فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثاني: قال ابن عباس: المعنى يمتعكم في الدنيا بالطيبات واللذات إلى الموت.
فإن قيل: أليس إنه تعالى قال: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] فكيف قال ههنا: {وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى}.
قلنا: قد تكلمنا في هذه المسألة في سورة الأنعام في قوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2] ثم حكى تعالى أن الرسل لما ذكروا هذه الأشياء لأولئك الكفار قالوا: {إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين}.
واعلم أن هذا الكلام مشتمل على ثلاثة أنوع من الشبه:
فالشبهة الأولى: أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية، فيمتنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد، وهو أن يكون الواحد منهم رسولًا من عند الله مطلعًا على الغيب مخالطًا لزمرة الملائكة، والباقون يكونون غافلين عن كل هذه الأحوال أيضًا كانوا يقولون: إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة، وجب أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة، وفي الحاجة إلى الأكل والشرب والحدث والوقاع، وهذه الشبهة هي المراد من قولهم: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا}.
والشبهة الثانية: التمسك بطريقة التقليد، وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم وكبراءهم مطبقين متفقين على عبادة الأوثان.
قالوا ويبعد أن يقال: إن أولئك القدماء على كثرتهم وقوة خواطرهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين، وأن الرجل الواحد عرف فساده ووقف على بطلانه، والعوام ربما زادوا في هذا الباب كلامًا آخر، وذلك أن الرجل العالم إذا بين ضعف كلام بعض المتقدمين قالوا له إن كلامك إنما يظهر صحته لو كان المتقدمون حاضرين، أما المناظرة مع الميت فسهلة، فهذا كلام يذكره الحمقى والرعاع وأولئك الكفار أيضًا ذكروه، وهذه الشبهة هي المراد من قوله: {تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا}.
والشبهة الثالثة: أن قالوا المعجز لا يدل على الصدق أصلًا، وإن كانوا سلموا على أن المعجز يدل على الصدق، إلا أن الذي جاء به أولئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنها أمور معتادة، وأنها ليست من باب المعجزات الخارجة عن قدرة البشر، وإلى هذا النوع من الشبهة الإشارة بقوله: {فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ} فهذا تفسير هذه الآية بحسب الوسع، والله أعلم.
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوة، حكى عن الأنبياء عليهم السلام جوابهم عنها.
أما الشبهة الأولى: وهي قولهم: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} فجوابه: أن الأنبياء سلموا أن الأمر كذلك، لكنهم بينوا أن التماثل في البشرية والإنسانية لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة لأن هذا المنصب منصب يمن الله به على من يشاء من عباده، فإذا كان الأمر كذلك فقد سقطت هذه الشبهة.
واعلم أن هذا المقام فيه بحث شريف دقيق، وهو أن جماعة من حكماء الإسلام قالوا: إن الإنسان ما لم يكن في نفسه وبدنه مخصوصًا بخواص شريفة علوية قدسية، فإنه يمتنع عقلًا حصول صفة النبوة له.
وأما الظاهريون من أهل السنة والجماعة، فقد زعموا أن حصول النبوة عطية من الله تعالى يهبها لكل من يشاء من عباده، ولا يتوقف حصولها على امتياز ذلك الإنسان عن سائر الناس بمزيد إشراق نفساني وقوة قدسية، وهؤلاء تمسكوا بهذه الآية، فإنه تعالى بين أن حصول النبوة ليس إلا بمحض المنة من الله تعالى والعطية منه، والكلام من هذا الباب غامض غائص دقيق، والأولون أجابوا عنه بأنهم لم يذكروا فضائلهم النفسانية والجسدانية تواضعًا منهم، واقتصروا على قولهم: {ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} بالنبوة، لأنه قد علم أنه تعالى لا يخصهم بتلك الكرامات إلا وهم موصوفون بالفضائل التي لأجلها استوجبوا ذلك التخصيص، كما قال تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
وأما الشبهة الثانية: وهي قولهم: إطباق السلف على ذلك الدين يدل على كونه حقًا، لأنه يبعد أن يظهر للرجل الواحد ما لم يظهر للخلق العظيم، فجوابه: عين الجواب المذكور عن الشبهة الأولى، لأن التمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب عطية من الله تعالى وفضل منه، ولا يبعد أن يخص بعض عبيده بهذه العطية وأن يحرم الجمع العظيم منها.
وأما الشبهة الثالثة: وهي قولهم: إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها، وإنما نريد معجزات قاهرة قوية.
