فصل: (سورة إبراهيم: الآيات 15- 17)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة إبراهيم: الآيات 15- 17]

{وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)}.
{وَاسْتَفْتَحُوا} واستنصروا اللّه على أعدائهم {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ} أو استحكموا اللّه وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة، كقوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ} وهو معطوف على {فَأَوْحى إِلَيْهِمْ} وقرئ: {واستفتحوا}، بلفظ الأمر. وعطفه على {لَنُهْلِكَنَّ} أى: أوحى إليهم ربهم وقال لهم لنهلكنّ وقال لهم استفتحوا {وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا، {وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}، وهم قومهم. وقيل: واستفتح الكفار على الرسل، ظنا منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل، {وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} منهم ولم يفلح باستفتاحه {مِنْ وَرائِهِ} من بين يديه. قال:
عَسَى الْكَرْبُ الذي أَمْسَيْتَ فِيهِ ** يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ

وهذا وصف حاله وهو في الدنيا، لأنه مرصد لجهنم، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف. فان قلت: علام عطف {وَيُسْقى}؟ قلت: على محذوف تقديره: من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء صديد، كأنه أشد عذابها فخصص بالذكر مع قوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ}. فإن قلت: ما وجه قوله تعالى: {نْ ماءٍ صَدِيدٍ}؟ قلت: صديد عطف بيان لماء، قال: {وَيُسْقى مِنْ ماءٍ} فأبهمه إبهاما ثم بينه بقوله: {صَدِيدٍ} وهو ما يسيل من جلود أهل النار {يَتَجَرَّعُهُ} يتكلف جرعه {وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ} دخل كاد للمبالغة. يعنى: ولا يقارب أن يسيغه، فكيف تكون الإساغة، كقوله: {لَمْ يَكَدْ يَراها} أى لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ} كأنّ أسباب الموت وأصنافه كلها قد تألبت عليه وأحاطت به من جميع الجهات، تفظيعا لما يصيبه من الآلام. وقيل {مِنْ كُلِّ مَكانٍ} من جسده حتى من إبهام رجله. وقيل: من أصل كل شعرة {وَمِنْ وَرائِهِ} ومن بين يديه {عَذابٌ غَلِيظٌ} أى في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشدّ مما قبله وأغلظ. وعن الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أى استمطروا- والفتح المطر- في سنى القحط التي أرسالات عليهم بدعوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يسقوا، فذكر سبحانه ذلك، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر، وهو صديد أهل النار. {وَاسْتَفْتَحُوا} على هذا التفسير: كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم.

.[سورة إبراهيم: آية 18]

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)}.
هو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه، تقديره: وفيما يقص عليك {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة وقوله: {أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ} جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد. ويجوز أن يكون المعنى: مثل أعمال الذين كفروا بربهم. أو هذه الجملة خبرا للمبتدإ، أى صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول، أو يكون أعمالهم بدلا من {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} على تقدير: مثل أعمالهم، وكرماد: الخبر. وقرئ: {الرياح فِي يَوْمٍ عاصِفٍ} جعل العصف لليوم، وهو لما فيه، وهو الريح أو الرياح، كقولك: يوم ماطر وليلة ساكرة. وإنما السكور لريحها وقرئ: في يوم عاصف، بالإضافة. وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم، من صلة الأرحام وعتق الرقاب، وفداء الأسارى، وعقر الإبل للأضياف، وإغاثة الملهوفين، والإجازة، وغير ذلك من صنائعهم، شبهها في حبوطها وذهابها هباء منثورا لبنائها على غير أساس من معرفة اللّه والإيمان به، وكونها لوجهه: برماد طيرته الريح العاصف {لا يَقْدِرُونَ} يوم القيامة {مِمَّا كَسَبُوا} من أعمالهم {عَلى شَيْءٍ} أى لا يرون له أثرا من ثواب، كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء {ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب بِالْحَقِّ بالحكمة والغرض الصحيح والأمر العظيم، ولم يخلقها عبثا ولا شهوة.

.[سورة إبراهيم: الآيات 19- 20]

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)}.
وقرئ: {خالق السموات والأرض} {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أى هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقا آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم، إعلاما منه باقتداره على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم، يقدر على الشيء وجنس ضده {وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} بمتعذر، بل هو هين عليه يسير، لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فإذا خلص له الداعي إلى شيء وانتفى الصارف، تكوّن من غير توقف: كتحريك أصبعك إذا دعاك إليه داع ولم يعترض دونه صارف. وهذه الآيات بيان لإبعادهم في الضلال وعظيم خطئهم في الكفر باللّه، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة وأنه هو الحقيق بأن يعبد، ويخاف عقابه ويرجى ثوابه في دار الجزاء.

