فصل: فَصْل الْجَهْرُ بالبسملة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فَصْل الْجَهْرُ بالبسملة:

أَمَّا الْجَهْرُ بِهَا فَإِنَّ أَصْحَابَنَا وَالثَّوْرِيَّ قَالُوا: يُخْفِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ أَخْفَى.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجْهَرُ بِهَا.
وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي الْإِمَامِ إذَا صَلَّى صَلَاةً يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِيهَا اخْتِلَاف كَثِير؛ فَرَوَى عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ فَجَهَرَ ب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
وَرَوَى حَمَّاد عَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُخْفِيهَا ثُمَّ يَجْهَرُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَرَوَى عَنْهُ أَنَس مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ يُسِرُّونَ قِرَاءَةَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
لَا يَجْهَرُونَ بِهَا وَرَوَى أَنَس أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا يُسِرَّانِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ.
وَرَوَى الْمُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: جَهْرُ الْإِمَامِ ب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي الصَّلَاةِ بِدْعَة.
وَرَوَى جَرِير عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، قَالَ: ذُكِرَ لِعِكْرِمَةَ الْجَهْرُ ب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: أَنَا إذَا أَعْرَابِيّ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: الْجَهْرُ فِي الصَّلَاةِ ب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ كَثِيرٍ، قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ الْجَهْرِ ب {بسم الله الرحمن الرحيم} فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْأَعْرَابُ.
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَرَوَى شَرِيك عَنْ عَاصِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا؛ وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ.
وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْجَهْرِ ب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ: ذَلِكَ فِعْلُ الْأَعْرَابِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ عَدَّهَا آيَةً، وَأَنَّهُ قَالَ: هِيَ تَمَامُ السَّبْعِ الْمَثَانِي، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ الْجَهْرُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ وَعَلِيّ لَا يَجْهَرَانِ ب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَلَا بِالتَّعَوُّذِ وَلَا بِآمِينَ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ فَهَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَرَوَى أَنَس وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يُسِرُّونَ، وَفِي بَعْضِهَا: كَانُوا يُخْفُونَ؛ وَجَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ حَدَثًا فِي الْإِسْلَامِ وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَيَخْتِمُهَا بِالتَّسْلِيمِ.
حدثنا أَبُو الْحَسَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: مَا جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِل: إذَا كَانَ عِنْدَك أَنَّهَا آيَة مِنْ الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعِهَا فَالْوَاجِبُ الْجَهْرُ بِهَا كَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقُرْآنِ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ الْجَهْرُ بِبَعْضِ الْقِرَاءَةِ دُونَ بَعْضٍ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ.
قِيلَ لَهُ: إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ بِهَا تَبَرُّكًا، جَازَ أَنْ لَا يَجْهَرَ بِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ قوله تعالى: {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَمَنْ اسْتَفْتَحَ بِهِ الصَّلَاةَ لَا يَجْهَرُ بِهِ، مَعَ الْجَهْرِ بِسَائِرِ الْقِرَاءَةِ، كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إخْفَائِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَجَهَرَ بِهَا كَجَهْرِهِ بِسَائِرِهَا فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجّ بِمَا رَوَى نُعَيْمٍ الْمُجَمِّرِ أَنَّهُ صَلَّى وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
ثُمَّ لَمَّا سَلَّمَ قَالَ: إنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهَا فَيَقْرَأُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَبِمَا رَوَى جَابِر الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْهَرُ ب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
قِيلَ لَهُ: أَمَّا حَدِيثُ نُعَيْمٍ الْمُجَمِّرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْجَهْرِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُ قَرَأَهَا، وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ جَهَرَ بِهَا وَجَائِز أَنْ لَا يَكُونَ جَهَرَ بِهَا وَإِنْ قَرَأَهَا، وَكَانَ عِلْمُ الرَّاوِي بِقِرَاءَتِهَا إمَّا مِنْ جِهَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِخْبَارِهِ إيَّاهُ بِذَلِكَ أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ سَمِعَهَا لِقُرْبِهِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ بِهَا كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا»، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَهَضَ فِي الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ ب {الحمد لله رب العالمين} وَلَمْ يَسْكُتْ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَنَّهَا مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ؛ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا لَمْ يُجْهَرْ بِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَعُدُّهَا آيَةً مِنْهَا لَا يَجْهَرُ بِهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَرَوَى اللَّيْثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ مُعَلَّى أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَعَتَتْ قِرَاءَتَهُ مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا فَفِي هَذَا الْخَبَر أَنَّهَا نَعَتَتْ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَهْرٍ وَلَا إخْفَاءٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ قَرَأَهَا؛ وَنَحْنُ كَذَلِكَ نَقُولُ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَجْهَرُ بِهَا وَجَائِز أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهَا بِكَيْفِيَّةِ قِرَاءَتِهِ فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ سَمِعَتْهُ يَقْرَأُ غَيْرَ جَاهِرٍ بِهَا، فَسَمِعَتْهُ لِقُرْبِهَا مِنْهُ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا ذَكَرَتْ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهَا، وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ صَلَاةَ فَرْضٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا يُصَلِّي الْفَرْضَ مُنْفَرِدًا بَلْ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي جَمَاعَةٍ وَجَائِز عِنْدَنَا لِلْمُنْفَرِدِ وَالْمُتَنَفِّلِ أَنْ يَقْرَأَ كَيْفَ شَاءَ مِنْ جَهْرٍ أَوْ إخْفَاءٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ فَإِنَّ جَابِرًا مِمَّنْ لَا تَثْبُتُ بِهِ حُجَّة لِأُمُورٍ حُكِيَتْ عَنْهُ تُسْقِطُ رِوَايَتَهُ، مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالرَّجْعَةِ عَلَى مَا حُكِيَ، وَكَانَ يَكْذِبُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَرْوِيهِ؛ وَقَدْ كَذَّبَهُ قَوْم مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْهَرُ بِهَا؛ وَلَوْ كَانَ الْجَهْرُ ثَابِتًا عِنْدَهُ لَمَا خَالَفَهُ إلَى غَيْرِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ تَسَاوَتْ الْأَخْبَارُ فِي الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الْإِخْفَاءُ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ظُهُورُ عَمَلِ السَّلَفِ بِالْإِخْفَاءِ دُونَ الْجَهْرِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الْمُغَفَّلِ وَأُنْسُ بْنُ مَالِكٍ، وَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ: الْجَهْرُ بِهَا بِدْعَة؛ إذْ كَانَ مَتَى رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ وَظَهَرَ عَمَلُ السَّلَفِ بِأَحَدِهِمَا كَانَ الَّذِي ظَهَرَ عَمَلُ السَّلَفِ بِهِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ الْجَهْرَ بِهَا لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُسْتَفِيضًا مُتَوَاتِرًا كَوُرُودِهِ فِي سَائِرِ الْقِرَاءَةِ؛ فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ النَّقْلُ بِهِ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ؛ إذْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ مَسْنُونِ الْجَهْرِ بِهَا كَهِيَ إلَى مَعْرِفَةِ مَسْنُونِ الْجَهْرِ فِي سَائِرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّ اُحْتُجَّ بِمَا حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَيْثَمَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَصَلَّى بِهِمْ وَلَمْ يَقْرَأْ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
وَلَمْ يُكَبِّرْ إذَا خَفَضَ وَإِذَا رَفَعَ، فَنَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ سَلَّمَ وَالْأَنْصَارُ: أَيْ مُعَاوِيَةُ سَرَقْتَ الصَّلَاةَ، أَيْنَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
وَأَيْنَ التَّكْبِيرُ إذَا خَفَضْت وَإِذَا رَفَعْت؟ فَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةً أُخْرَى فَقَالَ فِيهَا ذَلِكَ الَّذِي عَابُوا عَلَيْهِ؛ قَالَ فَقَدْ عَرَفَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارِ الْجَهْرَ بِهَا قِيلَ لَهُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْت لَعَرَفَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الْمُغَفَّلِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ رَوَيْنَا عَنْهُمْ الْإِخْفَاءَ دُونَ الْجَهْرِ، وَلَكَانَ هَؤُلَاءِ أَوْلَى بِعِلْمِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى».
وَكَانَ هَؤُلَاءِ أَقْرَبَ إلَيْهِ فِي حَالَ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْقَوْمِ الْمَجْهُولِينَ الَّذِينَ ذَكَرْت، وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِفَاضَةٍ لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرْت مِنْ قَوْلِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إنَّمَا رَوَيْته مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْجَهْرِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
وَنَحْنُ أَيْضًا نُنْكِرُ تَرْكَ قِرَاءَتِهَا، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ أَيُّهُمَا أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْل وَالْأَحْكَامُ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا قَوْلُهُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}:

