فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{مّن ذُنُوبِكُمْ} أي بعضها وهو ما عدا المظالم وحقوق العباد على ما قيل، وهو مبني على أن الإسلام إنما يرفع ما هو من حقوق الله تعالى الخالصة له دون غيره، والذي صححه المحدثون في شرح ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام يهدم ما قبله» أنه يرفع ما قبله مطلقًا حتى المظالم وحقوق العباد، وأيد ذلك بظاهر قوله تعالى في آية أخرى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 71] بدون من، و: {مِنْ} هنا ذهب أبو عبيدة.
والأخفش إلى زيادة: {مِنْ} فيما هي فيه، وجمهور البصريين لا يجوزون زيادتها في الموجب ولا إذا جرت المعرفة كما هنا فلا يتأتى التوفيق بذلك بين الآيتين، وجعلها الزجاج للبيان ويحصل به التوفيق، وقيل: هي للبدل أي ليغفر لكم بدل ذنوبكم ونسب للواحدي.
وجوز أيضًا أن تكون للتبعيض ويراد من البعض الجميع توسعًا.
ورد الإمام الأول بأن: {مِنْ} لا تأتي للبدل، والثاني بأنه عين ما نقل عن أبي عبيدة.
والأخفش وهو منكر عند سيبويه والجمهور وفيه نظر ظاهر، ولو قال: إن استعمال البعض في الجميع مسلم وأما استعمال من التبعيضية في ذلك فغير مسلم لكان أولى.
وفي البحر يصح التبعيض ويراد بالبعض ما كان قبل الإسلام وذلك لا ينافي الحديث وتكون الآية وعدا بغفران ما تقدم لا بغفران ما يستأنف ويكون ذاك مسكوتًا عنه باقيًا تحت المشيئة في الآية والحديث، ونقل عن الأصم القول بالتبعيض أيضًا على معنى إنكم إذا آمنتم يغفر لكم الذنوب التي هي الكبائر واما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في نفسها مغفورة، واستطيب ذلك الطيبي قال: والذي يقتضيه المقام هذا لأن الدعوة عامة لقوله سبحانه: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى الله شَكٌّ فَاطِرِ السموات والأرض يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} كأنه قيل: أيها الشاكون الملوثون بأوضار الشرك والمعاصي إن الله تعالى يدعوكم إلى الإيمان والتوحيد ليطهركم من أخباث أنجاس الذنوب فلا وجه للتخصيص أي بحقوق الله تعالى الخالصة له، وقد ورد {إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] و: {مَا} للعموم سيما في الشرط، ومقام الكافر عند ترغيبه في الإسلام بسط لا قبض، والكفار إذا أسلموا إنما اهتمامهم في الشرك ونحوه لا في الصغائر، ويؤيده ما روى أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله تعالى لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وعبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرم الله تعالى فنزلت: {قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية، وقصة وحشي مشهورة، وجرح ذلك القاضي فقال: إن الأصم قد أبعد في هذا التأويل لأن الكفار صغائرهم ككبائرهم في أنها لا تغفر وإنما تكون الصغيرة مغفورة من الموحدين من حيث إنه يزيد ثوابهم على عقابها وأما من لا ثواب له أصلًا فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرًا ولا يكون شيء منها مغفورًا، ثم قال: وفي ذلك وجه آخر وهو أن الكافر قد ينسي بعض ذنوبه في حال توبته وإيمانه فلا يكون المغفور إلا ما ذكره وتاب منه اهـ.
ولو سمع الأصم هذا التوجيه لأحذ ثأره من القاضي فإنه لعمري توجيه غير وجيه؛ ولو أن أحدًا سخم وجه القاضي لسخمت وجهه، وقال الزمخشري: إن الاستقراء في الكافرين أن يأتي: {مّن ذُنُوبِكُمْ} وفي المؤمنين: {ذُنُوبَكُمْ} وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوى في الميعاد بين الفريقين.
وحاصلة على ما في الكشف أن ليس مغفرة بعض الذنوب للدلالة على أن بعضًا آخر لا يغفر فإنه من قبيل دلالة مفهوم اللقب ولا اعتداد به، كيف وللتخصيص فائدة أخرى هي التفرقة بين الخطابين بالتصريح بمغفرة الكل وإبقاء البعض في حق الكفرة مسكوتا عنه لئلا يتكلوا على الإيمان.
وفيه أيضًا أن هذا معنى حسن لا تكلف فيه.
