فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} الجبار المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقًا؛ هكذا هو عند أهل اللغة، ذكره النحاس.
والعنيد المعاند للحق والمجانب له، عن ابن عباس وغيره؛ يقال: عَنَد عن قومه أي تباعد عنهم.
وقيل: هو من العَنَد، وهو الناحية وعاند فلان أي أخذ في ناحية مُعْرِضًا؛ قال الشاعر:
إذا نزلتُ فاجعلوني وَسَطَا ** إنّي كبيرٌ لا أُطِيقُ الْعُنَّدَا

وقال الهَرَويّ قوله تعالى: {جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي جائر عن القصد؛ وهو العَنُود والعَنِيد والعانِد؛ وفي حديث ابن عباس وسئِل عن المستحاضة فقال: إنه عِرْقٌ عانِدٌ.
قال أبو عبيد: هو الذي عَنَد وبَغَى كالإنسان يعانِد؛ فهذا العِرق في كثرة ما يخرج منه بمنزلته.
وقال شَمِر: العاند الذي لا يرقأ.
وقال عمر يذكر سِيرته: أَضُمُّ العَنُود؛ قال الليث: العنود من الإبل الذي لا يخالطها إنما هو في ناحية أبدًا؛ أراد من هَمَّ بالخلاف أو بمفارقة الجماعة عطفتُ به إليها.
وقال مقاتل: العنِيد المتكبر.
وقال ابن كَيْسان: هو الشامخ بأنفه.
وقيل: العَنُود والعَنِيد الذي يتكبر على الرسل ويذهب عن طريق الحق فلا يسلكها؛ تقول العرب: شر الإبل العنود الذي يخرج عن الطريق.
وقيل: العنيد العاصي.
وقال قتادة: العنيد الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله.
قلت: والجبار والعنيد في الآية بمعنى واحد، وإن كان اللفظ مختلفًا، وكل متباعد عن الحق جبار وعنيد أي متكبر.
وقيل: إن المراد به في الآية أبو جهل؛ ذكره المهدويّ.
وحكى الماورديّ في كتاب أدب الدنيا والدين أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك تفاءل يومًا في المصحف فخرج له قوله عز وجل: {واستفتحوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} فمزق المصحف وأنشأ يقول:
أتُوعِدُ كلَّ جَبَّارٍ عَنِيدِ ** فها أنا ذاكَ جبَّارٌ عَنِيدُ

إذا ما جِئتَ ربَّكَ يوم حَشْرٍ ** فَقُلْ يا رَبِّ مَزَّقنيِ الوليِدُ

فلم يلبث إلا أيامًا حتى قُتل شرّ قِتلةٍ، وصُلِب رأسه على قصره، ثم على سُور بلده.
قوله تعالى: {مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} أي من وراء ذلك الكافر جهنم، أي من بعد هلاكه.
ووراء بمعنى بعدُ؛ قال النابغة:
حَلَفتُ فلم أتركْ لِنفسكَ رِيبةً ** وليس وراءَ اللَّهِ للمرء مذهبُ

أي بعد الله جلّ جلالُه، وكذلك قوله تعالى: {وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} أي من بعده، وقوله تعالى: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة: 91] أي بما سواه؛ قاله الفراء.
وقال أبو عبيد: بما بعده.
وقيل: {مِنْ وَرَائِهِ} أي من أمامه، ومنه قول الشاعر:
ومِنْ ورائِكَ يومٌ أنتَ بالِغُه ** لا حاضرٌ مُعِجزٌ عنه ولا بادِي

وقال آخر:
أَتَرْجُو بنو مروانَ سمعِي وطاعتِي ** وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائيا

وقال لبيد:
أليس ورائِي إنْ تَراختْ منِيَّتيِ ** لُزومُ العَصَا تُحنَى عليها الأصابعُ