.[سورة إبراهيم: آية 21]

{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21)}.
{وَبَرَزُوا لِلَّهِ} ويبرزون يوم القيامة. وإنما جيء به بلفظ الماضي، لأنّ ما أخبر به عزّ وعلا لصدقه كأنه قد كان ووجد، ونحوه {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ}، {وَنادى أَصْحابُ النَّارِ} ونظائر له. ومعنى بروزهم للّه- واللّه تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز له- أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش، ويظنون أن ذلك خاف على اللّه، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا للّه عند أنفسهم وعلموا أنّ اللّه لا يخفى عليه خافية. أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب اللّه وحكمه. فإن قلت: لم كتب {الضعفؤا} بواو قبل الهمزة؟ قلت: كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو. ونظيره {علمؤا بنى إسرائيل} والضعفاء: الأتباع والعوام. والذين استكبروا: ساداتهم وكبراؤهم، الذين استتبعوهم واستغووهم وصدورهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم {تَبَعًا} تابعين: جمع تابع على تبع، كقولهم: خادم وخدم وغائب وغيب أو ذوى تبع. والتبع: الأتباع، يقال: تبعه تبعا. فان قلت: أى فرق بين من في {مِنْ عَذابِ اللَّهِ} وبينه في {مِنْ شَيْءٍ}؟ قلت: الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب اللّه. ويجوز أن تكونا للتبعيض معا، بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب اللّه، أى: بعض بعض عذاب اللّه.
فإن قلت: فما معنى قوله: {لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ}؟ قلت الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخا لهم وعتابا على استتباعهم واستغوائهم. وقولهم: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا} من باب التبكيت، لأنهم قد علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم، فأجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم: بأن اللّه لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم ولم يضلوهم، إما موركين الذنب في ضلالهم وإضلالهم على اللّه، كما حكى اللّه عنهم وقالوا: {لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا}، {لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا. ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ}. وإما أن يكون المعنى: لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. وقيل: معناه لو هدانا اللّه طريق النجاة من العذاب لهديناكم، أى: لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة {سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا} مستويان علينا الجزع والصبر. والهمزة وأم للتسوية. ونحوه: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ} وروى أنهم يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك ثم يقولون: سواء علينا. فإن قلت: كيف اتصل قوله سواء علينا بما قبله؟ قلت: اتصاله به من حيث أنّ عتابهم لهم كان جزعا مما هم فيه، فقالوا: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، يريدون أنفسهم وإياهم، لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها، يقولون: ما هذا الجزع والتوبيخ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر والأمر من ذلك أطمّ. أو لما قالوا لو هدانا اللّه طريق النجاة لأغنينا عنكم وأنجيناكم، أتبعوه الإقناط من النجاة فقالوا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ أى منجى ومهرب، جزعنا أم صبرنا. ويجوز أن يكون من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعًا، كأنه قيل: قالوا جميعا سواء علينا، كقوله: {ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ}.
والمحيص يكون مصدرًا، كالمغيب والمشيب. ومكانا، كالمبيت والمصيف. ويقال: حاص عنه وجاض، بمعنى واحد.

.[سورة إبراهيم: آية 22]

{وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)}.
{لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} لما قطع الأمر وفرغ منه، وهو الحساب، وتصادر الفريقين ودخول أحدهما الجنة ودخول الآخر النار. وروى أنّ الشيطان يقوم عند ذلك خطيبًا في الأشقياء من الجنّ والإنس فيقول ذلك إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم {وَوَعَدْتُكُمْ} خلاف ذلك {فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني، وليس الدعاء من جنس السلطان، ولكنه كقولك: ما تحيتهم إلا الضرب. {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} حيث اغتررتم بى وأطعتمونى إذ دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم. وهذا دليل على أنّ الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه، وليس من اللّه إلا التمكين، ولا من الشيطان إلا التزيين. ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإنّ اللّه قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه. فإن قلت: قول الشيطان باطل لا يصح التعلق به. قلت: لو كان هذا القول منه باطلا لبين اللّه بطلانه وأظهر إنكاره، على أنه لا طائل له في النطق بالباطل في ذلك المقام: ألا ترى إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} كيف أتى فيه بالحق والصدق، وفي قوله: {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} وهو مثل قول اللّه تعالى: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ}، {ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} لا ينجى بعضنا بعضا من عذاب اللّه ولا يغيثه. والإصراخ: الإغاثة. وقرئ: {بمصرخي}، بكسر الياء وهي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول:
قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَا تَافِىِّ ** قَالَتْ لَهُ مَا أنْتَ بِالمَرْضِى