الْأَمْرُ بِاسْتِفْتَاحِ الْأُمُورِ لِلتَّبَرُّكِ بِذَلِكَ، وَالتَّعْظِيمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَذِكْرُهَا عَلَى الذَّبِيحَةِ شِعَار وَعَلَم مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ وَطَرْدِ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَمَّى اللَّهَ الْعَبْدُ عَلَى طَعَامِهِ لَمْ يَنَلْ مِنْهُ الشَّيْطَانُ مَعَهُ وَإِذَا لَمْ يُسَمِّهِ نَالَ مِنْهُ مَعَهُ» وَفِيهِ إظْهَارُ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَفْتَتِحُونَ أُمُورَهُمْ بِذِكْرِ الْأَصْنَامِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَهُوَ مَفْزَع لِلْخَائِفِ، وَدَلَالَة مِنْ قَائِلِهِ عَلَى انْقِطَاعِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلُجُوئِهِ إلَيْهِ، وَأُنْس لِلسَّامِعِ، وَإِقْرَار بِالْأُلُوهِيَّةِ، وَاعْتِرَاف بِالنِّعْمَةِ، وَاسْتِعَانَة بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَعِيَاذَة بِهِ، وَفِيهِ اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَخْصُوصَةِ بِهِ لَا يُسَمَّى بِهِمَا غَيْرُهُ، وَهُمَا اللَّهُ وَالرَّحْمَنُ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

.الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَاق النَّاس عَلَى أَنَّهَا آيَة مِنْ كِتَابِ اللَّهِ:

قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا آيَة مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، فَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَتْ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ بِآيَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ اسْتِفْتَاح لِيُعْلَمَ بِهَا مُبْتَدَؤُهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ آيَة فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، قَوْلًا وَاحِدًا؛ وَهَلْ تَكُونُ آيَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ؟ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ؛ فَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْخِلَافِ مِنْ قِسْمِ التَّوْحِيدِ وَالنَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَطَرِيقِ إثْبَاتِهِ قُرْآنًا، وَوَجْهُ اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهُ، فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَأَشَرْنَا إلَى بَيَانِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَوَدِدْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ لَهُ فَفِيهَا إشْكَال عَظِيم.
وَنَرْجُو أَنَّ النَّاظِرَ فِي كَلَامِنَا فِيهَا سَيَمْحِي عَنْ قَلْبِهِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ سَدَلَ مِنْ إشْكَالٍ بِهِ.