فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال القاضي أبو محمد: وقوله: {لئن شكرتم} هو جواب قسم يتضمنه الكلام.
وقوله: {وقال موسى} الآية، في هذه الآية تحقير للمخاطبين- بشرط كفرهم- وتوبيخ، وذلك بين من الصفتين اللتين وصف بهما نفسه تعالى في آخر الآية، وقوله: {لغني} يتضمن تحقيرهم وعظمته، إذ له الكمال التام على الإطلاق، وقوله: {حميد} يتضمن توبيخهم، وذلك أنه صفة يستوجب المحامد كلها، دائم كذلك في ذاته لم يزل ولا يزال، فكفركم أنتم بإله هذه حاله غاية التخلف والخذلان، وفي قوله أيضًا: {حميد} ما يتضمن أنه ذو آلاء عليكم أيها الكافرون به كان يستوجب بها حمدكم، فكفركم به مع ذلك أذهب في الضلال، وهذا توبيخ بين.
وقوله: {ألم يأتكم} الآية، هذا من التذكير بأيام الله في النقم من الأمم الكافرة. وقوله: {لا يعلمهم إلا الله} من نحو قوله: {وقرونًا بين ذلك كثيرًا} [الفرقان: 38]، وفي مثل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذب النسابون من فوق عدنان»، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان بين زمن موسى وبين زمن نوح قرون ثلاثون لا يعلمهم إلا الله.
وحكى عنه المهدوي أنه قال: كان بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبًا لا يعرفون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الوقوف على عدتهم بعيد، ونفي العلم بها جملة أصح، وهو ظاهر القرآن.
واختلف المفسرون في معنى قوله: {فردوا أيديهم في أفواههم} بحسب احتمال اللفظ.
قال القاضي أبو محمد: و{الأيدي} في هذه الآية قد تتأول بمعنى الجوارح، وقد تتأول بمعنى أيدي النعم، فمما ذكر على أن {الأيدي} الجوارح أن يكون المعنى: ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم عضًا عليها من الغيظ على الرسل، ومبالغة في التكذيب- هذا قول ابن مسعود وابن زيد، وقال ابن عباس: عجبوا وفعلوا ذلك، والعض من الغيظ مشهور من البشر، وفي كتاب الله تعالى: {عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} [آل عمران: 119] وقال الشاعر:
قد أفنى أنامله أزمه ** فأضحى يعضُّ عليَّ الوظيفا

