فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحين تَعِد أنت- الإنسان- إنسانًا آخر بخير قادم؛ فهل تضمن أنْ تُواتيك ظَروفك على أن تُحقِّق له هذا الأمر؟
ولذلك يوصينا الحق سبحانه أن نقول إن شاء الله وبذلك نردّ الوَعْد لله؛ فهو وحده الذي يمكنه أنْ يَعِدَ ويُنفِّذ ما يعِد به.
وعلى الواحد منا أنْ يحميَ نفسه من الكذب، وأن يقول إن شاء الله فإنْ لم تستطع أنْ تحققَ ما وعدت به تكون قد حميتَ نفسك من أنْ تُلِقي اتهامًا بالكذب.
ونجد الشيطان وهو يقول في الآخرة: {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ...} [إبراهيم: 22].
ذلك أن وَعْده باطل؛ والباطل لَجلْج، وحين تحكم به الآن تُثبت لك الوقائع عكسه، وتجعلك لا تصدق ما حكمتَ به.
ولذلك نجد الحق سبحانه يوضح لنا المسافة بين الحق والباطل فيقول: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17].
وهكذا يحاول الشيطان أن يُبرِّيء نفسه رغم عِلْمه أنه قد وعد، وهو لا يملك إنفاذ ما وعد به؛ ولذلك يحاول أن يلصق التهمة بِمَنْ اتبعوه مثله مثل أولئك الذين قالوا: {لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ...} [إبراهيم: 21].
فيقول الشيطان من بعد ذلك:
{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22].
والسلطان- كما نعلم- إما سلطانَ قَهْر أو سلطانَ إقناع. وسلطان القَهْر يعني أن يملك أحدٌ من القوة ما يقهر به غيره على أنْ يفعلَ ما يكره، بينما يكون كارهًا للفعل.
أما سلطان الحجة فهو أن يملك منطقًا يجعلك تعمل وفق ما يطلبه منك وتحب ما تفعل، وهكذا يعترف الشيطان للبشر يوم الحشر الأعظم؛ ويقول: أريد أنْ أناقشكم؛ هل كان لي سلطان قَهْريّ أقهركم به؟ هل كان لي سلطان إقناع أقعنكم به على اتباع طريقي؟
لم يكن لي في دنياكم هذه ولا تلك، فلا تتهموني ولا تجعلوني شماعة تُعلِّقون عليّ أخطاءكم؛ فقد غويتُ من قبلكم وخالفتُ أمر ربي؛ ولم يكن لي عليكم سلطان سوى أن دعوتُكم فاستجبتم لي.
وكل ما كان لي عندكم أنِّي حرَّكْتُ فيكم نوازع أنفسكم، وتحرَّكت نوازع أنفسكم من بعد ذلك لِتُقبِلوا على المعصية.
إذن: فالشيطان إما أنْ يُحرِّك نوازع النفس؛ أو يترك النفس تتحرك بنوازعها إلى المعصية؛ وهي كافية لذلك.
وسبق أنْ أوضحتُ كيف تُعْرف المعصية، إن كانت من الشيطان تسويلًا استقلاليًا أو تسويلًا تبعيًا؛ فإنْ وقفتْ النفس عند معصية بعينها؛ وكلما أبعدها الإنسان تُلِح عليه؛ فهذا هو ما تريده النفس من الإنسان حيث تطلب معصية بعَينها.
أما نَزْغ الشيطان فهو أن ينتقل الشيطان من معصية إلى أخرى محاولًا غواية الإنسان؛ إنْ وجده رافضًا لمعصية ما؛ انتقل بالغواية إلى غيرها؛ لأن الشيطان يريد الإنسان عاصيًا على أيِّ لَوْن؛ فالمهم أنْ يعصي فقط؛ لذلك يحاول أن يدخل الإنسان من نقطة ضعفه؛ فإنْ وحده قويًا في ناحية اتجه إلى أخرى.
ويعلن الشيطان أنه ليس المَلُوم على ذلك:
{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ...} [إبراهيم: 22].
فالملُوم هنا هو مَنْ أقبل على المعصية؛ لا مَنْ أغوى بها.
ويستمرالحق سبحانه في فَضْح ما يقوله الشيطان لمَنْ أغواهم في اليوم الآخر:
{مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ....} [إبراهيم: 22].
هذا هو قَوْل الشيطان الذي سبق وأنْ تعالى على آدم لحظة أنْ طلب منه الحق سبحانه أن يسجدَ له مع الملائكة؛ ولكن الموقف هنا هو التساوي بين الذين أغواهم وبينه؛ فهو يعلن أنه لن ينفعهم وهم لن ينفعونه.
