فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} فيه سبعة أقوال:
أحدها: وهو الظاهر أن {أنتم} في محل رفع بالابتداء، وهؤلاء خبره و{تقتلون} حال، والعامل فيها اسم الإشارة لما فيه من معنى الفِعْل، وهي حال منه ليتّحد ذُوا الحال وعاملها.
وقد قالت العرب: ها أنت ذا قائمًا وها أنا ذا قائمًا وها هوذَا قائمًا فأخبروا باسم الإشارة عن الضَّمير في اللَّفظ والمعنى على الإخبار بالحال، فكأنه قال: أنت الحاضر، وأنا الحاضر، وهو الحاضر في هذه الحالة.
ويدل على أن الجملة من قوله: {تَقْتُلُونَ} حال وقوع الحال الصريحة موقعها كما تقدم في: ها أنا ذا قائمًا... ونحوه إلى هذا المعنى نَحَا الزمخشري فقال: {ثُمّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ} استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارِهم وشَهَادتِهم، والمعنى: ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون: يعني أنكم قوم آخرون غيرُ أولئك المقربين، تنزيلًا لتغير الصّفة منزلة تغير الذَّات كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به.
وقوله: {تَقْتُلُونَ} بيان لقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ}.
واعترضه أبو حَيَّان فقال: الظاهر أن المشار إليهم بقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ} هم المخاطبون أولًا، فليسوا قومًا آخرين، ألا ترى أن التقدير الذي قَدَّره الزمخشري من تقدير تغير الصّفة منزلة تغيّر الذات لا يتأتى في نحو: ها أنا ذا قائمًا، ولا في نحو: ها أنتم هؤلاء، بل المُخَاطب هو المشار إليه من غير تَغَيُّرٍ.
وأجيب بأن هذا الإيراد بعيد غير واضح.
والثاني: أن {أنتم} أيضًا مبتدأ، و{هؤلاء} خبره، ولكن بتأويل حذف مضاف تقديره: ثم أنتم مِثْلُ هؤلاء، و{تقتلون} حال أيضا، العامل فيها معنى التشبيه، إلا أنه يلزم منه الإشَارة إلى غائبين؛ لأن المراد بهم أَسْلاَفهم على هذا، وقد يقال: إنه نزل الغائب منزلة الحاضر.
الثالث: ونقله ابن عطية عن شيخه ابن الباذش أن {أنتم} خبر متقدم، و{هؤلاء} مبتدأ مؤخر.
وهذا فاسد؛ لأن المبتدأ أو الخبر متى استويا تعريضًا وتنكيرًا لم يَجُزْ تقدم الخبر، وإن ورد منه ما يوهم فمتأول.
الرابع: أن {أنتم} مبتدأ و{هؤلاء} مُنَادى حذف منه حرف النِّدَاء، وتقلتون خبر المبتدأ، وفصل بالنداء بين المبتدأ وخبره.
وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به الفراء وجماعة؛ أنشدوا: البسيط:
إِنَّ الأُولى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ ** هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولاَ

أي: يا هذا، وهذا لا يجوز عند البصريين، ولذلك لُحِّنَ المتنبي في قوله: الكامل:
هَذِي بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيَا

وفي البيت كلام طويل.
الخامس: أن {هؤلاء} موصول بمعنى الذي، و{تقتلون} صلته، وهو خبر عن {أنتم} أي: أنتم الذين تقتلون.
وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به الفراء وجماعة؛ أنشدوا: البسيط:
.......... ** نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ

أي: والذي تحملين، ومثله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} [طه: 17] يعني: وما التي؟
السادس: أنَّ {هؤلاء} منصوب على الاختصاص، بإضمار أعني و{أنتم} مبتدأ، و{يقتلون} خبره، اعترض بينهما بجملة الاختصاص، وإليه ذهب ابن كَيْسَان.
وهذا لا يجوز، لأن النحويين قد نصّوا على أن الاختصاص لا يَكُون بالنكرات، ولا أسماء الإشارة، والمستقرأ من لسان العرب أن المنصوب على الاختصاص: إما أي نحو: اللهم اغفر لنا أيتها العِصَابة أو معرف ب (أل) نحو: نحن العَرَبَ أَقْرَى النَّاس للضيف، أو بالإضافة نحو: نحن مَعَاشِرَ الأنبياء لا نورّث، وقد يجيء كقوله: الرجز:
بِنَا تَمِيمًا يُكْشَفُ الضَّبَابُ