فالجواب عنها: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بسلطان إِلاَّ بِإِذْنِ الله} وشرح هذا الجواب أن المعجزة التي جئنا بها وتمسكنا بها حجة قاطعة وبينة قاهرة ودليل تام، فأما الأشياء التي طلبتموها فهي أمور زائدة والحكم فيها لله تعالى فإن خلقها وأظهرها فله الفضل وإن لم يخلقها فله العدل ولا يحكم عليه بعد ظهور قدر الكفاية.
ثم إنه تعالى حكى عن الأنبياء والرسل عليهم السلام أنهم قالوا بعد ذلك: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} والظاهر أن الأنبياء لما أجابوا عن شبهاتهم بذلك الجواب فالقوم أخذوا في السفاهة والتخويف والوعيد، وعند هذا قالت الأنبياء عليهم السلام: لا نخاف من تخويفكم ولا نلتفت إلى تهديدكم فإن توكلنا على الله واعتمادنا على فضل الله ولعل الله سبحانه كان قد أوحى إليهم أن أولئك الكفرة لا يقدرون على إيصال الشر والآفة إليهم وإن لم يكن حصل هذا الوحي، فلا يبعد منهم أن لا يلتفتوا إلى سفاهتهم لما أن أرواحهم كانت مشرقة بالمعارف الإلهية مشرقة بأضواء عالم الغيب والروح متى كانت موصوفة بهذه الصفات فقلما يبالي بالأحوال الجسمانية وقلما يقيم لها وزنًا في حالتي السراء والضراء وطورى الشدة والرخاء، فلهذا السبب توكلوا على الله وعولوا على فضل الله وقطعوا أطماعهم عما سوى الله، والذي يدل على أن المراد ما ذكرناه قوله تعالى حكاية عنهم: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا آذَيْتُمُونَا} يعني أنه تعالى لما خصنا بهذه الدرجات الروحانية، والمعارف الإلهية الربا نية فكيف يليق بنا أن لا نتوكل على الله، بل اللائق بنا أن لا نتوكل إلا عليه ولا نعول في تحصيل المهمات إلا عليه، فإن من فاز بشرف العبودية ووصل إلى مكان الإخلاص والمكاشفة يقبح به أن يرجع في أمر من الأمور إلى غير الحق سواء كان ملكًا له أو ملكًا أو روحًا أو جسمًا، وهذه الآية دالة على أنه تعالى يعصم أولياءه المخلصين في عبوديته من كيد أعدائهم ومكرهم، ثم قالوا: {وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا اذَيْتُمُونَا} فإن الصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات، والحق لابد وأن يصير غالبًا قاهرًا، والباطل لابد وأن يصير مغلوبًا مقهورًا، ثم أعادوا قولهم: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} والفائدة فيه أنهم أمروا أنفسهم بالتوكل على الله في قوله: {وَمَا لَنَا ألاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله} ثم لما فرغوا من أنفسهم أمروا أتباعهم بذلك وقالوا: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} وذلك يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر قوله إلا إذا أتى بذلك الخير أولًا، ورأيت في كلام الشيخ أبي حامد الغزالي رحمه الله فصلًا حسنًا وحاصله: أن الإنسان إما أن يكون ناقصًا أو كاملًا أو خاليًا عن الوصفين، أما الناقص فإما أن يكون ناقصًا في ذاته ولكنه لا يسعى في تنقيص حال غيره، وإما أن يكون ناقصًا ويكون مع ذلك ساعيًا في تنقيص حال الغير، فالأول: هو الضال، والثاني: هو الضال المضل، وأما الكامل فإما أن يكون كاملًا ولا يقدر على تكميل الغير وهم الأولياء، وإما أن يكون كاملًا ويقدر على تكميل الناقصين وهم الأنبياء ولذلك قال عليه السلام: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» ولما كانت مراتب النقصان والكمال ومراتب الإكمال والإضلال غير متناهية بحسب الكمية والكيفية، لا جرم كانت مراتب الولاية والحياة غير متناهية بحسب الكمال والنقصان، فالولي هو الإنسان الكامل الذي لا يقوى على التكميل، والنبي هو الإنسان الكامل المكمل، ثم قد تكون قوته الروحانية النفسانية وافية بتكميل إنسانين ناقصين وقد تكون أقوى من ذلك فيفي بتكميل عشرة ومائة وقد تكون تلك القوة قاهرة قوية تؤثر تأثير الشمس في العالم فيقلب أرواح أكثر أهل العلم من مقام الجهل إلى مقام المعرفة ومن طلب الدنيا إلى طلب الآخرة، وذلك مثل روح محمد صلى الله عليه وسلم، فإن وقت ظهوره كان العالم مملوءًا من اليهود وأكثرهم كانوا مشبهة ومن النصارى وهم حلولية ومن المجوس وقبح مذاهبهم ظاهر ومن عبدة الأوثان وسخف دينهم أظهر من أن يحتاج إلى بيان فلما ظهرت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم سرت قوة روحه في الأرواح فقلب أكثر أهل العالم من الشرك إلى التوحيد، ومن التجسيم إلى التنزيه، ومن الاستغراق في طلب الدنيا إلى التوجه إلى عالم الآخرة، فمن هذا المقام ينكشف للإنسان مقام النبوة والرسالة.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {وَمَا لَنَا ألاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله} إشارة إلى ما كانت حاصلة لهم من كمالات نفوسهم، وقولهم في آخر الأمر، وعلى الله فليتوكل المتوكلون، إشارة إلى تأثير أرواحهم الكاملة في تكميل الأرواح الناقصة فهذه أسرار عالية مخزونة في ألفاظ القرآن، فمن نظر في علم القرآن وكان غافلًا عنها كان محرومًا من أسرار علوم القرآن والله أعلم، وفي الآية وجه آخر وهو أن قوله: {وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بسلطان إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} المراد منه أن الذين يطلبون سائر المعجزات وجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله تعالى لا عليها، فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها.
وأما قوله في آخر الآية: {وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} المراد منه الأمر بالتوكل على الله في دفع شر الناس الكفار وسفاهتهم، وعلى هذا التقدير فالتكرار غير حاصل لأن قوله: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ} وارد في موضعين مختلفين بحسب مقصودين متغايرين، وقيل أيضًا: الأول: ذكر لاستحداث التوكل.
والثاني: للسعي في إبقائه وإدامته، والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {قالت رسلهم أفي الله شك}
فيه وجهان:
أحدهما: أفي توحيد الله شك؟ قاله قتادة.
الثاني: أفي طاعة الله شك؟
ويحتمل وجهًا ثالثًا: أفي قدرة الله شك؟ لأنهم متفقون عليها ومختلفون فيما عداها.
{فاطر السموات والأرض} أي خالقهما، لسهوهم عن قدرته.
{يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم} أي يدعوكم إلى التوبة ليغفر ما تقدمها من معصية.
وفي قوله تعالى: {من ذنوبكم} وجهان:
أحدهما: أن: {من} زائدة، وتقديره، ليغفر لكم ذنوبكم، قاله أبو عبيدة.
الثاني: ليست زائدة، ومعناه أن تكون المغفرة بدلًا من ذنوبكم، فخرجت مخرج البدل.
{ويؤخركم إلى أجل مسمى} يعني إلى الموت فلا يعذبكم في الدنيا.
قوله عز وجل: {قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشرٌ مثلكم} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن ينكر قومهم أن يكونوا مثلهم وهم رسل الله إليهم.
الثاني: أن يكون قومهم سألوهم معجزات اقترحوها.
وفي قوله تعالى: {ولكن الله يمنّ على مَنْ يشاء من عباده} ثلاثة أوجه:
أحدها: بالنبوة.
الثاني: بالتوفيق والهداية.
الثالث: بتلاوة القرآن وفهم ما فيه، قاله سهل بن عبدالله.: {وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: بكتاب.
الثاني: بحجة.
الثالث: بمعجزة. اهـ.

.قال ابن عطية:

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}
قوله: {أفي الله} مقدر فيه ضمير تقديره عند كثير من النحويين أفي إلوهية الله شك؟ وقال أبو علي الفارسي: تقديره: أفي وحدانية الله شك؟.
قال القاضي أبو محمد: وزعم بعض الناس: أن أبا علي إنما فزع إلى هذه العبارة حفظًا للاعتزال وزوالًا عما تحتمله لفظة الألوهية من الصفات بحسب عمومها، ولفظة الوحدانية مخلصة من هذا الاحتمال.
والفاطر المخترع المبتدي، وسوق هذه الصفة احتجاج على الشاكين يبين التوبيخ، أي أيشك فيمن هذه صفته؟ فساق الصفة التي هي منصوبة لرفع الشك.
وقوله: {من ذنوبكم} ذهب بعض النحاة إلى أنها زائدة، وسيبويه يأبى أن تكون زائدة ويراها للتبعيض.
قال القاضي أبو محمد: وهو معنى صحيح، وذلك أن الوعد وقع بغفران الشرك وما معه من المعاصي، وبقي ما يستأنفه أحدهم بعد إيمانه من المعاصي مسكوتًا ليبقى معه في مشيئة الله تعالى، فالغفران إنما نفذ به الوعد في البعض، فصح معنى: {من}.