والمُصْرِخ من مادة الصِّراخ من صرخ، وهو رَفْع الصوت بغرض أن يسمعه غيره؛ ولا يطلب مَنْ يصرخ شيئًا آخر غير المعونة فلو أن أحدًا عثر على كنز تحت قدميه فلن يصرخ؛ بل يلتفَّت حوله ليرى: هل هناك مَنْ رآه أم لا؟
أما إنْ هاجمه أسد فلابد أن يصرخ طالبًا النجاة، وهكذا يكون الصراخ له مَأْرب طَلبِ المعونة؛ وهذا لا يتأتَّى إلا ممَّنْ يخاف من مِفُزِع.
ومُصرِخ يدل على الفعل أصرخ، وهو فعل دخلت عليه ما يُسمّى في اللغة همزة الإزالة. والمثل هو كلمة معجم أي: الذي يدلُّك على معنى للفظ لُيُزيلَ إبهامه؛ فيقال أعجم الكتاب أي: أزال إبهامه، وهذه الهمزة التي دخلتْ تُوضِّح إزالة العُجْمة عن الكلمة.
والمثل أيضًا على هذه الهمزة؛ هو كلمة عتب أي: لامه، وحين تدخل عليها الهمزة تصبح أعتب أي: أزال ما به عَتَب.
ونجد في دعائه صلى الله عليه وسلم قوله الشريف: «لك العُتْبى حتى ترضى».
أي: إذا كُنتَ يا ربّ تعتب عليَّ في أيِّ شيء؛ فأنا أدعوك أن تُزيل هذا العتب.
وهكذا نجد أن الإزالة تأتي مرة بإضافة الهمزة؛ ومرة تأتي بالتضعيف؛ مثل قولنا مرَّض الطبيب مريضه أي: أزال عنه- بإذن من الله- مرضه.
إذن: مُصْرخ هو مَنْ يُزيل صراخ آخر؛ فكأن هناك مَن استغاث؛ فجاءه مَنْ يُغيثه. وهكذا يلعن الشيطان في اليوم الآخر أنه ومَنْ أغواهم في مأزق؛ وأنه غَيْر قادر على إزالة سبب هذا المأزق؛ ولا هُمْ بقادرين على إزالة سبب مأزقه؛ ولن يُغيث أحدهما الآخر.
ويضيف:
{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ...} [إبراهيم: 22].
فأنتم أشركتموني مع الله في الطاعة؛ حين استسلمتُم لغوايتي؛ ولم تكونوا من عباد الله المخُلْصين الذين أقسمتُ أنا بعزة الله ألاَّ أُغويهم؛ وكل منكم نفذ ما أغويته به؛ فناديتكم واستجببتُم؛ وناداكم الله فعصيتُم أو كفرتم. وصِرْتم مِثْلي، فقد سبق لي أن أمرني الله وعصيتُ.
ويقول الحق سبحانه ما يجيء على لسان الشيطان لمَنْ كفر وعصى:
{إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].
وهذه قضية عامة، قضية الكفر في القمة، فكمَا أطعتُم الشيطان وجعلتموه شريكًا لله؛ فها هو الشيطان يُخبركم بتقدير هذا الموقف؛ بأنه شِرْك بالله؛ وهو يعلن الكفر بهذا؛ لأن يوم الحشر قد جاء؛ وتحقق فيه قول الله له: {فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 37-38].
وكان الشيطان من قبل اليوم المعلوم- وهو اليوم الآخر- يندسُّ ويُوسِوس وينزغ؛ أما في ذلك اليوم فقد برز كل شيء من إنس وجن وكل الكائنات أمام الواحد القهار، ولم يَعُدْ هناك ما يَخْفى عن العين.
وهذا ما خدعوا به أنفسهم، وظنُّوا أنهم قادرون على أن يُخفوا ما فعلوه عن أعْيُن الله؛ ولذلك نجد الحديث القدسي يقول: «يا بني آدم، إنْ كنتم تعتقدون أَنِّي لا أراكم، فالخَلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أَنِّي أراكم فَلِم جَعَلْتموني أهونَ الناظرين إليكم».
وأنت في حياتك اليومية لا تجد مَنْ يسرق من آخر وجهًا لوجه: ولا أحد يحرق بيت أحدٍ أمام عينيه؛ فإنْ كنتم يا معشر البشر لا تفعلون ذلك مع بعضكم البعض؛ فكيف تفعلون ذلك مع خالقكم؛ فتعصونه.