وأكثر ما يجيء بعد ضمير تكلُّم كما تقدم، وقد يجيء مخاطب كقولهم: بك الله نرجو الفضل.
السابع: أن يكون {أَنْتُمْ هَؤُلاَء} على ما تقدّم من كونهما مبتدأ أو خبر، والجُمْلة من {تقتلون} مستأنفة مبينة للجملة قبلها، يعني: أنتم هؤلاء الأشخاص الحَمْقَى، وبيان حَمَاقتكم وقلّة عقلوكم أنكم تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقًا منكم من دِيَارِهِمْ، وهذا ذكره الزَّمخشري في آل عمران في قوله: {هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ} [آل عمران: 66] ولم يذكر هنا، وسيأتي بنصه إن شاء الله تعالى.
قوله: {تَظَاهَرُونَ} هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل {تُخْرجون} وفيها خمس قراءات: {تَظَّاهرُون} بتشديد الظَّاء، والأصل: تتظاهرون فأُدغم لقرب الظاء من التاء.
و{تَظَاهَرُون} مخففًا، والأصل كما تقدم، إلا أنه خفّفه بالحذف، وهل المحذوف الثانية وهو الأَوْلَى؛ لحصول الثقل بها، ولعدم دلالتها على معنى المُضَارعة، أو الأُولَى كما زعم هشام؛ قال الشاعر: البسيط:
تَعَاطَسُونَ جَمِيعًا حَوْلَ دَارِكُمُ ** فَكُلُّكُمْ يَابَنِي حَمْدَانِ مَزكُومُ

أراد: تتعاطسون فحذف.
و{تَظَّهَّرُون} بتشديد الظاء والهاء.
و{تَظَاهَرُون} من تَظَاهر و{تَتَظَاهَرُونَ} على الأصل من غير حذف، ولا إدْغَام وكلهم يرجع إلى معنى المعاونة والتَّنَاصُر من المظاهرة، كأن كل واحد منهم يسند ظَهْرَهُ للآخر ليتقوّى به، فيكون له كالظَّهر؛ قال: الطويل:
تَظَاهَرْتُمُ أَسْتَاهَ بَيْتٍ تَجَمَّعَتْ ** عَلَى وَاحِدٍ لاَ زِلْتُمُ قِرْنَ وَاحِدِ

قال ابن الخطيب: الآية تدلّ على أن الظُّلم كما هو محرم، فإعانة الظالم على ظلمه محرمة.
فإن قيل: أليس أن الله تعالى لما أقدر الظَّالم على الظّلم، وأزال العوائق والموانع، وسلط عليه الشهوة الدّاعية إلى الظلم كمان قد أعانه على الظلم، فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحةً لوجب ألاَّ يوجد ذلك من الله تعالى؟
والجواب: أنه تعالى وإن مكّن الظَّالم من ذلك فقد زَجَرَهُ عن الظلم بالتَّهْديد والزجر، بخلاف المعني للظالم على ظلمه، فإنه يرغبه فيه، ويحسنه له ويدعوه إليه فظهر الفرق.
والإثم في الأصل: الذنب، وجمعه آثام، ويطلق على الفعل الذي يستحقّ به صاحبه الذّم واللوم.
وقيلك هو ما تَنْفِرُ منه النفس، ولا يطمئنّ إليه القَلْب، فالإثْمُ في الآية يحتمل إن يكون مرادًا به أحد ذه المعاني ويحتمل أن يتجوّز به عما يوجب الإثم من إقامة السَّبب مقام السَّبب مقام المسببح كقوله: الوافر:
شَرِبءتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ** كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُولِ

فعبر عن الخمر بالإثم، لما كان مسبَّبًا عنها.

