فصل: من فوائد القرطبي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء} {أنتم} في موضع رفع بالابتداء، ولا يعرب؛ لأنه مضمَر.
وضُمت التاء من {أنتم} لأنها كانت مفتوحة إذا خاطبت واحدًا مذكّرًا، ومكسورة إذا خاطبت واحدة مؤنثة؛ فلما ثنّيت أو جمعت لم يبق إلا الضمة.
{هؤلاء} قال القُتَبِيّ: التقدير يا هؤلاء.
قال النحاس: هذا خطأ على قول سيبويه، ولا يجوز هذا أقبل.
وقال الزجاج: هؤلاء بمعنى الذين.
و{تَقْتُلُونَ} داخل في الصلة؛ أي ثم أنتم الذين تقتلون.
وقيل: {هؤلاء} رفع بالابتداء، و{أنتم} خبر مقدم، و{تقتلون} حال من أولاء.
وقيل: {هؤلاء} نصب بإضمار أعني.
وقرأ الزُّهْرِيّ {تُقَتِّلون} بضم التاء مشدّدًا، وكذلك {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ الله} [البقرة: 91].
وهذه الآية خطاب للمواجهين لا يحتمل ردّه إلى الأسلاف.
نزلت في بني قَيْنُقاع وقُرَيظة والنَّضِير من اليهود؛ وكانت بنو قَيْنُقاع أعداء قُريظة، وكانت الأَوْس حلفاء بني قَيْنُقاع، والخَزْرج حلفاء بني قُريظة.
والنَّضير والأوس والخزرج إخوان، وقريظة والنضير أيضًا إخوان، ثم افترقوا فكانوا يقتتلون، ثم يرتفع الحرب فيفدون أساراهم؛ فعيّرهم الله بذلك فقال: {وَإنْ يأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ}.
قوله تعالى: {تَظَاهَرُونَ} معنى {تظاهرون} تتعاونون، مشتقّ من الظَّهر؛ لأن بعضهم يقوّي بعضًا فيكون له كالظهر؛ ومنه قول الشاعر:
تظاهرتُم أسْتاه بيتٍ تجّمعت ** على واحد لا زِلْتُمُ قِرْنَ واحدِ

والإثم: الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم.
والعدوان: الإفراط في الظلم والتجاوز فيه.
وقرأ أهل المدينة وأهل مكة {تَظّاهرون} بالتشديد، يُدغمون التاء في الظاء لقربها منها؛ والأصل تتظاهرون.
وقرأ الكوفيون {تَظَاهرون} مخفّفًا، حذفوا التاء الثانية لدلالة الأولى عليها؛ وكذا {وَإنْ تَظَاهَرا عَلَيْهِ} [التحريم: 4].
وقرأ قتادة {تَظْهرون عليهم} وكله راجع إلى معنى التعاون؛ ومنه: {وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان: 55] وقوله: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] فاعلمه.
قوله تعالى: {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى} شَرْط، وجوابه {تفادوهم} و{أُسارَى} نصب على الحال.
قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول: ما صار في أيديهم فهم الأسارى، وما جاء مستأسِرًا فهم الأَسْرَى.
ولاَ يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو، إنما هو كما تقول: سَكارى وسَكْرى.
وقراءة الجماعة {أُسارى} ما عدا حمزة فإنه قرأ {أَسْرَى} على فَعْلَى، جمع أسير بمعنى مأسور؛ والباب في تكسيره إذا كان كذلك فَعْلَى، كما تقول: قتيل وقتلى، وجريح وجرحى.
قال أبو حاتم: ولا يجوز أَسَارى.
وقال الزجاج: يقال أسارى كما يقال سَكارى، وفَعالى هو الأصل، وفُعَالَى داخلة عليها.
وحُكي عن محمد بن يزيد قال: يقال أسير وأُسراء؛ كظريف وظُرفاء.
قال ابن فارس: يقال في جمع أسير أسرى وأسارى؛ وقرئ بهما.
وقيل: أَسارى بفتح الهمزة وليست بالعالية.
الثانية: الأسير مشتق من الإسار، وهو القِدّ الذي يُشدّ به المحمل فسمِّيَ أسيرًا؛ لأنه يشدّ وثاقه؛ والعرب تقول: قد أَسَرَ قَتَبه، أي شدّه؛ ثم سُمّيَ كل أَخِيذ أسيرًا وإن لم يؤسر؛ وقال الأعشى:
وَقَيّدني الشِّعرُ في بَيْتِهِ ** كما قَيّد الآسِراتُ الحِمارا

أي أنا في بيته؛ يريد بذلك بلوغه النهاية فيه.