وقال الآخر: الرجز:
لو أن سملى أبصرت تخددي ** ودقة في عظم ساقي ويدي

وبعد أهلي وجفاء عوَّدي ** عضت من الوجد بأطراف اليد

ومما ذكر أن يكون المعنى أنهم ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم إشارة على الأنبياء بالسكوت، واستبشاعًا لما قالوا من دعوى النبوءة ومما ذكر أن يكون المعنى ردوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل تسكيتًا لهم ودفعًا في صدر قولهم- قاله الحسن- وهذا أشنع في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل والنيل منهم.
قال القاضي أبو محمد: وتحتمل الألفاظ معنى رابعًا وهو أن يتجوز في لفظ {الأيدي}، أي إنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهم فيما قالوه بأفواههم من التكذيب، فكأن المعنى: ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي في أقوالهم، وعبر عن جميع المدافعة ب {الأيدي}، إذ الأيدي موضع لشد المدافعة والمرادة.
وحكى المهدوي قولًا ضعيفًا وهو أن المعنى: أخذوا أيدي الرسل فجعلوها في أفواه الرسل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي لا وجه له.
ومما ذكر على أن {الأيدي} أيدي النعم ما ذكره الزجاج وذلك أنهم ردوا آلاء الرسل في الإنذار والتبليغ بأفواههم، أي بأقوالهم- فوصل الفعل ب: {في} عوض وصوله بالباء- وروي نحوه عن مجاهد وقتادة.
قال القاضي أبو محمد: والمشهور: جمع يد النعمة: أياد، ولا يجمع على أيد، إلا أن جمعه على أبد، لا يكسر بابًا ولا ينقض أصلًا، وبحسبنا أن الزجاج قدره وتأول عليه.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل اللفظ- على هذا- معنى ثانيًا، أن يكون المقصد: ردوا أنعام الرسل في أفواه الرسل، أي لم يقبلوه، كما تقول لمن لا يعجبك قوله: أمسك يا فلان كلامك في فمك. ومن حيث كانت أيدي الرسل أقوالًا ساغ هذا فيها، كما تقول: كسرت كلام فلان في فمه، أي رددته عليه وقطعته بقلة القبول والرد، وحكى المهدوي عن مجاهد أنه قال: معناه: ردوا نعم الرسل في أفواه أنفسهم بالتكذيب والنجه.
وقوله: {لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} يقتضي أنهم شكوا في صدق نبوتهم وأقوالهم أو كذبها، وتوقفوا في إمضاء أحد المعتقدين، ثم ارتابوا بالمعتقد الواحد في صدق نبوتهم فجاءهم شك مؤكد بارتياب.
وقرأ طلحة بن مصرف: {مما تدعونّا} بنون واحدة مشددة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وإِذ تأذَّن ربُّكم}
مذكور في [الأعراف: 167].
وفي قوله: {لئن شكرتم لأزيدنكم} ثلاثة أقوال:
أحدها: لئن شكرتم نِعَمي لأزيدنكم من طاعتي، قاله الحسن.
والثاني: لئن شكرتم إِنعامي لأزيدنكم من فضلي، قاله الربيع.
والثالث: لئن وحَّدتموني لأزيدنكم خيرًا في الدنيا، قاله مقاتل.
وفي قوله: {ولئن كفرتم} قولان.
أحدهما: أنه كفر بالتوحيد.
والثاني: كفران النِّعَم.
قوله تعالى: {فإن الله لغني حميد} أي: غني عن خَلْقه، محمود في أفعاله، لأنه إِمّا متفضِّل بفعله، أو عادل.
قوله تعالى: {لا يعلمهم إِلا الله} قال ابن الأنباري: أي: لا يحصي عددهم إِلا هو، على أن الله تعالى أهلك أُممًا من العرب وغيرها، فانقطعت أخبارهم، وعفَت آثارهم، فليس يعلمهم أحد إِلا الله.
قوله تعالى: {فرَدُّوا أيديَهم في أفواههم} فيه سبعة أقوال:
أحدها: أنهم عضُّوا أصابعهم غيظًا، قاله ابن مسعود، وابن زيد.
وقال ابن قتيبة: {في} هاهنا بمعنى: إِلى ومعنى الكلام: عضُّوا عليها حَنَقًا وغيظًا، كما قال الشاعر:
يَرُدُّون في فيه عَشْرَ الحَسودِ

يعني: أنهم يغيظون الحسود حتى يَعَضَّ على أصابعه العشر، ونحوه قول الهذلي:
قَدَ افْنَى أَنامِلَه أَزْمُهُ ** فأضحى يَعَضُّ عَلَيَّ الوَظِيفا

يقول: قد أكل أصابعه حتى أفناها بالعضِّ، فأضحى يعضُّ عليَّ وظيف الذارع.
والثاني: أنهم كانوا إِذا جاءهم الرسول فقال: إِني رسول، قالوا له: اسكت، وأشاروا بأصابعهم إِلى أفواه أنفسهم، رَدًّا عليه وتكذيبًا، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: أنهم لما سمعوا كتاب الله، عجّوا ورجعوا بأيديهم إِلى أفواههم، رواه العوفي عن ابن عباس.
والرابع: أنهم وضعوا أيديَهم على أفواه الرسل.
ردًّا لقولهم، قاله الحسن.
والخامس: أنهم كذَّبوهم بأفواههم، وردُّوا عليهم قولهم، قاله مجاهد، وقتادة.
والسادس: أنه مَثَلٌ، ومعناه: أنهم كَفُّوا عما أُمروا بقبوله من الحق، ولم يؤمنوا به.
يقال: رَدَّ فلان يده إِلى فمه، أي: أمسك فلم يُجِب، قاله أبو عبيدة.
والسابع: رَدُّوا ما لَوْ قبلوه لكان نِعَمًا وأياديَ من الله، فتكون الأيدي بمعنى: الأيادي، و{في} بمعنى: الباء، والمعنى: رَدُّوا الأياديَ بأفواههم ذكره الفراء، وقال: قد وجدنا مِن العرب مَن يجعل {في} موضعَ الباء، فيقول: أدخلك الله بالجنة، يريد: في الجنة، وأنشدني بعضهم:
وأَرغَبُ فيها عن لَقيطٍ ورهطِهِ ** ولكنَّني عن سَنْبَسٍ لَسْتُ أَرْغَبُ

فقال: أرغب فيها، يعني: بنتًا له، يريد: أرغب بها، وسَنْبَسُ: قبيلة.
قوله تعالى: {وقالوا إِنا كفرنا بما أُرسلتم به} أي: على زعمكم أنكم أُرسلتم، لا أنهم أقرُّوا بإرسالهم. وباقي الآية قد سبق تفسيره [هود: 62]. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ}
قيل: هو من قول موسى لقومه.
وقيل: هو من قول الله؛ أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا.
و{تَأَذَّنَ} وأذّن بمعنى أَعْلَم؛ مثل أَوْعَد وتَوَعَّد؛ روي معنى ذلك عن الحسن وغيره.
ومنه الأذان، لأنه إعلام؛ قال الشاعر:
فَلَمْ نَشْعُرْ بضوءِ الصّبحِ حتّى ** سمِعنا في مجَالِسِنا الأَذِينَا

