فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
والعطف بثم في قوله: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} للترتيب الرتبي أي وقع ذلك كله وأنتم هؤلاء تقتلون، والخطاب لليهود الحاضرين في وقت نزول القرآن بقرينة قوله: {هؤلاء} لأن الإشارة لا تكون إلى غائب وذلك نحو قولهم: ها أنا ذا وها أنتم أولاء، فليست زيادة اسم الإشارة إلا لتعيين مفاد الضمير وهذا استعمال عربي يختص غالبًا بمقام التعجب من حال المخاطب وذلك لأن أصل الإخبار أن يكون بين المخبر والمخبر عنه تخالف في المفهوم واتحاد في الصدق في الخارج وهوالمعروف عند المناطقة بحمل الاشتقاق نحو أنت صادق، ولذلك لزم اختلاف المسند والمسند إليه بالجمود والاشتقاق غالبًا أو الاتحاد في الاشتقاق ولا تجدهما جامدين إلا بتأويل.
ثم إن العرب قد تقصد من الإخبار معنى مصادفة المتكلم الشيءَ عينَ شيء يبحث عنه في نفسه نحو أنت أبا جهل قاله له ابن مسعود يوم بدر إذ وجده مثخنًا بالجراح صريعًا ومصادفة المخاطب ذلك في اعتقاد المتكلم نحو {قال أنا يوسف وهذا أخي} فإذا أرادوا ذلك توسعوا في طريقة الإخبار فمن أجل ذلك صح أن يقال: أنا ذلك إذا كانت الإشارة إلى متقرر في ذهن السامع وهو لا يعلم أنه عين المسند إليه كقول خفاف بن نَدبة:
تَأَمَّلْ خُفَافًا إنني أنا ذلكا ** وقول طريف العنبري:

فتوسموني إنني أنا ذالكم

وأوسع منه عندهم نحوُ قول أبي النجم:
أنا أبو النجم وشعري شعري

ثم إذا أرادوا العناية بتحقيق هذا الاتحاد جاءوا بها التنبيهِ فقالوا: هَا أنا ذا يقوله المتكلم لمن قد يشك أنه هو نحو قول الشاعر:
إن الفتى مَن يقول ها أنا ذا

فإذا كان السبب الذي صحح الإخبار معلومًا اقتصَر المتكلم على ذلك وإلا أَتْبَع مثلَ ذلك التركيب بجملة تدل على الحال التي اقتضت ذلك الإخبار ولهم في ذلك مراتب: الأولى {ثم أنتم هؤلاء تقتلون}، الثانية: {ها أنتم أولاء تحبونهم} [آل عمران: 119].
ومنه ها أنا ذا لديكما قاله أمية بن أبي الصلت.
الثالثة {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا} [النساء: 109] ويستفاد معنى التعجب في أكثر مواقعه من القرينة كما تقول لمن وجدته حاضرًا وكنت لا تترقب حضوره ها أنت ذا، أو من الجملة المذكورة بعده إذا كان مفادها عجيبًا كما رأيت في الأمثلة.
والأظهر أن يكون الضمير واسم الإشارة مبتدأ وخبرًا والجملة بعدهما حالًا، وقيل: هي مستأنفة لبيان منشأ التعجب، وقيل: الجملة هي الخبر واسم الإشارة منادى معترض ومنعه سيبويه، وقيل: اسم الإشارة منصوب على الاختصاص وهذا ضعيف.
وعلى الخلاف في موقع الجملة اختلف فيما لو أتى بعدها أنت ذَا ونحوِه بمفرد فقيل يكون منصوبًا على الحال وقيل: مرفوعًا على الخبر ولم يسمع من العرب إلا مثال أنشده النحاة وهو قوله:
أبا حَكَم ها أنتَ نَجْمٌ مُجَالد

ولأجل ذلك جاء ابن مالك في خطبة التسهيل بقوله: وها أنا ساع فيما انتدبت إليه، وجاء ابن هشام في خطبة المغني بقوله: وها أنا مبيح بما أسررته.