واعترض ابن الكمال بأن حديث التفرقة إنما يتم لو لم يجيء خطاب على العموم وقد جاء كذلك في سورة الأنفال [38] في قوله سبحانه: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} وأجيب بأن هذا غير وارد إذ المراد التفرقة فيما ذكر فيه صيغة ويغفر ذنوبكم لا مطلق ما كان بمعناه ولذا أسند الأمر إلى الاستقراء، ومثل الزمخشري لا يخفى عليه ما أورد ولا يلزم رعاية هذه النكتة في جميع المواد، وذكر البيضاوي في وجه التفرقة بين الخطابين ما حاصله لعل المعنى ذلك أنها لما ترتبت المغفرة في خطاب الكفرة على الإيمان لزمن فيه: {مِنْ} التبعيضية لإخراج المظالم لأنها غير مغفورة، وأما في خطاب المؤمنين فلما ترتب على الطاعة واجتناب المعاصي التي من جملتها المظالم لم يحتج إلى: {مِنْ} لإخراجها لأنها خرجت بما رتبت عليه، وهو مبني على خلاف ما صححه المحدثون، وينافيه ما ذكره في تفسير: {مّن ذُنُوبِكُمْ} في سورة نوح عليه السلام [4]؛ ومع ذا أورد عليه قوله تعالى: {قَالَ يا قوم إِنّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 2 4] حيث ذكرت: {مِنْ} مع ترتيب المغفرة على الطاعة واجتناب المعاصي الذي أفاده: {اتقوا} وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة} [الصف: 10] الآية لعدم ذكر: {مِنْ} مع ترتبها على الإيمان، والجواب بأنه لا ضمير إذ يكفي ترتيب ذلك على الإيمان في بعض المواد فيحمل مثله على أن القصد إلى ترتيبه عليه وحده بقرينة ذلك البعض وما ذكر معه يحمل على الأمر به بعد الإيمان أدنى من أن يقال فيه ليس بشيء، وبالجملة توجيه الزمخشري أوجه مما ذكره البيضاوي فتأمل وتذكر.
{وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى وقت سماه الله تعالى وجعله منتهى أعماركم على تقدير الإيمان ولا يعاجلكم بعذاب الاستئصال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يمتعكم في الدنا باللذات والطيبات إلى الموت، ولا يلزم مما ذكر القول بتعدد الأجل كما يزعمه المعتزلة، وقد مر تحقيق ذلك: {قَالُواْ} استئناف كما سبق آنفًا: {إِنْ أَنتُمْ} ما أنتم: {إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} من غير فضل يؤهلكم لما تدعون من الرسالة.
والزمخشري تهالك في مذهبه حتى اعتقد أن الكفار كانوا يعتقدون تفضيل الملك: {تُرِيدُونَ} صفة ثانية لبشر حملًا على المعنى كقوله تعالى: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أو كلام مستأنف أي تريدون بما أنتم عليه من الدعوة والإرشاد: {أَن تَصُدُّونَا} [التغابن: 6] بما تدعونا إليه من التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى: {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} عما استمر على عبادته آباؤنا من غير شيء يوجبه.
وقرأ طلحة: {أَن تَصُدُّونَا} بتشديد النون، وخرج على جعل أن مخففة من الثقيلة وتقدير فاصل بينها وبينالفعل أي أنه قد تصدونا، وقد جاء مثل ذلك في قوله:
علموا أن يؤملون فجادوا ** قبل أن يسألوا بأعظم سؤل

والأولى أن يخرج على أن: {إن} هي الثنائية التي تنصب المضارع لكنها لم تعمل كما قيل: في قوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] في قراءة الرفع حملا لها على أختها: {مَا} المصدرية كما عملت: {مَا} حملا عليها فيما ذكره بعضهم في قوله:
أن تقرآن على أسماء ويحكما ** مني السلام وأن لا تشعرا أحدًا

{فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ} أي إن لم يكن الأمر كما قلنا بل كنتم رسلًا من قبله تعالى كما تدعون فأتونا بما يدل على صحة ما تدعونه من الرسالة حتى نترك ما لم نزل نعبده أبا عن جد، أو على فضلكم واستحقاقكم لتلك المرتبة.
قال ابن عطية: إنهم استعبدوا إرسال البشر فأرادوا حجة عليه، وقيل: بل إنهم اعتقدوا محاليته وذهبوا مذهب البراهمة وطلبوا الحجة على جهة التعجيز أي بعثكم محال وإلا فأتوا بسلطان مبين أي إنكم لا تفعلون ذلك أبدًا.