.فصل في معنى العدوان واشتقاقه:

و{العُدْوَان}: التجاوز في الظلم، وقد تقدم في {يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] وهو مصدر كالكُفْرَان والغُفْرَان والمشهور ضمّ فائه، وفيه لغة بالكَسْر.
قوله: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} {إن} شرطية، و{يأتوكم} مجزوم بها بحذف النون والمخاطب مفعول.
و{أسارى} حال من الفاعل في {يأتوكم}.
وقرأ الجماعة غير حمزة {أُسارى} وقرأ هو: {أَسْرَى} وقرئ: {أَسَارَى} بتفح الهمزة، فقراءة الجماعة تحتمل أربعة أوجه:
أحدها: أنه جُمِعَ جَمْع كَسْلاَن لما جمعهما من عدم النَّشَاط والتصرف، فقالوا: أسير وأسارى بضم الهمزة ككَسْلاَن وكُسَالَى وسَكْرَان وسُكَارى، كما أنه قد شبه كَسْلان وسَكْران به فجمعا جمعه الأصلي الذي هو على فعلى فقالوا: كسلان وكَسْلى، وسكران وسَكْرى لقولهم: أسير وأسرى.
قال سيبويه: فقالوا: في جمع كَسْلان كَسْلَى شبّهوه بأَسْرَى.
كما قالوا: أُسارى شبَّهوه بكَسَالى، ووجه الشبه أنَّ الأسْر يدخل على المرء كرهًا كما يدخل الكَسَل.
قال بعضهم: والدَّليل على اعتبار هذا المعنى أنهم جمعوا مريضًا وميتًا وهالكًا على فعلى فقالوا: مرضى وموتى وهَلْكَى لما جمعها المَعْنَى الذي في قَتْلَى وجَرْحَى.
الثَّاني: أنَّ {أُسَارى} جمع أسير، وقد وجدنا فَعِيلًا يجمع على فُعَالى قالوا: شيخ قديم، وشيوخ قُدَامى.
وفيه نظر، فإن هذا شاذ لا يقاس عليه.
الثالث: أنه جمع أسير أيضًا، وإنما ضموا الهمزة من {أُسَارى} وكان أصلها الفَتْح كنديم ونُدَامى كما ضمت الكاف والسين من كُسَالى وسُكَارى وكان الأصل فيهما الفتح نحوك عَطْشَان وعَطَاشى.
الرابع: أنه جمع أسرى الذي هو جمع أسير فيكون جمع الجمع.
وأما قراءة حمزة فواضحة؛ لأن فعلى ينقاس في فعيل نحو: جريح وجرحى وقتيل وقَتْلَى ومريض ومرضى.
وأما {أَسَارَى} بالفتح فقد تقدم أنها أصل أُسَارَى بالضم عند بعضهم، ولم يَعْرِفْ أهل اللُّغَة فرقًا بين {أُسَارَى} وأَسْرَى إلاَّ ما حكاه أبو عُبَيْدَة عن أبي عمرو بن العلاء، فإنه قال: ما كان في الوَثَاقِ فهم الأُسَارَى، وما كان في اليد، فهم الأَسْرَى ونقل بعضهم عنه الفرقَ بمعنًى آخر، فقال: ما جاء مستأسرًا فهم الأسْرَى، وما صار في أيديهم، فهم الأُسَارَى، وحكى النقَّاشُ من ثَعْلَبِ؛ أنه لما سمع هذا الفَرْق قال: هذا كلامُ المَجَانِينِ، وهي جُرْآة منه على أبي عمرو، وحكى عن المبرِّد أنه يقال: أسِير وأُسَرَاء كشَهِيدٍ وشُهَدَاء والأَسير: مشتقٌّ من الإسَارِ وهو القَيْدُ الذي يُرْبَطُ به من المحمل، فسمي الأسير أسيرًا، وإن لم يُرْبَط، والأَسْر: الخلْقُ في قوله: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 29] وأُسْرَة الرَّجْل: من يتقوَّى بهم، والأُسْر: احتباس البَوْل، ورجل مَأْسُوةر: أصابه ذلك؛ وقالت العربُ: أسَرَ قَتَبَهُ: أي: شَدَّه؛ قال الأعشى: المتقارب:
وَقَيَّدَنِي الشِّعْرُ في بَيْتِهِ ** كَمَا قَيَّدَ الآسِرَاتُ الحَمَارَا