فأمّا الأَسْر في قوله عز وجل: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28] فهو الخَلْق.
وأُسرة الرجل رهطه؛ لأنه يتقوّى بهم.
الثالثة: قوله تعالى: {تُفَادُوهُمْ} كذا قرأ نافع وحمزة والكسائي.
والباقون {تَفْدُوهم} من الفداء.
والفداء: طلب الفِدية في الأسير الذي في أيديهم.
قال الجوهري: الفداء إذا كُسِر أوله يُمدّ ويقصر، وإذا فُتح فهو مقصور؛ يقال: قُمْ فدًى لك أبي.
ومن العرب من يكسر فِداءً بالتنوين إذا جاور لام الجر خاصة؛ فيقول: فِداءٍ لك، لأنه نكرة يريدون به معنى الدعاء.
وأنشد الأصمعي للنابغة:
مَهْلًا فِداءٍ لك الأقوامُ كلُّهمُ ** وما أُثمِّرُ من مالٍ ومن وَلَدِ

ويقال: فَداه وفاداه إذا أعطى فِداءه فأنقذه.
وفَداه بنفسه، وفدّاه يُفَدّيه إذا قال جعلت فَداك.
وتَفَادَوْا؛ أي فَدَى بعضهم بعضًا.
والفِدية والفَدَى والفِداء كله بمعنًى واحد.
وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئًا، بمعنى فديت؛ ومنه قول العباس للنبيّ صلى الله عليه وسلم: فاديتُ نفسي وفاديتُ عَقِيلًا.
وهما فعلان يتعدّيان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف الجر؛ تقول: فديت نفسي بمالي وفاديته بمالي؛ قال الشاعر:
قِفِي فادِي أسيرَكَ إن قومي ** وقومَك ما أرى لهمُ اجتماعا

الرابعة: قوله تعالى: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} {هو} مبتدأ وهو كناية عن الإخراج، و{مُحَرّمٌ} خبره؛ و{إخراجُهم} بدل من {هو} وإن شئت كان كناية عن الحديث والقصة، الجملة التي بعده خبره؛ أي والأمر محرّم عليكم إخراجهم ف {إخراجهم} مبتدأ ثان.
و{محرم} خبره، والجملة خبر عن {هو}؛ وفي {محرّم} ضمير ما لم يسم فاعله يعود على الإخراج.
ويجوز أن يكون {محرمٌ} مبتدأ، و{إخراجهم} مفعول ما لم يُسَمّ فاعله يسدّ مسدّ خبر {محرم}، والجملة خبر عن {هو}.
وزعم الفراء أن {هو} عماد؛ وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له؛ لأن العماد لا يكون في أول الكلام.
ويُقرأ {وهْو} بسكون الهاء لثقل الضمة؛ كما قال الشاعر:
فَهْو لا تَنْمِي رَمِّيتُه ** مالَه لا عُدّ مِن نَفَرِهْ

وكذلك إن جئت باللام وثم؛ وقد تقدم.
قال علماؤنا: كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أساراهم؛ فأعرضوا عن كل ما أمِروا به إلا الفداء؛ فوبّخهم الله على ذلك توبيخًا يُتْلَى فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب} وهو التوراة {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}!!
قلت: ولَعَمْرُ الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن فتظاهر بعضنا على بعض! ليت بالمسلمين، بل بالكافرين! حتى تركنا إخواننا أذِّلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين؛ فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم!.
قال علماؤنا: فداء الأسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد.
قال ابن خُوَيزِ مَنْداد: تضمّنت الآية وجوب فَكّ الأسرى، وبذلك وردت الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فكّ الأسارى وأمر بفكّهم، وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع.
ويجب فك الأسارى من بيت المال، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين؛ ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين.
وسيأتي.
الخامسة: قوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا} ابتداء وخبر.
والخِزْيُ الهوان.
قال الجوهري: وخَزِيَ بالكسر يَخْزَى خِزْيًا إذا ذَلّ وهان.
قال ابن السكّيت: وقع في بلية.
وأخزاه الله، وخَزِي أيضًا يَخْزَى خِزاية إذا استحيا، فهو خَزْيان.
وقوم خَزَايا وامرأة خَزْيا.
السادسة: قوله تعالى: {وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ} {يردون} بالياء قراءة العامة، وقرأ الحسن {تردون} بالتاء على الخطاب.
{إلى أَشَدِّ العذاب وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تقدّم القول فيه، وكذلك: {أولئك الذين اشتروا} الآية؛ فلا معنى للإعادة.
{يومَ} منصوب ب {يُرَدُّون}. اهـ.