واختلف النحاة أيضًا في أن وقوع الضمير بعد ها التنبيه هل يتعين أن يعقبه اسم الإشارة فقال في التسهيل هو غالب لا لازم وقال ابن هشام هولازم صرح به في حواشي التسهيل بنقل الدماميني في الحواشي المصرية في الخطبة وفي الهاء المفردة.
وقال الرضى إن دخول ها التنبيه في الحقيقة إنما هو على اسم الإشارة على ما هو المعروف في قولهم هذا وإنما يفصل بينها وبين اسم الإشارة بفاصل فمنه الضمير المرفوع المنفصل كما رأيت ومنه القسم نحو قول الشاعر من شواهد الرضي:
تَعَلَّمَنْ هَا لعمرُ الله ذا قسما ** فاقدر بذرعك فانظر أين تنسلك

وشذ بغير ذلك نحو قول النابغة:
ها إنّ تَاعذرة إن لا تكن نفعت ** فإن صاحبها قد تاه في البلد

وقوله: {تقتلون} حال أو خبر.
وعبر بالمضارع لقصد الدلالة على التجدد وأن ذلك من شأنكم وكذلك قوله: {وتخرجون فريقًا منكم}.
وجعل في (الكشاف) المقصود بالخطابات كلها في هذه الآية مرادًا به أسلاف الحاضرين وجعل قوله: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون} مع إشعاره بمغايرة المشار إليهم للذين وجه إليهم الخطاب مرادًا منه مغايرة تنزيلية لتغير صفات المخاطب الواحد وذلك تكلف ساقه إليه محبة جعل الخطابات في هذه الآية موافقة للخطابات التي في الآي قبلها، وقد علمت أنه غير لازم وأن المغايرة مقصودة هنا وقد استقامت فلا داعي إلى التكلف.
وقد أشارت هذه الآية إلى ما حدث بين اليهود من التخاذل وإهمال ماأمرتهم به شريعتهم والأظهر أن المقصود يهود قريظة والنضير وقَيْنُقَاعَ.
وأراد من ذلك بخاصة ما حدث بينهم في حروب بُعَاث القائمة بين الأوس والخزرج وذلك أنه لما تَقَاتَل الأوسُ والخزرجُ اعتزل اليهودُ الفريقين زمنًا طويلًا والأوسُ مغلوبون في سائر أيام القتال فدبر الأوس أن يخرجوا يسعون لمحالفة قُريظة والنَّضِير فلما علم الخزرج توعدوا اليهود إن فعلوا ذلك فقالوا لهم: إنا لا نحالف الأوس ولا نحالفكم فطلب الخزرجُ على اليهود رهائنَ أربعين غلامًا من غلمان قريظة والنضير فسلموهم لهم.
ثم إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي أطمع قومه أن يتحولوا لقريظة والنضير لحسن أرضهم ونخلهم وأرسل إلى قريظة والنضير يقول لهم: إما أن تخلوا لنا دياركم وإما أن نقتل الرهائن فخشي القوم على رهائنهم واستشاروا كعب بن أسيد القُرظي فقال لهم: يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان فما هي إلا ليلة يصيب أحدكم فيها امرأتَه حتى يولد له مثلُ أحدهم فلما أجابت قريظة والنضير عمرًا بأنهم يمنعون ديارهم عدا عمروٌ على الغلمان فقتلهم فلذلك تحالفت قريظة والنضير مع الأوس فسعى الخزرج في محالفة بني قينقاع من اليهود وبذلك نشأ قتال بين فِرق اليهود وكان بينهم يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين فكانت اليهود تتقاتل وتجلي المغلوبين من ديارهم وتأسرهم، ثم لمَّا ارتفعت الحرب جمعوا مالًا وفدوا به أسرى اليهود الواقعين في أسر أحلاف أحد الفريقين من الأوس أو الخزرج فعيرت العربُ اليهودُ بذلك وقالت: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم فقالوا: قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أُمرنا أن نفدي الأسرى فذلك قوله تعالى: {وإن يأتوكم أُسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم}.