يريد أمامي.
وفي التنزيل: {وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ} [الكهف: 79] أي أمامهم؛ وإلى هذا ذهب أبو عبيدة وأبو عليّ قُطُرب وغيرهما.
وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الأمر من ورائك، أي سوف يأتيك، وأنا من وراء فلان أي في طلبه وسأصل إليه.
وقال النحاس: في قوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} أي من أمامه، وليس من الأضداد ولكنه من توارى؛ أي استتر.
وقال الأزهري: إن وراء تكون بمعنى خلف وأمام فهو من الأضداد، وقاله أبو عبيدة أيضًا، واشتقاقهما مما توارى واستتر، فجهنم تَوَارَى ولا تظهر، فصارت من وراء لأنها لا ترى؛ حكاه ابن الأنباري وهو حسن.
قوله تعالى: {ويسقى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ} أي من ماء مثل الصديد، كما يقال للرجل الشجاع أسد، أي مثل الأسد، وهو تمثيل وتشبيه.
وقيل: هو ما يسيل من أجسام أهل النار من القيح والدم.
وقال محمد بن كعب القُرَظيّ والربيع بن أنَس: هو غسَالة أهل النار، وذلك ماء يسيل من فروج الزناة والزواني.
وقيل: هو من ماء كرهته تَصدّ عنه، فيكون الصديد مأخوذًا من الصدّ.
وذكر ابن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو عن عُبيد الله بن بُسْر عن أبي أُمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {ويسقى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قال: «يُقرَّب إلى فِيهِ فيكرهه فإذا أدني منه شَوَى وجهه ووقعت فَرْوة رأسه فإذا شربه قطّع أمعاءه حتى تخرج من دبره يقول الله: {وَسُقُواْ مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] ويقول الله: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب} [الكهف: 29]» خرجه الترمذي، وقال: حديث غريب، وعُبيد الله بن بُسْر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث أبي أمامة لعله أن يكون أخا عبد الله بن بُسْر.
{يَتَجَرَّعُهُ} أي يَتَحَسَّاه جُرَعًا لا مرة واحدة لمرارته وحرارته.
{وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي يبتلعه؛ يقال: جرع الماء واجترعه وتجرعه بمعنى.
وساغ الشَّرابُ في الحلق يسوغ سوغًا إذا كان سَلِسًا سهلًا، وأساغه اللَّهُ إساغةً.
و{يَكَادُ} صلة؛ أي يسيغه بعد إبطاء، قال الله تعالى: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] أي فعلوا بعد إبطاء؛ ولهذا قال: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود} [الحج: 20] فهذا يدلّ على الإساغة.
وقال ابن عباس: يجيزه ولا يمر به.
{وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ} قال ابن عباس: أي يأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته ومن قدّامه وخلفه، كقوله: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16].
وقال إبراهيم التيمي: يأتيه من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره؛ للآلام التي في كل مكان من جسده.
وقال الضحّاك: إنه ليأتيه الموت من كل ناحية ومكان حتى من إبهام رجليه.
وقال الأخفش: يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتًا، وهي من أعظم الموت.
وقيل: إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكِّل به نوع من العذاب؛ لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها في فرد لحظة؛ إما حية تَنهشه، أو عقرب تَلسبه، أو نار تَسفعه، أو قيد برجليه، أو غُلّ في عنقه، أو سلسلة يقرن بها، أو تابوت يكون فيه، أو زقّوم أو حميم، أو غير ذلك من العذاب.
وقال محمد بن كعب: إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآه مات موتاتٍ، فإذا دنا منه مات موتاتٍ، فإذا شرب منه مات موتاتٍ؛ فذلك قوله: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}.
قال الضحّاك: لا يموت فيستريح.
وقال ابن جريج: تعلق رُوحه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة؛ ونظيره قوله: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74].
وقيل: يخلق الله في جسده آلامًا كل واحد منها كألم الموت.
وقيل: {وَمَا هُوَ بِميِّتٍ} لتطاول شدائد الموت به، وامتداد سكراته عليه؛ ليكون ذلك زيادة في عذابه.
قلت: ويظهر من هذا أنه يموت، وليس كذلك؛ لقوله تعالى: {لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] وبذلك وردت السنة؛ فأحوال الكفار أحوال من استولى عليه سكرات الموت دائمًا، والله أعلم.
{وَمِن وَرَائِهِ} أي من أمامه.
{عَذَابٌ غَلِيظٌ} أي شديد متواصل الآلام من غير فتور؛ ومنه قوله: {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة} [التوبة: 123] أي شدة وقوة.
وقال فُضَيل بن عِياض في قول الله تعالى: {وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} قال: حبس الأنفاس.
قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ}
اختلف النحويون في رفع {مَثَلُ} فقال سيبويه: ارتفع بالابتداء والخبر مضمر؛ التقدير: وفيما يُتلى عليكم أو يُقَصّ {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} ثم ابتدأ فقال: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} أي كمثل رماد: {اشتدت بِهِ الريح}.
وقال الزجاج: أي مَثَل الذين كفروا فيما يتلى عليكم أعمالُهم كرماد، وهو عند الفرّاء على إلغاء المَثَل، التقدير: والذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد.
وعنه أيضًا أنه على حذف مضاف؛ التقدير: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد؛ وذكر الأول عنه المهدويّ، والثاني القُشَيريّ والثّعلبيّ ويجوز أن يكون مبتدأ كما يقال: صفة فلان أسمر؛ ف {مَثَلُ} بمعنى صفة.
ويجوز في الكلام جر {أعمالهم} على بدل الاشتمال من {الَّذِينَ} واتصل هذا بقوله: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} والمعنى: أعمالهم مُحْبَطة غير مقبولة.
والرماد ما بقي بعد احتراق الشيء؛ فضرب الله هذه الآية مثلًا لأعمال الكفّار في أنه يمحقها كما تمحق الرّيحُ الشديدة الرّمادَ في يوم عاصف.
والعَصْفُ شدة الريح؛ وإنما كان ذلك لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى.
وفي وصف اليوم بالعُصُوف ثلاثة أقاويل: أحدها أن العُصُوف وإن كان للريح فإن اليوم قد يوصف به؛ لأن الرّيح تكون فيه، فجاز أن يقال: يوم عاصف، كما يقال: يوم حارّ ويوم بارد، والبرد والحرّ فيهما.
والثاني أن يريد: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} الرّيح؛ لأنها ذكرت في أول الكلمة، كما قال الشاعر:
إذا جاء يومٌ مُظْلِمُ الشَّمسِ كاسِفُ