يريد: أنه بلغ في الشعر النّهاية؛ حتى صار له كالبيت الذي لا يَبْرَحُ عنه.
قوله: {تُفَادُوهُمْ} قرأ نافع وعاصم والكسائي {تُفَادُوهُمْ}، وهو جواب الشرط، فلذلك حذف نون الرفع، وقرأ الباقون: {تَفْدُوهُمْ}، وهل القراءتان بمعنى واحد، ويكون معنى فَاعَل مثل معنى فَعَل المجرد مثل: عاقبت وسَافرت أو بينهما فرق؟ خلاف مشهور، ثم اختلف الناس في ذلك الفرق ما هو؟
فقيلك معنى فَدَاه أعطى فيه فِدَاء من مال، وفَادَاهُ: أعطى فيه أسيرًا مثله؛ وأنشد: الطويل:
وَلَكِنَّنِي فَادَيْتُ أُمِّيَ بَعْدَمَا ** عَلاَ الرَّأْسَ مِنْهَا كَبْرَةٌ وَمَشِيبُ

وهذا القول يرده قوله العباس رضي الله عنه: فَادَيْتُ نفسي وفاديت عقيلًا، ومعلوم أن لم يُعْط أسيره في مقابلة نفسه ولا وَلَدِهِ.
وقيل: تفدوهم بالصّلح، وتفادوهم بالعنف.
وقيل: تفدوهم تعطوا فديتهم، وتفادوهم تطلبون من أعدائكم فِدْيَةَ الأسير الذي في أيديكم؛ ومنه: الوافر:
قِفِي فَادِي أَسِيرَكِ إنَّ قَوْمِي ** وَقَوْمَكِ مَا أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا

والظاهر أن {تفادوهم} على أصله من أثنين، وذلك أن الأسير يعطى المال والأسير يعطى الإطلاق، وتفدوهم على بابه من غير مُشَاركة، وذلك أن الفريقين يَفدي صاحبه من الآخر بمال أو غيره، فالفعل على الحقيقة من واحد.
والفِدَاء ما يفتدى به، فإذا كسروا فاءه، جاز فيه وجهان:
المدُّ والقَصْر، فمن المَدِّ قول النابغةك البسيط:
مَهْلًا فِدَاءَ لَكَ الأَقْوَامُ كُلُّهُمُ ** وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ

ومن القصر قوله: الطويل:
...... ** فِدَى لَكَ مِنْ رَبٍّ طَرِيفِي وتَالِدِي

ومن العرب من يكسر: فدى مع لام الجر خاصّة، نحو: فِدّى لَكَ أَبي وأمي يريدون الدعاء له بذلك، وفدى يتعدّيان لاثنين أحدهما بنفسه، والآخر بحرف جر، تقول: فديت أو فاديت الأسير بمال، وهومحذوف في الآية الكريمة.
قال ابن عطية: وحَسُنَ لفظ الإتْيَان من حيث هو في مُقابلة الإخراج، فيظهر التَّضادّ المقبح لفعلهم في الإخراج.
يعني: أنه لايناسب من أسأتم إليه بالإخراج من داره أن تحسنوا إليه بالفداء.
قوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ} فيه وجوه.
والظاهر منها: أن يكون {هو} ضمير الشأن والقصّة، فيكون في محلّ رفع بالابتداء، و{محرم} خبر مقدم، وفيه ضمير قائم مقام الفاعل، و{إخراجهم} مبتدأ مؤخر، والجملة من هذه المبتدأ والخبر في محل رفع خبرًا لضمير الشأن، ولم تحْتَجْ هنا إلى عائد على المبتدأ؛ لأن الخبر نفس المبتدأ أو عينه.
وهذه الجملة مفسرة لهذا الضمير، وهو أحد المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده وقد تقدّمت، ولسي لنا من الضَّمائر ما يفسَّر بجلمة غيرُ هذا الضمير، ومن شرطه أن يؤتى به في مَوَاضع التَّعْظيم، وأن يكون معمولًا للابتداء أو نواسخه فقط، وأن يفسر بجملة مصرح بجزيئها، ولا يُتبع بتابع من التَّوَابع الخمسة، ويجوز تذكيره وتأنيثه مطلقًا خلافًا لما فصل، فتذكيره باعتبار الأمر والشأن، وتأنيثه باعتبار القصّة فتقول:
هو زيد قائم، ولا يثنى ولا يجمع، ولا يحذف إلا في مواضع تذكر إن شاء الله تعالى، والكوفيُّون يسمونه ضمير المَجْهُول، وله أحكام كثيرة.
الوجه الثاني: أن يكون {هو} ضمير الشأن أيضًا، و{محرم} خبره، و{إخراجهم} مرفوع على أنه مفعول لَمْ يسمّ فاعله.
وهذا مذهب الكوفيين، وإنما فَرُّوا من الوجه الأول؛ لأن عندهم أن الخبر المحتمل ضميرًا مرفوعًا لا يجوز تقديمه على المبتدأ، فلا يقال: قائم زيد على أن يكون قائم خبرًا مقدمًا، وهذا عند البصريين ممنوع لما عرفته أن ضمير الشأن لا يفسّر إلا بجملة، والاسلا المشتق الرافع لما بعده من قبيل المُفْرَدَات لا الجمل، فلا يفسر به ضمير الشَّأن.
الثَّالث: أن يكون {هو} كناية عن الإخْرَاج، وهو مبتدأ، و{محرم} خبره، و{إخراجهم} بدل منه، وهذا على أحد القولين.
وهو جواز إبدال الظَّاهر من المضمر قبله ليفسره، واستدلّ من أجاز ذلك بقوله: الطويل:
عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ في الْقَوْمِ حَاتِمًا ** عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ

فحَاتم بَدلٌ عن الضمير في جُودِهِ.
الرابع: أن يكون {هو} ضمير الإخراج المَدْلُولَ عليه بقوله: {وَتُخْرِجُونَ} و{مُحَرَّمٌ} خبره، و{إخْرَاجُهُمْ} بدل من الضمير المستتر في {محرم}.
الخامس: كذلك، إلا أن {أخراجهم} بدلٌ من {هو}.
نقل هذين الوجيهن أبو البقاء، وفي هذا الأخير نظر، وذلك أنك إذا جعلت {هو} ضمير الإخراج المدلول عليه بالفعل كان الضمير مفسرًا به نحو: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] فإذا أبدلت منه {إخراجهم} المَلْفُوظَ به كان مَفسّرًا به أيضًا، فيلزم تفسيره بشيئين، إِلاَّ أن يقال: هذان الشيئان في الحقيقة شيء واحد فيُحتمل ذلك.
السادس: أجاز الكوفيون أن يكن {هو} عمادًا، وهو الذي يسميه البصريون ضمير الفَصْل قُدّم مع الخبر، والأصل: وإخراجهم هو محرم عليكم، و{إخراجهم} مبتدأ، و{محرم} خبره، و{هو} عِمَاد، فلما قدم الخبر قدم معه.
قال الفراء: لأن الواو هنا تطلب الاسم، وكل موضع نطلب فيه الاسم فالعماد جائز وهذا عند البصريين ممنوع من وجهين:
أحدهما: أنَّ الفصل عندهم من شرطه أن يقع بين معرفتين أو بين معرفة ونكرة قريبة من المعرفة في امتناع دخول ألأ كأفعل من ومثل وأخواتها.
والثاني: أن الفَصْل عندهم لا يجوز تقديمه مع ما اتصل به.
والسابع: قال ابن عطية: وقيل في {هو}: إنه ضمير الأمر، والتقدير: والأمر محرم عليكم، وإخراجهم في هذا القول بدل من {هو}.
وقال أبو حَيَّان: وهذا خطأ من وجهين:
أحدهما: تفسير ضمير الأمر بمفرده، وذلك لا يجيزه بَصْري ولا كُوفي، أما البصري فلا شتراطه جملة، وأما الكوفي فلابد أن يكون المفرد قد انتظم منه نحو: ظننته قائمًا الزيدان.
والثاني: أنه جعل {إخراجهم} بدلًا من ضمير الأمر، وقد تقدم أَلاَّ يُتْبَع بِتَابعٍ.
الثامن: قال ابن عطيّة أيضًا: وقيل: هو فاصلة، وهذا مذهب الكوفيين، وليست هنا بالتي هي عماد، و{مُحَرّم} على هذا ابتداء، و{إخراجهم} خبر.
قال: أبو حيان والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب، أي: يكون {إخراجهم} متبدأ مؤخرًا، {محرم} خبر مقدم قّدِّم مع الفَصْل كما تقدم، وهو الموافق للقواعد، ولا يلزم منه الإخبار بمعرفة عن نكرة من غير ضرورة تدعو إلى ذلك.
التاسع: نقله ابن عطيّة أيضًا عن بعضهم أن {هو} الضمير المقدر في {محرم} قدم وأَظْهِر.
قال الشيخ: وهذا ضعيف جدًّا؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى انفصال هذا الضمير بعد اسْتِتَارِهِ وتقديره، وأيضًا فإنه يلزم خلوّ اسم المفعول من ضمير؛ إذ على هذا القول يكون {محرم} خبرًا مقدمًا، و{إخراجهم} متبدأ مؤخرًا ولا يوجد اسم فاعل، ولا مفعول خاليًا من الضمير إلاَّ إذا رفع الظَّاهر، ثم يبقى هذا الضمير لا ندري ما إعرابه، إذ لا يجوز مبتدأ، ولا فاعلًا مقدمًا وفي قول الشيخ: يلزم خُلُّوه من ضمير نظر؛ إذ هو ضمير مرفوع به، فلم يخل منه غاية ما في الباب أنه انفصل للتقديم.
وقوله: لا ندري ما إعرابه؟ قد دري، وهو الرفع بالفاعلية.
وقوله: والفاعل لا يقدم ممنوع فإن الكوفي يجيز تقديم الفَاعِلِ، فيحتمل أن يكون هذا القاتل يرى ذلك، ولا شكّ أن هذا قول رديء منكر لا ينبغي أن يجوز مثله في الكلام، فكيف في القرآن! فالشيخ معذور، والعجب من ابن عطية كيف يورد هذه الأشياء حاكيًا لها ولم يُعَقِّبْها بنكير؟
وهذه الجملة يجوز أن تكون محذوفةً من الجمل المذكورة قبلها، وذلك أنه قد تقدم ذكر أربعة أشياء كلها محرمة وهي قوله: تقتلون أنفسكم وتخرجون فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وتظاهرون، وتفادون فيكون التقدير: تقتلون أنفسكم وهو محرّم عليكم قتلها وكذلك مع البواقي.
ويجوز أن يكون خصّ الإخراج بذكر التحريم، وإن كانت كلها حرامًا، لما فيه من معرَّة الجلاء والنّفي الذي لا ينقطع شرّه إلا بالموت والقَتْل، وإن كان أعظمَ منه إلاَّ أن فيه قطعًا للشر، فالإخراج من الدِّيَار أصعب الأربعة بهذا الاعتبار.
والمحرم: الممنوع، فإن التَّحريم هو المَنْع من كذا، والحَرَام: الشَّيء الممنوع منه يقال: حَرَامٌ عليك وسيأتي تحقيقه في الأنبياء إن شاء الله تعالى.
قوله: {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ} ما يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون نافية، و{جزاء} متبدأ، و{إلاَّ خِزْيٌ} خبره وهو استثناء مفرّغ وبَطَلَ علمها عند الحِجَازيين لانتقاض النفي ب {إلاّ}، وفي ذلك خلاف وتفصيل وتلخيصه: أن خبرها الواقع بعد {إلا} جمهور البصريين على وجوب رفعه مطلقًا سواءً كان هو الأول، أمر منزلًا منزلته، أو صفة أو لم يكن، ويأولون قوله: الطويل:
وَمَا الدَّهْرُ إِلاَّ مَنْجَنُونًا بِأَهْلِهِ ** وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إِلاَّ مُعَذَّبَا