وإنْ شككتُم أنه لا يراكم فالخلل في إيمانكم؛ وإنْ كنتم تعتقدون أنه يراكم فلا تجعلوه أهونَ الناظرين إليكم، لأنه لو نظر إليك إنسان فأنت لا تجرؤ على أن تصنع له ما يكرهه.
ولذلك يقول الشيطان معترفًا ومُقِرًا بأن الظالمين لهم عذاب أليم، والظلم في القمة هو الشرك بالله: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وحين نقرأ ذلك إما أنْ نأخذه على أنه إقرار من الشيطان؛ أو نفهمه على أن الشيطان قد قال: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ...} [إبراهيم: 22].
ويقول الحق سبحانه بعدها تلك القضية العامة: {إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].
فبعد أن تكلم سبحانه عن بروز الخَلْق والكائنات؛ ثم الحوار بين الضعفاء والسادة؛ ثم الحوار بين الشيطان وبين أهل الكفر والمعصية؛ يأتي بالقضية النهائية في الحكم: {إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].
والمناسبات توحي بمقابلاتها؛ لتكون النفس مُتشوِّقة ومُتقبِّلة لهذا المقابل؛ مثل قول الحق سبحانه: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13].
ويأتي بعدها بالمقابل لها: {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14].
فكما جاء بمقابل الأشقياء؛ لابد أن يفتح القلوب لتنعم بسعادة مصير وجزاء الذين سُعِدوا بالإيمان.
لذلك يقول الحق سبحانه: {وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ...}.
وهنا جاء الفعل، ويمكن نسبته إلى ثلاث وجهاتٍ. ولكل جهة مَلْحظ؛ فمرّة يُسنَد الفعل لله سبحانه، ومرّة يُنسب الفعل للملائكة الذين يتلقوْن الأمر من الله بإدخال المؤمنين الجنة؛ ومرّة للمؤمنين الذين يدخلون الجنة بإذن الله.
فالله أدخلهم إذْنًا؛ والملائكة المُوكَّلون فتحوا أبواب الجنة لهم؛ والمؤمنون دخلوا بالفعل.
وهكذا يكون لكُلَّ مَلْحظ.
وهناك قراءة أخرى للآية توضح ذلك: {وأُدْخِلُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة} والمتكلم هنا هو الله. ونلحظ أن الله قال هنا: {وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ...} [إبراهيم: 23].
لكي تضم كلمة {أدخل} أنه سبحانه أذن بدخولهم؛ لأنه قال في نفس الآية: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 23].
وأن الملائكة المُكلّفين بذلك فتحوا لهم أبوابها. والمؤمنون دخلوها كل ذلك بإذن الله.
ونلحظ أن كُلَّ الكلام هنا عن الجنات؛ فما هي الجنات؟
ونقول: إن الجنة في أصل اللغة هي السّتْر، ومنها الجنون أي: سَتْر العقل، والمادة هي: الجيم والنون، والجنة تستر مَنْ فيها بما فيها من أشجار كثيرة بحيث مَنْ يمشي فيها لا يظهر؛ لأن أشجارها تستره.
أو: أن مَنْ يدخلها يجلس فيها ولا يراه أحد؛ لأن كل خير فيها لا يُلجئه أن يخرج منها.
وتُطلق الجنات على ما في الدنيا أيضًا؛ والحق سبحانه هو القائل: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ...} [البقرة: 266].
ولنا أن نعرف أن الجنةَ غَيْر المساكن التي في الجنة؛ لأن الحق سبحانه يقول: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ...} [التوبة: 72].
والجنة- ولله المثَل الأعلى- هي الحديقة الواسعة؛ وهذا الاتساع مُوزّع على كل مَرْأى عَيْن. والإنسان- بعجائب تكوينه- يُحِب أن يتخصص في مكان مرة؛ ويحب أن ينتشر في مكان مرة أخرى؛ فيستأجر شقة أو يبني لنفسه بيتًا مستقلًا فيللا وفي البيت أو الفيللا يحب الإنسان أن تكون له حجرة خاصة لا يدخلها غيره.
والإنسان يُقيّم الأشياء على هذا الأساس؛ فينظر مَنْ يرغب في شراء قطعة أرض ليبني عليها بيتًا؛ أهي تُطلّ على حارة أم على شارع؟ وهل سيستطيع أنْ يعلوَ بالبناء إلى عدة أدوار أم لا؟ وهل سيخصص قطعة من الأرض كحديقة أم لا؟
فإنْ كانت الأرض تُطِل على الفضاء، فحساب المتر ليس بالثمن المدفوع فيه؛ ولكن بقيمة ما يتيحه من اتساع أُفق وفضاء من مزارع أو على البحر مثلًا، حيث لن يتطفلَ عليك أحدٌ في هذا المكان.