.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال عليه الرحمة:
{ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء} خطابٌ خاصٌّ بالحاضرين فيه توبيخ شديدٌ واستبعادٌ قويٌّ لما ارتكبوه بعد ما كان من الميثاق والإقرارِ به والشهادةِ عليه، وأنتم مبتدأ هؤلاءِ خبرُه، ومَناطُ الإفادةِ اختلافُ الصفاتِ المنزَّلةِ منزلةَ اختلافِ الذات، والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاءِ المشاهِدون الناقضون المتناقضون حسبما تُعربُ عنه الجملُ الآتية، فإن قوله عز وجل: {تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} الخ بيانٌ له وتفصيلٌ لأحوالهم المُنْكَرة المندرجةِ تحت الإشارةِ ضمنًا كأنهم قالوا: كيف نحن؟ فقيل: تقتُلون أنفسَكم أي الجارين مَجرى أنفسِكم كما أشير إليه، وقرئ: {تُقتّلون} بالتشديد للتكثير {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم} الضمير إما للمخاطبين والمضافُ محذوفٌ أي من أنفسكم، وإما للمقتولين والخطابُ باعتبار أنهم جُعلوا أنفُسَ المخاطَبين، وإلا فلا يتحقق التكافُؤُ بين المقتولين والمخرجين في ذلك العنوان الذي عليه يدور فلَكُ المبالغة في تأكيد الميثاقِ حسبما نُصَّ عليه، ولا يظهر كمالُ قباحةِ جناياتِهم في نقضه {مِن ديارهم} الضمير للفريق، وإيثارُ الغَيْبة مع جواز الخِطاب أيضًا بناءً على اعتبار العنوان المذكورِ كما مر في الميثاق للاحتراز عن توهّم كونِ المرادِ إخراجَهم من ديار المخاطَبين من حيث هي ديارُهم لا من حيث هي ديارُ المخرِجين، وقيل: هؤلاءِ موصولٌ والجملتان في حيّز الصلةِ، والمجموعُ هو الخبرُ لأنتم {تظاهرون علَيْهِم} بحذف إحدى التاءين، وقرئ بإثباتهما وبالإدغام وتظّهرون بطرح إحدى التاءين من تتظهرون ومعنى الكل تتعاونون وهي حالٌ من فاعل تَخرجون أو من مفعوله أو منهما جميعًا، مبينةٌ لكيفية الإخراج دافعةٌ لتوهم اختصاصِ الحُرمة بالإخراج بطريق الأصالةِ والاستقلالِ، دون المظاهرةِ والمعاونة {بالإثم} متعلقٌ بتظاهرون حال من فاعله أي متلبسين بالإثم وهو الفعلُ الذي يستحق فاعلُه الذمَّ واللومَ، وقيل: وهو ما ينفِرُ عنه النفسُ ولا يطمئن إليه القلب {والعدوان} وهو التجاوزُ في الظلم {وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى} جمعُ أسير وهو من يؤخذ قهرًا، فعيل بمعنى مفعول من الأسر أي الشدّ أو جمعُ أسرى وهو جمع أسير كجرحى وجريح، وقد قرئ أسْرى، ومحله النصبُ على الحالية {تفادوهم} أي تخرجوهم من الأسر، بإعطاء الفداء وقرئ: {تَفْدوهم}.
قال السدي إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيلَ في التوراة الميثاقَ أن لا يقتُلَ بعضُهم بعضًا ولا يُخرجَ بعضُهم بعضًا من ديارهم وأيُّما عبدٍ أو أمةٍ وجدتموه من بني إسرائيلَ فاشترُوه وأعتِقوه، وكانت قريظةُ حلفاءَ الأوسِ والنضيرُ حلفاءَ الخزرج حتى كان بينهما ما كان من العداوة والشَنَآن، فكان كلُّ فريقٍ يقاتل مع حُلفائه فإذا غَلَبوا خرَّبوا ديارَهم وأخرجوهم منها، ثم إذا أُسر رجل من الفريقين جمعوا له مالًا فيَفُدونه، فعيَّرتهم العربُ وقالت: كيف تقاتلونهم ثم تَفْدونهم؟ فيقولون: أُمرنا أن نفديَهم وحُرِّم علينا قتالُهم، ولكن نستحْيي أن نُذِلَّ حلفاءَنا، فذمهم الله تعالى على المناقضة {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} ضميرُ الشأن وقع مبتدأ ومحرمٌ فيه ضمير قائم مقامَ الفاعلِ وقع خبرًا عن إخراجهم والجملة خبرٌ لضمير الشأن، وقيل: محرَّمٌ خبرٌ لضمير الشأن وإخراجُهم مرفوع على أنه مفعولُ ما لم يُسمَّ فاعلُه، وقيل: الضميرُ مُبهم يفسّره إخراجهم، أو راجعٌ إلى ما يدل عليه تُخرجون من المصدر، وإخراجُهم تأكيدٌ أو بيانٌ، والجملةُ حالٌ من الضمير في تخرجون أو من فريقًا أو منهما كما مر بعد اعتبار القيد بالحال السابقة، وتخصيصُ بيان الحرمةِ هاهنا بالإخراج مع كونه قرينًا للقتل عند أخذ الميثاقِ لكونه مِظنّةً للمساهلة في أمره بسبب قِلة خَطَره بالنسبة إلى القتل، ولأن مساقَ الكلام لذمّهم وتوبيخِهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم معًا، وذلك مختصٌّ بصورة الإخراجِ حيث لم يُنقلْ عنهم تدارُك القتلى بشيءٍ من دِيَةِ أو قِصاصٍ هو السر في تخصيص التظاهرِ به فيما سبق، وأما تأخيرُه من الشرطية المعترضةِ مع أن حقه التقديمُ كما ذكره الواحدي فلأن نظْمَ أفاعيلِهم المتناقضةِ في سَمْطٍ واحدٍ من الذكر أدخَلُ في إظهار بطلانها {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب} أي التوراة التي أُخذ فيها الميثاقُ المذكور، والهمزةُ للإنكار التوبيخيّ والفاءُ للعطف على مقدّر يستدعيه المقامُ أي أتفعلون ذلك فتؤمنون ببعض الكتاب وهو المفاداة، {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} وهو حرمةُ القتالِ والإخراج مع أن مِن قضية الإيمان ببعضه الإيمانُ بالباقي لكون الكلِّ من عند الله تعالى داخلًا في الميثاق، فمناطُ التوبيخ كفرُهم بالبعض مع إيمانهم بالبعض حسبما يفيده ترتيبُ النظمِ الكريم، فإن التقديمَ يستدعي في المقام الخطابي أصالةَ المقدَّم وتقدُّمَه بوجهٍ من الوجوه حتمًا، وإذ ليس ذلك هاهنا باعتبار الإنكارِ والتوبيخ عليه وهو باعتبار الوقوعِ قطعًا لا إيمانُهم بالبعض مع كفرهم بالبعض كما هو المفهومُ لو قيل: أفتكفرون ببعض الكتاب وتؤمنون ببعض؟ ولا مجردُ كفرِهم بالبعض، وإيمانِهم بالبعض كما يفيده أن يقال: أفتَجْمعون بين الإيمان ببعض الكتابِ والكفرِ ببعضٍ أو بالعكس.
{فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلك} ما نافية ومَنْ إن جُعلت موصولةً فلا محلَّ ليفعلُ من الإعراب وإن جعلت موصوفةً فمحله الجر على أنه صفتُها، وذلك إشارةٌ إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعضٍ أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مُفاداةِ الأسارى {مّنكُمْ} حالٌ من فاعل يفعل {إِلاَّ خِزْيٌ} استثناءٌ مُفرَّغٌ وقع خبرًا للمبتدأ، والخزيُ الذلُّ والهوانُ مع الفضيحة، والتنكيرُ للتفخيم، وهو قتلُ بني قُرَيظةَ وإجلاءُ بني النَّضير إلى أذْرِعاتَ وأريحاءَ من الشام وقيل: الجزية {فِي الحياة الدنيا} في حيز الرفع على أنه صفةُ خزيٌ أي خزيٌ كائن في الحياة الدنيا أو في حيز النصب على أنه ظرفُ الخزي، ولعل بيانَ جزائِهم بطريق القصر على ما ذكر لقطع أطماعِهم الفارغةِ من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب وإظهارِ أنه لا أثرَ له أصلًا مع الكفر ببعض {وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ} وقرئ بالتاء، أوثرَ صيغةُ الجمع نظرًا إلى المعنى مَنْ بعد ما أوثِرَ الإفرادُ نظرًا إلى لفظها لما أن الردَّ إنما يكون بالاجتماع {إلى أَشَدّ العذاب} لما أن معصيتَهم أشدُّ المعاصي وقيل: أشدُّ العذاب بالنسبة إلى ما لهم في الدنيا من الخزي والصَّغار، وإنما غُيّر سبكُ النظمِ الكريم حيث لم يقُلْ مثلًا وأشدُّ العذاب يوم القيامة للإيذان بكمال التنافي بين جزاءَي النشأتين وتقديم يوم القيامة على ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطبِ وتفظيعِ الحال من أول الأمر، {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} من القبائح التي من جملتها هذا المنكَرُ.
وقرئ بالياء على نهج {يُردّون} وهو تأكيد للوعيد. اهـ.