الواو في قوله: {وإن يأتوكم أُسارى} يجوز أن تكون للعطف فهو عطف على قوله: {تقتلون أنفسكم وتخرجون} فهو من جملة ما وقع التوبيخ عليه مما نكث فيه العهد وهو وإن لم يتقدم في ذِكر ما أُخذ عليهم العهدُ مَا يدل عليه إلا أنه لما رجع إلى إخراج الناس من ديارهم كان في جملة المنهيات.
ولك أن تجعل الواو للحال من قوله: {وتخرجون فريقًا} أي تخرجونهم والحال إن أسرتموهم تفدونهم.
وكيفما قدرت فقوله: {وهو محرم عليكم إخراجهم} جملة حالية من قوله: {يأتوكم} إما حال من معطوف وإما حال من حال إذ ليس فداء الأسير بمذموم لذاته ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء فحمل التوبيخ هو مجموع المفاداة مع كون الإخراج محرمًا وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم، فجملة {وهو محرم عليكم إخراجهم} حالية من ضمير {تفادوهم}.
وصُدرت بضمير الشأن للاهتمام بها وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم وليست معطوفة على قوله: {وتخرجون فريقًا منكم} وما بينهما اعتراض لقلة جدواه إذ قد تحقق ذلك بقوله: {ولا تخرجون أنفسكم}.
وفي قوله: {وهو محرم عليكم إخراجهم} تشنيع وتبليد لهم إذ توهموا القُربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء؟.
وعندي أن في الآية دلالةً على ترجيح قول إمام الحرمين في أن الخارج من المغصوب ليس آتيًا بواجب ولا بحرام ولكنه انقطع عنه تكليف النهي وأن القُربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير ناشئة عن معصية.
والأُسارى بضم الهمزة جمع أسير حَمْلًا له على كَسْلان كما حملوا كسلان على أسير فقالوا: كَسْلَى هذا مذهب سيبويه لأن قياس جمعه أَسرى كقتلى.
وقيل: هو جمع نادر وليس مبنيًا على حمل، كما قالوا قدَامى جمع قديم.
وقيل: هو جمعُ جمععٍ فالأسير يجمع على أسرى ثم يجمع أسرى على أُسارى وهو أظهر.
والأسير فَعِيل بمعنى مفعول من أَسَرَه إذا أوثقه وهو فعل مشتق من الاسم الجامد فإن الإسَار هو السَّيْر من الجِلد الذي يوثق به المَسجون والمَوثوق وكانوا يُوثِقون المغولبين في الحرب بسيور من الجِلد، قال النابغة:
لم يبقَ غيرُ طريدٍ غيرِ مُنْفَلِت ** أو موثَققٍ في حِباله القدِّ مسلوبِ

وقرأ الجمهور أُسارى، وقرأه حمزة أَسْرَى.
وقرأ نافع والكسائي وعاصم ويعقوب {تفادوهم} بصيغة المفاعلة المستعملة في المبالغة في الفداء أي تفدوهم فداء حريصًا، فاستعمال فادى هنا مسلوب المفاضلة مثل عافاه الله وقول امرئ القيس:
فعادَى عداء بين ثور ونعجة ** دراكًا فلم ينضح بماء فيغسل

وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وخلف {تفدوهم} بفتح الفوقية وإسكان الفاء دون ألف بعد الفاء.
والمحرم الممنوع ومادة حرم في كلام العرب للمنع، والحرام الممنوع منعًا شديدًا أو الممنوع منعًا من قبل الدين، ولذلك قالوا: الأشهر الحرم وشهر المحرم.
وقوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم، وسمي الاتباع والإعراض إيمانًا وكفرًا على طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها إلى الكفر به، وإنما وقع {تؤمنون} في حيز الإنكار تنبيهًا على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من الدين مروق من الدين.
والفاء عاطفة على {تقتلون أنفسكم}، وما عطف عليه، عطفت الاستفهام أو عطفت مقدرًا دل عليه الاستفهام وسيأتي تحقيق ذلك قريبًا عند قوله: {أفكلما جاءكم رسول} [البقرة: 87].
والفاء في قوله: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم} فصيحة عاطفة على محذوف دل عليه الاستفهام الإنكاري أو عاطفة على نفس الاستفهام لما فيه من التوبيخ.
وقال عبد الحكيم: إن الجملة معترضة والاعتراض بالفاء وهذا بعيد معنى ولفظًا، وأما الأول فلأن الاعتراض في آخر الكلام المعبر عنه بالتذييل لا يكون إلا مفيدًا لحاصل ما تقدم وغير مفيد حكمًا جديدًا وأما الثاني فلأن اقتران الجملة المعترضة بحرف غير الواو غير معروف في كلامهم.
والخزي بالكسر ذل في النفس طارئ عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت عليها وهواسم لما يحصل من ذلك وفعله من باب سمع فمصدره بفتح الخاء، والمراد بالخزي ما لحق باليهود بعدتلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل قريظة وفتح خيبر وما قدر لهم من الذل بين الأمم.
وقرأ الجمهور يُردون ويعملون بياء الغيبة، وقرأ عاصم في رواية عنه تردون بتاء الخطاب نظرًا إلى معنى من وإلى قوله: {منكم}، وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب: {يعملون} بياء الغيبة وقرأه الجمهور بتاء الخطاب.
وقد دلت هذه الآية على أن الله يعاقب الحائدين عن الطريق بعقوبات في الدنيا وعقوبات في الآخرة.
وقد وقع اسم الإشارة وهو قوله: {أولئك الذين اشتروا} موقع نظيره في قوله: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5].
والقول في {اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} كالقول في: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدي} [البقرة: 16].
والقول في {فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون} قريب من القول في {ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون}.
وموقع الفاء في قوله: {فلا يخفف عنهم العذاب} هو الترتب لأن المجرم بمثل هذا الجرم العظيم يناسبه العذاب العظيم ولا يجد نصيرًا يدفع عنه أو يخفف. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}.
يخاطب الحق جل جلاله اليهود ليفضحهم لأنهم طبقوا من التوراة ما كان على هواهم.. ولم يطبقوا ما لم يعجبهم ويقول لهم: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}.
إنه يذكرهم بأنهم وافقوا على الميثاق وأقروه. ولقد نزلت هذه الآية عندما زنت امرأة يهودية وأرادوا ألا يقيموا عليها الحد بالرجم.. فقالوا نذهب إلي محمد ظانين أنه سيعفيهم من الحد الموجود في كتابهم.. أو أنه لا يعلم ما في كتابهم.. فلما ذهبوا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم هذا الحكم موجود عندكم في التوراة.. قالوا عندنا في التوراة أن نلطخ وجه الزاني والزانية بالقذارة ونطوف به على الناس.. قال لهم رسول الله لا.. عندكم آية الرجم موجودة في التوراة فانصرفوا.. فكأنهم حين يحسبون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيخفف حدا من حدود الله.. يذهبون إليه ليستفتوه.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} أي بعد أن أخذ عليكم الميثاق ألا تفعلوا.. تقتلون أنفسكم.. يقتل بعضكم بعضا، أو أن من قتل سيقتل. فكأنه هو الذي قتل نفسه.. والحق سبحانه قال: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} لماذا جاء بكلمة هؤلاء هذه؟ لإنها إشارة للتنبيه لكي نلتف إلي الحكم.
