فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال القاضي أبو محمد: وتلخيص هذا أن يشبه الزمان بطريق تأتي الحوادث من جهته الواحدة متتابعة، فما تقدم فهو أمام، وما تأخر وراء المتقدم، وكذلك قوله: {وكان وراءهم} [الكهف: 79] أي غصبه وتغلبه يأتي بعد حذرهم وتحفظهم.
وقوله: {ويسقى من ماء} وليس بماء لكن لما كان بدل الماء في العرف عندنا عد ماء، ثم نعته ب: {صديد} كما تقول: هذا خاتم حديد، والصديد القيح والدم، وهو ما يسيل من أجساد أهل النار، قاله مجاهد والضحاك.
وقوله: {يتجرعه ولا يكاد يسيغه} عبارة عن صعوبة أمره عليهم، وروي أن الكافر يؤتى بالبشربة من شراب أهل النار فيتكرهها، فإذا أدنيت منه شوت وجهه وسقطت فيها فروة رأسه فإذا شربها قطعت أمعاءه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الخبر مفرق في آيات من كتاب الله.
وقوله: {ويأتيه الموت من كل مكان}، أي من كل شعرة في بدنه، قاله إبراهيم التيمي، وقيل من جميع جهاته الست، وقوله: {وما هو بميت} أي لا يراح بالموت، وباقي الآية كأولها، ووصف العذاب بالغليظ مبالغة فيه، وقال الفضيل بن عياض: العذاب الغليظ حبس الأنفاس في الأجساد وقيل: إن الضمير في: {ورائه} هنا هو للعذاب المتقدم.
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}
اختلف في الشيء الذي ارتفع به قوله: {مثل}، فمذهب سيبويه رحمه الله أن التقدير: فيما يتلى عليكم أو يقص: {مثل الذين كفروا}. ومذهب الكسائي والفراء: أنه ابتداء خبره: {كرماد} والتقدير عندهم: مثل أعمال الذين كفروا كرماد، وقد حكي عن الفراء: أنه يرى إلغاء: {مثل} وأن المعنى: الذين كفروا أعمالهم كرماد، وقيل: هو ابتداء و: {أعمالهم} ابتداء ثان، و: {كرماد} خبر الثاني، والجملة خبر الأول، وهذا عندي أرجح الأقوال وكأنك قلت: المتحصل مثالًا في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة، وهي: {أعمالهم كرماد}. وهذا يطرد عندي في قوله تعالى: {مثل الجنة} [الرعد: 35، محمد: 15]. وشبهت أعمال الكفرة ومساعيهم في فسادها وقت الحاجة وتلاشيها بالرماد الذي تذروه الريح، وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى أثر، ولا يجتمع منه شيء، ووصف اليوم ب العصوف- وهي من صفة الريح بالحقيقة- لما كانت في اليوم، ومن هذا المعنى قول الشاعر جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ** ونمت وما ليل المطي بنائم

ومنه قول الآخر:
يومين غيمين ويومًا شمسًا

فأعمال الكفرة لتلاشيها لا يقدرون منها على شيء.
وقرأ نافع وحده وأبو جعفر {الرياح} والباقون {الريح} بالإفراد وقد تقدم هذا ومعناه مستوفى بحمد الله.
قوله: {ذلك} إشارة إلى كونهم بهذه الحال، وعلى مثل هذا الغرور، و: {الضلال البعيد} الذي قد تعمق فيه صاحبه وأبعد عن لاحب النجاة.
وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر {في يوم عاصف} بإضافة يوم إلى عاصف، وهذا بين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {لنُهلكنَّ الظالمين}
يعني: الكافرين بالرسل.
وقوله تعالى: {مِن بعدهم} أي: بعد هلاكهم.
{ذلك} الإِسكان: {لمن خاف مقامي} قال ابن عباس: خاف مُقامه بين يديَّ.
قال الفراء: العرب قد تضيف أفعالها إِلى أنفسها، وإِلى ما أُوقِعَتْ عليه، فتقول: قد ندمت على ضربي إِياك، وندمت على ضربك، فهذا من ذاك، ومِثْله: {وتجعلون رزقكم} [الواقعة: 82] أي: رزقي إِياكم.
قوله تعالى: {وخاف وعيد} أثبت ياء {وعيدي} في الحالين يعقوب، وتابعه ورش في الوُصْل.
قوله تعالى: {واستفتحوا}
يعني: استنصروا.
وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وحميد، وابن مُحَيصن: {واستفتِحوا} بكسر التاء على الأمر.
وفي المشار إِليهم قولان:
أحدهما: أنهم الرسل، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أنهم الكفار، واستفتاحهم: سؤالهم العذاب، كقولهم: {ربَّنا عجِّل لنا قِطَّنا} [ص: 16] وقولهم: {إِن كان هذا هو الحقَّ من عندك...} الآية [الأنفال: 32]، هذا قول ابن زيد.
قوله تعالى: {وخاب كل جبَّار عنيد} قال ابن السائب: خسر عند الدعاء، وقال مقاتل: خسر عند نزول العذاب، وقال أبو سليمان الدمشقي: يئس من الإِجابة.
وقد شرحنا معنى الجبَّار والعنيد في [هود: 59].
قوله تعالى: {من ورائه جهنم} فيه قولان:
أحدهما: أنه بمعنى القُدَّام، قال ابن عباس، يريد: أمامه جهنم.
وقال أبو عبيدة: {من ورائه} أي: قُدّامه وأمامه، يقال: الموت من ورائك، وأنشد:
أَتَرْجُو بَنُو مَرْوَان سَمْعي وَطَاعَتِي ** وَقَوْمي تَمِيمٌ وَالْفَلاَةُ وَرَائِيَا