والجنات بهذا الشكل التقريبي؛ هي أماكن مُتسعة، وكل مَنْ يدخلها له فيها مساكن طيبة، تلك الجنات تجري من تحتها الأنهار. ومَنْ يدخلونها.
{خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ...} [إبراهيم: 23].
ذلك أن الإنسان يحب التنعُّم؛ ولكن كل تنعُّم في الدنيا هناك ما يُنغَّصه، وهل يدوم أم لا يدوم؟ وكل مِنّا رأى أناسًا عاشت في نعيم؛ ثم نُزِع منها بحكم الأغيار؛ أو تركوه بحكم الموت.
أما جنة الله ونعيمها فالأمر مختلف؛ ذلك أن النعيم هناك لا يفوتُك ولا تفوته؛ لأنه على قَدْر إمكانات ربِّك.
ونلحظ أن قول الحق سبحانه: {خَالِدِينَ فِيهَا..} [إبراهيم: 23].
يُوضِّح أن الخلودَ في الجنة دائمٌ بإذن من الله.
ويتابع سبحانه: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [إبراهيم: 23].
والتحية هو ما يواجه به الإنسان أخاه إثباتًا لسروره بلقائه؛ ولذلك تأتي التحية على مقدار السرور؛ فمرّة تكون التحية بمجرد رَفْع اليد دون مُصَافحة؛ وقد لا تكفي بذلك في حالة ازدياد المعزَّة التي لصاحبك عندك؛ فتصافحه؛ وقد تأخذه في أحضانك، وهكذا ترتقي في التحية، وهي إعلان السرور باللقاء.
وتحية الجنة هي السلام لأن السلام أمنُ كل إنسان؛ سلامٌ مع نفسك؛ فلا تُكدِّرها بحديث النفس الذي يندم على ما فات؛ أو الحُلْم بعمل قادم، فالسلام في الجنة لن تجد فيه مُنغِّصاتٍ من الماضي أو الحاضر أو المستقبل؛ وتنسجم مع كل ما حولك في الكون؛ الجماد؛ النبات؛ البشر؛ الملائكة.
ولذلك قال الحق سبحانه تذييلًا لهذه الآية:
{تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [إبراهيم: 23].
وهذه أفضلُ نعمة، وهي الحياة في سلامٍ وأمْن، وبعد ذلك تدخُل الملائكة عليهم مصداقًا لقول الحق سبحانه: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 23-24].
ثم يُلقَّون السلام الأعلى من الله؛ وهو القائل: {سَلاَمٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58]. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)}.
قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السموات والأرض بالحق} الرؤية هنا هي القلبية، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضًا لأمته، أو الخطاب لكلّ من يصلح له.
وقرأ حمزة والكسائي {خالق السموات} ومعنى بالحقّ: بالوجه الصحيح الذي يحقّ أن يخلقها عليه ليستدلّ بها على كمال قدرته.
ثم بيّن كمال قدرته سبحانه واستغناءه عن كل واحد من خلقه فقال: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} فيعدم الموجودين ويوجد المعدومين، ويهلك العصاة، ويأتي بمن يطيعه من خلقه، والمقام يحتمل أن يكون هذا الخلق الجديد من نوع الإنسان، ويحتمل أن يكون من نوع آخر {وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي: بممتنع؛ لأنه سبحانه قادر على كل شيء، وفيه أن الله تعالى هو الحقيق بأن يرجى ثوابه ويخاف عقابه؛ فلذلك أتبعه بذكر أحوال الآخرة فقال: {وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا} أي: برزوا من قبورهم يوم القيامة، والبروز: الظهور، والبراز: المكان الواسع لظهوره، ومنه امرأة برزة، أي: تظهر للرجال، فمعنى {برزوا} ظهروا من قبورهم.
وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيهًا على تحقيق وقوعه كما هو مقرّر في علم المعاني، وإنما قال: {وبرزوا لله} مع كونه سبحانه عالمًا بهم لا تخفى عليه خافية من أحوالهم برزوا أو لم يبرزوا؛ لأنهم كانوا يستترون عن العيون عند فعلهم للمعاصي ويظنون أن ذلك يخفى على الله تعالى، فالكلام خارج على ما يعتقدونه.