وقوله تعالى: {وتخرجون فريقا منكم من ديارهم} وحذرهم بقوله: {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} وجاء هذا في الميثاق. ما هو الحكم الذي يريد الحق تبارك وتعالى أن يلفتنا إليه؟ نقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما هاجر إلي المدينة انتقل من دار شرك إلي دار إيمان.. ومعنى دار إيمان أن هناك مؤمنين سبقوا.. فهناك من آمن من أهل المدينة.. لقد هاجر المسلمون قبل ذلك إلي الحبشة ولكنها كانت هجرة إلي دار أمن وليست دار إيمان.. ولكن حين حدثت بيعة العقبة وجاء جماعة من المدينة وعاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به.. أرسل معهم الرسول مصعب بن عمير ليعلمهم دينهم.. وجاءت هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام على خميرة إيمانية موجودة.. لما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلي المدينة أفسد على اليهود خطة حياتهم.. فاليهود كانوا ممثلين في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة.. وكان هناك في المدينة الأوس والخزرج.. وبينهما حروب دائمة قبل أن يأتي الإسلام.. فاليهود قسموا أنفسهم إلي قوم مع الأوس وقوم مع الخزرج حتى يضمنوا استمرار العداوة.. فكلما هدأ القتال أهاجوا أحد المعسكرين على الآخر ليعود القتال من جديد.. وهم كذلك حتى الآن وهذه طبيعتهم.
إن الذي صنع الشيوعية يهودي، والذي صنع الرأسمالية يهودي.. والذي يحرك العداوة بين المعسكرين يهودي.. وكان بنو النضير وبنو قينقاع مع الخزرج وبنو قريظة مع الأوس.. فإذا اشتبك الأوس والخزرج كان مع كل منهم حلفاؤه من اليهود. عندما تنتهي المعركة ماذا كان يحدث؟ إن المأسورين من بني النضير وبني قينقاع يقوم بنو قريظة بالمساعدة في فك أسرهم.. مع أنهم هم المتسببون في هذا الأسر.. فإذا انتصرت الأوس وأخذوا أسرى من الخزرج ومن حلفائهم اليهود.. يأتي اليهود ويعملون على إطلاق سراح الأسرى اليهود.. لأن عندهم نصا أنه إذا وجد أسير من بني إسرائيل فلابد من فك أسره.
سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} من الآية 16 سورة الأنفال.
ولكن القرآن أتى بها أسارى.. واللغة أحيانا تأتي على غير ما تقضيه قياسها لتلفتك إلي معنى من المعاني.. فكسلان تجمع كسالى. والكسالى هو هابط الحرة.. الأسير أيضا أنت قيدت حركته.. فكأن جمع أسير على أسارى إشارة إلي تقييد الحركة.. القرآن الكريم جاء بأسارى وأسرى.. ولكنه حين استخدم أسارى أراد أن يلفتنا إلي تقييد الحركة مثل كسالى.. ومعنى وجود أسرى أن حربا وقعت.. لحرب تقتضي الالتقاء والالتحام.. ويكون كل واحد منهم يريد أن يقتل عدوه.
كلمة الأسر هذه أخذت من أجل تهدئة سعار اللقاء.. فكأن الله أراد أن يحمي القوم من شراسة نفوسهم وقت الحرب فقال لهم إستأسروهم.. لا تقتلوهم إلا إذا كنتم مضطرين للقتل.. ولكن خذوهم أسرى وفي هذا مصلحة لكم لأنكم ستأخذون منهم الفدية.. وهذا تشريع من ضمن تشريعات الرحمة.. لأنه لو لم يكن الأسر مباحا.. لكان لابد إذا إلتقى مقاتلان أن يقتل أحدهما الآخر.. لذلك يقال خذه أسيرا إلا إذا كان وجوده خطرًا على حياتك. وقول الحق تبارك وتعالى: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم}.. كانت كل طائفة من اليهود مع حليفتها من الأوس أو الخزرج.. وكانت تخرج المغلوب من دياره وتأخذ الديار.. وبعد أن تنتهي الحرب يفادوهم.. أي يأخذون منهم الفدية ليعيدوا إليهم ديارهم وأولادهم.