والثاني: أنها بمعنى: {بَعْد}، قال ابن الأنباري: {من ورائه} أي: من بعد يأسه، فدلَّ {خاب} على اليأس، فكنى عنه، وحملت {وراء} على معنى: {بَعْد} كما قال النابغة:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ** وَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ للمرءِ مَذْهَبُ

أراد: ليس بَعْد الله مَذهب.
قال الزجاج: والوراء يكون بمعنى الخَلْف والقُدَّام، لأن ما بين يديك وما قُدَّامك إِذا توارى عنك فقد صار وراءك، قال الشاعر:
أَلَيْسَ وَرَائَي إِن تَرَاخَتْ مَنِيتَّي ** لُزُومُ العَصَا تُحنَى عليها الأَصَابِع

قال: وليس الوراء من الأضداد كما يقول بعض أهل اللغة.
وسئل ثعلب: لم قيل: الوراء للأمام؟ فقال: الوراء: اسم لما توارى عن عينك، سواء أكان أمامك أو خلفك.
وقال الفراء: إِنما يجوز هذا في المواقيت من الأيام والليالي والدهر، تقول: وراءك برد شديد، وبين يديك برد شديد.
ولا يجوز أن تقول للرجل وهو بين يديك: هو وراءك، ولا للرجُل: وراءك: هو بين يديك.
قوله تعالى: {ويُسقى من ماءٍ صديد} قال عكرمة، ومجاهد، واللغويون: الصديد: القيح والدَّم، قاله قتادة، وهو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه.
وقال القرظي: هو غُسالة أهل النار، وذلك مايسيل من فروج الزناة.
وقال ابن قتيبة: المعنى: يُسقى الصديدَ مكانَ الماء، قال: ويجوز أن يكون على التشبيه، أي: ما يُسقَى ماءٌ كأنه صديد.
قوله تعالى: {يتجرَّعه} والتجرع: تناول المشروب جُرعة جُرعة، لا في مرة واحدة، وذلك لشدة كراهته له، وإنما يُكرهه على شربه.
قوله تعالى: {ولا يكاد يُسيغه} قال الزجاج: لا يقدر على ابتلاعه، تقول: ساغ لي الشيء، وأسغته.
وروى أبو أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يُقرَّب إِليه فيكرهه، فإذا أُدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطَّع أمعاءه حتى يخرج من دبره}.
قوله تعالى: {ويأتيه الموت} أي: همُّ الموت وكربه وألمه: {من كل مكان} وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: من كل شعرة في جسده، رواه عطاء عن ابن عباس.
وقال سفيان الثوري: من كل عِرْق.
وقال ابن جريج: تتعلق نفسه عند حنجرته، فلا تخرج من فيه فتموت، ولا ترجع إِلى مكانها فتجد راحة.
والثاني: من كل جهة، من فوقه وتحته، وعن يمينه وشماله، وخلفه وقُدَّامه، قاله ابن عباس أيضًا.
والثالث: أنها البلايا التي تصيب الكافر في النار، سماها موتًا، قاله الأخفش.
قوله تعالى: {وما هو بميِّت} أي: موتًا تنقطع معه الحياة.
{ومن ورائه} أي: من بعد هذا العذاب.
قال ابن السائب: من بعد الصديد: {عذاب غليظ}.
وقال إِبراهيم التيمي: بعد الخلود في النار.
والغليظ: الشديد.
قوله تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد}
قال الفراء: أضاف المَثَل إِليهم، وإِنما المثل للأعمال، فالمعنى: مَثَل أعمال الذين كفروا.
ومِثلُه: {ويوم القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله وجوهُهم مسودَّة} [الزمر 60]، أي: ترى وجوههم.
وجعل العُصُوف تابعًا لليوم في إِعرابه، وإِنما العُصُوف للريح، وذلك جائز على جهتين:
إِحداهما: أن العصوف، وإِن كان للريح، فإن اليوم يوصف به، لأن الريح فيه تكون، فجاز أن تقول: يوم عاصف كما تقول: يوم بارد، ويوم حار.
والوجه الآخر: أن تريد: في يومٍ عاصفِ الريح، فتحذف الريح، لأنها قد ذُكرت في أول الكلام، كما قال الشاعر:
ويُضْحِكُ عِرفانُ الدُّرُوْعِ جُلودَنا ** إِذا كانَ يَوْمٌ مُظْلِمُ الشَّمْسِ كَاسِفُ

يريد: كاسف الشمس.
وروي عن سيبويه أنه قال: في هذه الآية إِضمار، والمعنى: وممّا نقصُّ عليك مَثَل الذين كفروا، ثم ابتدأ فقال: {أعمالهم كرماد}.
وقرأ النخعي، وابن يعمر، والجُحدري: {في يومِ عاصفٍ} بغير تنوين اليوم.
قال المفسرون: ومعنى الآية: أن كل ما يتقرَّب به المشركون يَحْبَط ولا ينتفعون به، كالرماد الذي سَفَتْه الريح فلا يُقدَر على شيء منه، فهم لا يقدرون مما كسبوا في الدنيا على شيء في الآخرة، أي: لايجدون ثوابه،: {ذلك هو الضلال البعيد} من النجاة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَا}
اللام لام قسم؛ أي والله لنخرجنكم.
{أَوْ لَتَعُودُنَّ} أي حتى تعودوا أو إلا أن تعودوا؛ قاله الطبريّ وغيره.
قال ابن العربي: وهو غير مفتقر إلى هذا التقدير؛ فإنّ {أوْ} على بابها من التخيير؛ خيّر الكفار الرسل بين أن يعودوا في مِلتهم أو يخرجوهم من أرضهم؛ وهذه سِيرة الله تعالى في رسله وعباده؛ ألا ترى إلى قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلًاسُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} [الإسراء: 76] وقد تقدم هذا المعنى في الأعراف وغيرها.
{فِي مِلَّتِنَا} أي إلى ديننا،: {فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ}.
قوله تعالى: {ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} أي مقامه بين يديّ يوم القيامة؛ فأضيف المصدر إلى الفاعل.
والمقام مصدر كالقيام؛ يقال: قام قيامًا ومَقَامًا؛ وأضاف ذلك إليه لاختصاصه به.
والمقام بفتح الميم مكان الإقامة، وبالضم فعل الإقامة؛ و{ذَلِكَ لَمَنْ خَافَ مَقَامي} أي قيامي عليه، ومراقبتي له؛ قال الله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33].
وقال الأخفش: {ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} أي عذابي، {وَخَافَ وَعِيدِ} أي القرآن وزواجره.
وقيل: إنه العذاب.
والوعيد الاسم من الوعد.
قوله تعالى: {واستفتحوا}
أي واستنصروا؛ أي أذِن للرسل في الاستفتاح على قومهم، والدعاء بهلاكهم؛ قاله ابن عباس وغيره، وقد مضى في البقرة.
ومنه الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر.
وقال ابن زيد: استفتحت الأمم بالدعاء كما قالت قريش: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية.
وروي عن ابن عباس.
وقيل قال الرسول: «إنهم كذبوني فافتح بيني وبينهم فتحًا» وقالت الأمم: إن كان هؤلاء صادقين فعذّبنا، عن ابن عباس أيضًا؛ نظيره: {ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [العنكبوت: 29]: {ائتنا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المرسلين} [الأعراف: 77].