يريد كاسف الشمس فحذف؛ لأنه قد مرّ ذكره؛ ذكرهما الهَرَويّ.
والثالث أنه من نعت الريح؛ غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل: جُحْرُ ضَبٍّ خرِبٍ؛ ذكره الثعلبيّ والماورديّ.
وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر {في يومِ عاصفٍ}.
{لاَّ يَقْدِرُونَ} يعني الكفار.
{مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ} يريد في الآخرة؛ أي من ثواب ما عمِلوا من البِرّ في الدنيا، لإحباطه بالكفر.
{ذلك هُوَ الضلال البعيد} أي الخسران الكبير؛ وإنما جعله كبيرًا بعيدًا لفوات استدراكه بالموت. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا}
يعني ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم أيها الرسل من بلادنا وأرضنا وإما عودكم في ملتنا.
فإن قلت: هذا يوهم بظاهره أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعود فيها قلت: معاذ الله ولكن العود هنا بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب، وفيه وجه آخر، وهو أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل الرسالة لم يظهروا خلاف أممهم، فلما أرسلوا إليهم أظهروا مخالفتهم ودعوا إلى الله فقالوا لهم: لتعودن في ملتنا ظنًا منهم أنهم كانوا على ملتهم ثم خالفوهم وإجماع الأمة على أن الرسل من أول الأمر إنما نشؤوا على التوحيد لا يعرفون غيره: {فأوحى إليهم ربهم} يعني أن الله تعالى أوحى إلى رسله وأنبيائه بعد هذه المخاطبات والمحاورات: {لنهلكن الظالمين} يعني أن عاقبة أمرهم إلى الهلاك فلا تخافوهم: {ولنسكننكم الأرض من بعدهم} يعني من بعد هلاكهم: {ذلك} يعني ذلك الإسكان: {لمن خاف مقامي} يعني خاف مقامه بين يدي يوم القيامة فأضاف قيام العبد إلى نفسه، لأن العرب قد تضيف أفعالها إلى أنفسها كقولهم: ندمت على ضربي إياك وندمت على ضربك مثله: {وخاف وعيد} أي وخاف عذابي.
قوله: {واستفتحوا} يعني واستنصروا.
قال ابن عباس: يعني الأمم وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا وقال مجاهد وقتادة: واستفتح الرسل على أممهم وذلك أنهم لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب: {وخاب} يعني وخسر وقيل: هلك: {كل جبار عنيد} والجبار في صفة الإنسان يقال لمن تجبر بنفسه بادعاء منزلة عالية لا يستحقها وهو صفة ذم في حق الإنسان، وقيل: الجبار الذي لايرى فوقه أحدًا وقيل: الجبار المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه والعنيد المعاند للحق ومجانبه قال مجاهد.