لماذا يقسم ال يهود أنفيهم هذه القسمة.. أنها ليست تقسيمة إيمانية ولكنها تقسيمة مصلحة دنيوية.. لماذا؟ لأنه ليس من المعقول وأنتم أهل كتاب.. ثم تقسمون أنفسكم قسما مع الأوس وقسما مع الخزرج.. ويكون بينكم إثم وعدوان.
وقوله تعالى: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان}.. تظاهرون عليهم. أي تعاونون عليهم وأنتم أهل دين واحد: {بالإثم}.. والإثم هو الشيء الخبيث الذي يستحي منه الناس: {والعدوان}.. أي التعدي بشراسة.
وقوله تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}.. أي تأخذون القضية على أساس المصلحة الدنيوية.. وتقسمون أنفسكم مع الأوس والخزرج.. تفعلون ذلك وأنتم مؤمنون بإله ورسول وكتاب.. مستحيل أن يكون دينكم أو نبيكم قد أمركم بهذا.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا} أي إنكم فعلتم ذلك وخالفتم لتصلوا إلي مجد دنيوي ولكنكم لم تصلوا إليه.. سيصيبكم الله بخزي في الدنيا.. أي أن الجزاء لن يتأخر إلي الآخرة بل سيأتيكم خزي وهو الهوان والذل في الدنيا.. وماذا في الآخرة؟ يقول الله تعالى: {ويوم القيامة يردون إلي أشد العذاب} الخزي في الدنيا أصابهم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأخرج بنو قينقاع من ديارهم في المدينة.. كذلك ذبح بنو قريظة بعد أن خانوا العهد وخانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.. وهكذا لا يؤخر الله سبحانه وتعالى جزاء بعض الذنوب إلي الآخرة.. وجزاء الظلم في الدنيا لا يؤجل إلي الآخرة، لأن المظلوم لابد أن يرى مصرع ظالميه حتى يعتدل نظام الكون.. ويعرف الناس أن الله موجود وأنه سبحانه لكل ظالم بالمرصاد.. اليهود أتاهم خزي الدنيا سريعا: {يوم القيامة يردون إلي أشد العذاب}.
قد يتساءل الناس ألا يكفيهم الخزي في الدنيا عن عذاب الآخرة؟ نقول لا.. لأن الخزي لم ينلهم في الدنيا حدا.. ولم يكن نتيجة إقامة حدود الله عليهم.. فالخزي حين ينال الإنسان كحد من حدود الله عليهم.. فالخزي حين ينال الإنسان كحد من حدود الله يعفيه من عذاب الآخرة.. فالذي سرق وقطعت يده والذي زنا ورجم.. هؤلاء نالهم عذاب من حدود الله فلا يحاسبون في الآخرة.. أما الظالمون فالأمر يختلف.. لذلك فإننا نجد إناسا من الذين ارتكبوا إثما في الدنيا يلحون على إقامة الحد عليهم لينجو من عذاب الآخرة.. مع أنه لم يرهم أحد أو يعلم بهم أحد أو يشهد عليهم أحد.. حتى لا يأتي واحد ليقول: لماذا لا يعفي الظالمون الذي أصابهم خزي في الدنيا من عذاب الآخرة؟ نقول إنهم في خزي الدنيا لم يحاسبوا عن جرائمهم.. أصابهم ضر وعذاب.. ولكن أشد العذاب ينتظرهم في الآخرة الذي هو بقدرة الله سبحانه وتعالى، كما أن هذه الدنيا تنتهي فيها حياة الإنسان بالموت، أما الآخرة فلا موت فيها بل خلود في العذاب.
ثم يقول الحق جل جلاله: {وما الله بغافل عما تعملون} أي لا تحاسب أن الله سبحانه وتعالى يغفل عن شيء في كونه فهو لا تأخذه سنة نوم.. وهو بكل شيء محيط. اهـ.