وكان ابن مسعود يقرأ {وَإِذْ قَالَ رَبُّكُمْ} والمعنى واحد.
{لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} أي لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي.
الحسن: لئن شكرتم نعمتي لأزيدنكم من طاعتي.
ابن عباس: لئن وَحَّدْتُم وأطعتم لأزيدنّكم من الثواب، والمعنى متقارب في هذه الأقوال؛ والآية نصٌّ في أن الشكر سبب المزيد؛ وقد تقدم في البقرة ما للعلماء في معنى الشكر.
وسئل بعض الصلحاء عن الشكر لله فقال: ألاّ تتقَوّى بنعمه على معاصيه.
وحكي عن داود عليه السلام أنه قال: أي رب كيف أشكرك، وشكري لك نعمة مجدّدة منك عليّ.
قال: يا داود الآن شكرتني.
قلت: فحقيقة الشكر على هذا الاعترافُ بالنعمة للمنعم، وألاّ يصرفها في غير طاعته؛ وأنشد الهادي وهو يأكل:
أَنَالَكَ رِزقَه لتقومَ فيهِ ** بطاعتهِ وتشكرَ بعض حقِّه

فلم تشْكُر لِنعمتِهِ ولكِنْ ** قَوِيتَ على معاصِيهِ برزقه

فغُصَّ باللقمة، وخنقته العَبْرة.
وقال جعفر الصادق: إذا سمعت النعمة نعمة الشكر فتأهب للمزيد.
{وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} أي جحدتم حقِّي.
وقيل: نِعَمِي؛ وَعَد بالعذاب على الكفر، كما وَعَد بالزيادة على الشكر، وحذفت الفاء التي في جواب الشرط من {إن} للشهرة.
قوله تعالى: {وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}
أي لا يلحقه بذلك نقص، بل هو الغني.
{الْحَمِيدُ} أي المحمود.
قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} النبأ الخبر، والجمع الأنباء؛ قال:
أَلَمْ يَأْتِيكَ والأنباء تَنْمِي

ثم قيل: هو من قول موسى.
وقيل: من قول الله؛ أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا.
وقيل: هو ابتداء خطاب من الله تعالى.
وخبر قوم نوح وعاد وثمود مشهور قصه الله في كتابه.
وقوله: {والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} أي لا يحصي عددهم إلا الله، ولا يعرف نسبهم إلا الله؛ والنّسابون وإن نَسَبوا إلى آدم فلا يدّعون إحصاء جميع الأمم، وإنما ينسبون البعض، ويمسِكون عن نسب البعض؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع النّسابين ينسبون إلى معدّ بن عدنان ثم زادوا فقال: «كذب النسابون إن الله يقول: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله}». وقد رُوي عن عُرْوة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحدًا يعرف ما بين عدنان وإسمعيل.
وقال ابن عباس: بين عدنان وإسمعيل ثلاثون أبا لا يعرفون.
وكان ابن مسعود يقول حين يقرأ: {لاَ يعلمهُمْ إِلاَّ اللَّه}: كذب النّسابون.
{جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات} أي بالحجج والدلالات.
{فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} أي جعل أولئك القوم أيدي أنفسهم في أفواههم ليَعضُّوها غيظًا مما جاء به الرسل؛ إذ كان فيه تَسفيه أحلامهم، وشتم أصنامهم؛ قاله ابن مسعود، ومثله قاله عبد الرحمن بن زيد، وقرأ: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظ} [آل عمران: 119] وقال ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم.
وقال أبو صالح: كانوا إذا قال لهم نبيهم أنا رسول الله إليكم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم: أَنِ اسكت، تكذيبًا له، وردًّا لقوله؛ وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى.
والضميران للكفار؛ والقول الأول أصحها إسنادًا؛ قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله تعالى: {فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} قال: عَضُّوا عليها غيظًا؛ وقال الشاعر:
لو أنّ سَلْمَى أَبْصَرَتْ تَخَدُّدِي ** ودِقَّةً في عظمِ ساقي ويَدي

وبُعْدَ أَهْليِ وجَفَاءَ عُوَّدِي ** عَضّتْ من الْوَجْدِ بأطرافِ اليدِ

وقد مضى هذا المعنى في آل عمران مجوّدًا، والحمد لله.