وكأنه قدّر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة، فحرّكها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح، لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة، حيث قبلها ألف في نحو عصاي، فما بالها وقبلها ياء؟ فإن قلت: جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام، فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن، فحرّكت بالكسر على الأصل.
قلت: هذا قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات. ما في {بِما أَشْرَكْتُمُونِ} مصدرية، و{مِنْ قَبْلُ} متعلقة بأشركتمونى، يعنى: كفرت اليوم بإشراككم إياى من قبل هذا اليوم، أى في الدنيا، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} ومعنى كفره بإشراكهم إياه: تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله تعالى: {إِنَّا بُرَاؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ} وقيل: {مِنْ قَبْلُ} يتعلق بكفرت.
وما موصولة، أى: كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أَشركتمونيه وهو اللّه عز وجل، تقول: شركت زيدًا، فإذا نقلت بالهمزة قلت: أَشركنيه فلان، أى: جعلني له شريكا.
ونحو ما هذه ما في قولهم: سبحان ما سخركنّ لنا. ومعنى إشراكهم الشيطان باللّه: طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وغيرها، وهذا آخر قوله إبليس. وقوله: {إِنَّ الظَّالِمِينَ} قول اللّه عزّ وجلّ. ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس، وإنما حكى اللّه عزّ وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت، ليكون لطفا للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لابد لهم من الوصول إليه، وأن يتصوّروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم. وقرئ: {فلا يلومونى}، بالياء على طريقة الالتفات، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ}.

.[سورة إبراهيم: آية 23]

{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)}.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: {وأدخل الذين آمنوا}، على فعل المتكلم، بمعنى: وأدخل أنا وهذا دليل على أنه من قول اللّه، لا من قوله إبليس {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} متعلق بأدخل، أى: أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن اللّه وأمره. فإن قلت: فبهم يتعلق في القراءة الأخرى، وقولك: وأدخلهم أنا بإذن ربهم، كلام غير ملتئم؟ قلت: الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} بما بعده، أى {تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ} بإذن ربهم، يعنى: أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم.

.[سورة إبراهيم: الآيات 24- 25]

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)}.
قرئ {أَلَمْ تَرَ} ساكنة الراء، كما قرئ: {من يتق}، وفيه ضعف {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} اعتمد مثلا ووضعه. و{كَلِمَةً طَيِّبَةً} نصب بمضمر، أى: جعل كلمة طيبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهو تفسير لقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} كقولك: شرّف الأمير زيدًا: كساه حلة، وحمله على فرس.
ويجوز أن ينتصب {مَثَلًا} و{كَلِمَةً} بضرب، أى: ضرب كلمة طيبة مثلا، بمعنى: جعلها مثلا ثم قال: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} على أنها خبر مبتدأ محذوف، بمعنى هي كشجرة طيبة {أَصْلُها ثابِتٌ} يعنى في الأرض ضارب بعروقه فيها {وَفَرْعُها} وأعلاها ورأسها فِي السَّماءِ ويجوز أن يريد: وفروعها، على الاكتفاء بلفظ الجنس. وقرأ أنس بن مالك: {كشجرة طيبة ثابت أصلها} فإن قلت: أىّ فرق بين القراءتين؟ قلت: قراءة الجماعة أقوى معنى، لأنّ في قراءة أنس أجريت الصفة على الشجرة، وإذا قلت: مررت برجل أبوه قائم، فهو أقوى معنى من قولك: مررت برجل قائم أبوه، لأنّ المخبر عنه إنما هو الأب لا رجل. والكلمة الطيبة: كلمة التوحيد. وقيل: كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة. وعن ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا اللّه. وأما الشجرة فكل شجرة مثمرة طيبة النمار، كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمّان وغير ذلك. وعن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ذات يوم: «إن اللّه ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبرونى ما هي» فوقع الناس في شجر البوادي، وكنت صبيا، فوقع في قلبي أنها النخلة، فهبت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن أقولها وأنا أصغر القوم. وروى: فمنعني مكان عمرو استحييت، فقال لي عمر: يا بنىّ لو كنت قلتها لكانت أحبّ إلىّ من حمر النعم، ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ألا إنها النخلة» وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: شجرة في الجنة وقوله فِي السَّماءِ معناه في جهة العلوّ والصعود، ولم يرد المظلة، كقولك في الجبل: طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه {تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ} تعطى ثمرها كل وقت وقته اللّه لإثمارها {بِإِذْنِ رَبِّها} بتيسير خالقها وتكوينه {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني.