: الأول: أن الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم.
الثاني: أن الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم على أفواه أنفسهم فإن من ذكر كلامًا عند قوم وأنكروه وخافهم، فذلك المتكلم ربما وضع يد نفسه على فم نفسه وغرضه أن يعرفهم أنه لا يعود إلى ذلك الكرم ألبتة.
الوجه الثالث: أن يكون الضمير في أيديهم يرجع إلى الكفار وفي الأفواه إلى الرسل وفيه وجهان: الأول: أن الكفار لما سمعوا وعظ الأنبياء عليهم السلام ونصائحهم وكلامهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل تكذيبًا لهم وردًا عليهم.
والثاني: أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواه الأنبياء عليهم السلام منعًا لهم من الكلام، ومن بالغ في منع غيره من الكلام فقد يفعل به ذلك.
أما على القول الثاني: وهو أن ذكر اليد والفم توسع ومجاز ففيه وجوه:
الوجه الأول: قال أبو مسلم الأصفهاني: المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج وذلك لأن أسماع الحجة انعام عظيم والإنعام يسمى يدًا.
يقال لفلان عندي يد إذا أولاه معروفًا، وقد يذكر اليد.
المراد منها صفقة البيع والعقد كقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعم وأياد، وأيضًا العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أيادي وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي وفي العدد الكثير هو الأيادي، فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي، وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت، ونظيره قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بأفواهكم مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور: 15] فلما كان القبول تلقيًا بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردًا في الأفواه، فهذا تمام كلام أبي مسلم في تقرير هذا الوجه.
الوجه الثاني: نقل محمد بن جرير عن بعضهم أن معنى قوله: {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} أنهم سكتوا عن الجواب يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب، رد يده في فيه وتقول العرب كلمت فلانًا في حاجة فرد يده في فيه إذا سكت عنه فلم يجب، ثم إنه زيف هذا الوجه وقال: إنهم أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ}.
الوجه الثالث: المراد من الأيدي نعم الله تعالى على ظاهرهم وباطنهم ولما كذبوا الأنبياء فقد عرضوا تلك النعم للإزالة والإبطال فقوله: {رَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} أي ردوا نعم الله تعالى عن أنفسهم بالكلمات التي صدرت عن أفواههم ولا يبعد حمل {في} على معنى الباء لأن حروف الجر لا يمتنع إقامة بعضها مقام بعض.
النوع الثاني: من الأشياء التي حكاها الله تعالى عن الكفار قولهم: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} والمعنى: إنا كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم فيه لأنهم ما أقروا بأنهم أرسلوا.
واعلم أن المرتبة الأولى هو أنهم سكتوا عن قبول قول الأنبياء عليهم السلام وحاولوا إسكات الأنبياء عن تلك الدعوى، وهذه المرتبة الثانية أنهم صرحوا بكونهم كافرين بتلك البعثة.
والنوع الثالث: قولهم: {وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} قال صاحب الكشاف: وقرئ: {تَدْعُونَا} بإدغام النون: {مُرِيبٍ} موقع في الريبة أو ذي ريبة من أرابه، والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر.
فإن قيل: لما ذكروا في المرتبة الثانية أنهم كافرون برسالتهم كيف ذكروا بعد ذلك كونهم شاكين مرتابين في صحة قولهم؟
قلنا: كأنهم قالوا إما أن نكون كافرين برسالتكم أو أن ندع هذا الجزم واليقين فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم، والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وإذ تأذن ربُّكم}
فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: معناه وإذ سمع ربكم، قاله الضحاك.
الثاني: وإذا قال ربكم، قاله أبو مالك.
الثالث: معناه وإذ أعلمكم ربكم، ومنه الأذان لأنه إعلام، قال الشاعر:
فلم نشعر بضوء الصبح حتى ** سَمِعْنا في مجالِسنا الأذينا

{لئن شكرتم لأزيدنكم} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي، قاله الربيع.
الثاني: لئن شكرتم نعمتي لأزيدنكم من طاعتي، قاله الحسن وأبو صالح.
الثالث: لئن وحّدتم وأطعتم لأزيدنكم، قاله ابن عباس.
ويحتمل تأويلًا رابعًا: لئن آمنتم لأزيدنكم من نعيم الآخرة إلى نعيم الدنيا.
وسُئِل بعض الصلحاء على شكر الله تعالى، فقال: أن لا تتقوى بنِعَمِهِ على معاصيه. وحكي أنَّ داود عليه السلام قال: أي ربِّ كيف أشكرك وشكري لك نعمة مجددة منك عليّ؟ قال: يا داود الآن شكرتني.
{ولئن كفرتم إن عذابي لشديدٌ} وعد الله تعالى بالزيادة على الشكر، وبالعذاب على الكفر.
قوله عز وجل: {... والذين من بعدهم لا يَعْلمُهم إلا الله}
فيها وجهان:
أحدهما: يعني بعد من قص ذكره من الأمم السالفة قرون وأمم لم يقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلمهم إلا الله عالم ما في السموات والأرض.
الثاني: ما بين عدنان وإسماعيل من الآباء. قال ابن عباس: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبًا لا يعرفون.
وكان ابن مسعود يقرأ: لا يعلمهم إلا الله كذب النسّابون.
{جاءَتهم رسلهم بالبينات} أي بالحجج.
{فردُّوا أيديهم في أفواههم} فيه سبعة أوجه:
أحدها: أنهم عضوا على أصابعهم تغيظًا عليهم، قاله ابن مسعود واستشهد أبو عبيدة بقول الشاعر:
لو أن سلمى أبصرت تخدُّدي ** ودقةً في عظم ساقي ويدي

وبعد أهلي وجفاءَ عُوَّدي ** عضت من الوجد بأطراف اليد

الثاني: أنهم لما سمعوا كتاب الله عجبوا منه ووضعوا أيديهم على أفواههم، قاله ابن عباس.
الثالث: معناه أنهم كانوا إذا قال لهم نبيهم إني رسول الله إليكم، أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم بأن اسكت تكذيبًا له وردًا لقوله، قاله أبو صالح. الرابع: معناه أنهم كذبوهم بأفواههم، قاله مجاهد.
الخامس: أنهم كانوا يضعون أيديهم على أفواه الرسل ردًا لقولهم، قاله الحسن.
السادس: أن الأيدي هي النعم، ومعناه أنهم ردوا نعمهم بأفواههم جحودًا لها.
السابع: أن هذا مثل أريد به أنهم كفوا عن قبول الحق ولم يؤمنوا بالرسل، كما يقال لمن أمسك عن الجواب رَدّ في فيه. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ}
و{تأذن} بمعنى آذن. أي أعلم، وهو مثل: أكرم وتكرم، وأوعد وتوعد، وهذا الإعلام منه مقترن بإنفاذ وقضاء قد سبقه، وما في تفعل هذه من المحاولة والشروع إذا أسندت إلى البشر منفي في جهة الله تعالى، وأما قول العرب: تعلم بمعنى أعلم، فمرفوض. الماضي على ما ذكر يعقوب. كقول الشاعر:
تعلم أبيت اللعن......

ونحوه.
وقال بعض العلماء: الزيادة على الشكر ليست في الدنيا وإنما هي من نعم الآخرة، والدنيا أهون من ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وصحيح جائز أن يكون ذلك، وأن يزيد الله أيضًا المؤمن على شكره من نعم الدنيا وأن يزيده أيضًا منهما جميعًا، وفي هذه الآية ترجية وتخويف، ومما يقضي بأن الشكر متضمن الإيمان أنه عادله بالكفر، وقد يحتمل أن يكون الكفر كفر النعم لا كفر الجحد، وحكى الطبري عن سفيان وعن الحسن أنهما قالا: معنى الآية: {لئن شكرتم لأزيدنكم} من طاعتي وضعفه الطبري، وليس كما قال: بل هو قوي حسن، فتأمله.