وهو خلاف الظاهر، وهطا الطلب كان بعد إتيانهم عليهم السلام لهم من الآيات الظاهرة والبينات الباهرة ماتخر له الجبال الصم أقدمهم عليه العناد والمكابرة {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ} مجاراة لأول مقالتهم: {إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} كما تقولون وهذا كالقول بالموجب لأن فيه إطماعًا في الموافقة ثم كر إلى جانبهم بالإبطال بقولهم عليهم السلام: {ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي إنما اختصنا الله تعالى بالرسالة بفضل منه سبحانه وامتنان، والبشرية غير مانعة لمشيئته جل وعلا، وفيه دليل على أن الرسالة عطائية وأن ترجيح بعض الجائزات على بعض بمشيئته تعالى، ولا يخفى ما في العدول عن ولكن الله من علينا إلى ما في النظم الجليل من التواضع منهم عليهم السلام، وقيل: المعنى ما نحن من الملائكة بل نحن بشر مثلكم في الصورة أو في الدخول تحت الجنس ولكن الله تعالى يمن على من يشاء بالفضائل والكمالات والاستعدادات التي يدور عليها فلك الاصطفاء للرسالة، وفي هذا ذهاب إلى قول بعض حكماء الإسلام: إن الإنسان لو لم يكن في نفسه وبدنه مخصوصًا بخواص شريفة علوية قدسية فإنه يمتنع عقلًا حصول صفة النبوة فيه، وأجابوا عن عدم ذكر المرسلين عليهم السلام فضائلهم النفسانية والبدنية بأنه من باب التواضع كاختيار العموم، والحق منع الامتناع العقلي وإن كانوا عليهم السلام جميعًا لهم مزايا وخواص مرجحة لهم على غيرهم، وإنما قيل لهم كما قيل: لاختصاص الكلام بهم حيث أريد الزامهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوع الشك فيه تعالى فإنه عام وإن اختص بهم ما يعقبه: {وَمَا كَانَ لَنَا} أي ما صح ما استقام: {إن تَأْتِيكُمْ بسلطان} أي بحجة ما من الحجج فضلًا عن السلطان المبين الذي اقترحتموه بشيء من الأشياء وسبب من الأسباب: {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} فإنه أمر يتعلق بمشيئته تعالى إن شاء كان وإلا فلا: {وَعَلَى الله} وحده دون ما عداه مطلقًا: {فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم، عمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل من الإيمان وقصدوا به أنفسهم قصدًا أوليًا، ويدل على ذلك قولهم: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله} ومحل الخلاف في دخول المتكلم في عموم كلامه حيث لم يعلم دخوله فيه بالطريق الأولى أو تقم عليه قرينة كما هنا.
واحتمال أن يراد بالمؤمنين أنفسهم و: {مَا لَنَا} التفات لا التفات إليه، والجمع بين الواو والفاء تقدم الكلام فيه و: {مَا} استفهامية للسؤال عن السبب والعذر و: {إن} على تقدير حرف الجر أي أي عذر لنا في عدم التوكل عليه تعالى، والإظهار لإظهار النشاط بالتوكل عليه جل وعلا والاستلذاذ باسمه تعالى وتعليل التوكل: {وَقَدْ هُدْنَا} أي والحال أنه سبحانه قد فعل بنا ما يوجب ذلك ويستدعيه حيث هدانا: {سُبُلَنَا} أي أرشد كلا منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له وأوجب عليه سلوكه في الدين.
وقرأ أبو عمرو: {سُبُلَنَا} بسكون الباء، وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح في التوكل قالوا على سبيل التوكيد القسمي مظهرين لكمال العزيمة.
{وَلَنَصْبِرَنَّ على} و: {فِى مَا} مصدرية أي إذائكم إيانا بالعناد واقتراح الآيات وغير ذلك مما لا خير فيه، وجوزوا أن تكون موصولة بمعنى الذيوالعائد محذوف أي الذي آذيتموناه، وكان الأصل آذيتمونا به فعل حذف به أو الباء ووصل الفعل إلى الضمير؟ قولان: {وَعَلَى الله} خاصة: {فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} أي فليثبت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل، والمراد بهم المؤمنون، والتعبير عنهم بذلك لسبق اتصافهم به، وغرض المرسلين من ذلك نحو غرضهم مما تقدم وربما يتجوز في المسند إليه.
فالمعنى وعليه سبحانه فليتوكل مريدو التوكل لكن الأول أولى.
وقرأ الحسن بكسر لام الأمر في: {ليتوكل} وهو الأصل هذا، وذكر بعضهم أن من خواص هذه الآية دفع أذى البرغوث.
فقد أخرج المستغفري في الدعوات عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا آذاك البرغوث فخذ قدحًا من ماء واقرأ عليه سبع مرات: {وَمَا لَنَا أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله} الآية وتقول: إن كنتم مؤمنين فكفوا شركم وأذاكم عنا ثم ترشه حول فراشك فإنك تبيت آمنا من شرها».
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي الدرداء مرفوعًا نحو ذلك إلا أنه ليس فيه «إن كنتم مؤمنين فكفوا شركم وأذاكم عنا» ولم أقف على صحة الخبر ولم أجرب ذلك إذ ليس للبرغوث ولع بي والحمد لله تعالى، وأظن أن ذلك لملوحة الدم كما أخبرني به بعض الأطباء والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. اهـ.

.قال القاسمي:

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: وهو مما لا مجال للشك فيه لغاية ظهوره.
قال ابن كثير: هذا يحتمل معنيين: أحدهما: أفي وجوده شك؟ فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به. فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة، ولكن قد يعرض لبعض الفطر شك واضطراب فيحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه فاطر السماوات والأرض- أي: الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق- فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما. فلابد لهما من صانع وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء وإلهه ومليكه. والمعنى الثاني: أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له، شك؟ وهو الخالق لجميع الموجودات ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى. انتهى.