على أن الناصب لمنجنونًا ومعذبًا محذوف، أي: يدور دَوَرَان منجنون، ويعذب مُعَذَّبًا تّعْذِيبًا.
وأجاز يونس النصب مطلقًا، وإن كان النَّحَّاس نقل عدم الخلاف في رفع ما زيد إِلاَّ أخوك فإن كان الثَّاني منزلًا منزلة الأوّل نحو: ما أنت إِلاَّ عمامتك تحسينًا وإلاَّ رداءك تزيينًا.
فأجاز الكوفيون نصبه، وإنْ كان صفة نحو ما زيد إلا قائم فأجاز الفراء أيضًا.
والثاني: أن تكون استفهاميةً في محلّ رفع بالابتداء، و{جزاء} خبره، و{إِلاَّ خِزْي} بدل من {جزاء} نقله أبو البَقَاءِ.
والجزاء: المقابلة خَيْرًا كان أو شَرَّا.
و{مَنْ} موصولة، أو نكرة موصوفة، و{يفعل} لا محلّ لها على الأول، ومحلها الجر على الثاني.
{مِنْكُم} في محلّ نصب على الحال من فاعل {يفعل}، فيتعلّق بمحذوف، أي: يفعل ذلك حال كونه منكم.
والخِزْي: الهَوَان والذّل والمَقْت، يقال: أخزاه الله إذا مَقَتَهُ وأبعده، ويقال: خَزِيَ بالكسر يَخْزى خِزْيًا فهو خَزْيَان، وامرأة خَزْيَا، والجمع خَزَايَا.
وقال ابن السِّكِّيت: الخزي الوقوع في بَليَّةٍ، وخَزِيَ الرجل في نفسه يخزى خزايةً إذا استحيا.
وإذا قيل: أخْزَاه الله، كأنه قيل: أوقعه موقعًا يُستحيى منه، فأصله على هذا الاستحياء.
قوله: {فِي الْحَيَاةِ} يجوز فيه وَجْهَان:
أحدهما: أن يكون محلّه النصب على أنه ظرف ل {خِزْي}، فهو منصوب به تقديرًا.
و{الدُّنْيَا} فعلى تأنيث الأدنى من الدَّنو، وهو القُرْب، وألفها للتأنيث، ولا تحذف منها (أل) إلا لضرورة كقوله: الرجز:
يَوْمَ تَرَى النُّفُوسُ مَا أَعَدَّتِ ** في سَعْيِ دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مُدَّتِ

وياؤها عن واو، وهذه قاعدة مطردة، وهي: كل فعلى صفة لامها واو تبدل ياء.
نحو: الدنيا والعُلْيَا.
فأما قولهم: القُصْوَى عند غير تميم، والحُلْوَى عند الجميع فَشَاذٌّ.
فلو كانت فعلى اسمًا صحّت الواو؛ كقوله: الطويل:
أَدَارًا بِحُزْوَى هِجْتِ لِلْعَيْنِ عَبْرَةً ** فَمَا الْهَوَى يَرْفَضُّ أَوْ يَتَرَقْرقُ

وقد استعملت استعمال الأسماء، فلم يذكر موصوفها، قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} [الأنفال: 67] وقال ابن السّراج في المقصور والممدود: والدنيا ؤنّثة مقصورة، تكتب بالألف، هذه لغة نجد وتميم، إلاَّ أن الحجاز، وبني أسد يلحقونها ونظائرَهَا بالمَصَادر ذوات الواو، فيقولون: دَنْوَى مثل شَرْوَى وكذلك يفعلون بكل فعلى موضع لامها واو، ويفتحون أولها، ويقلبون باءها واوًا، وأما أهل اللغة الأولى، فيضمون الدال، ويقلبون من الواو ياء لاستثقالهم الواو مع الضمة.
وقوله: {يُرَدُّونَ} قرئ بالغيبة على المشهور وفيه وجهان.
أحدها: أن يكون التفاتًا، فيكون راجعًا إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ} فخرج من ضمير الخطاب إلى الغيبة.
والثَّاني: أنه لا التفات فيه، بل هو راجع إلى قوله: {مَنْ يَفْعَلْ}.
وقرأ الحسن: {تُرَدُّون} بالخطاب وفيه الوجهان المتقدمان:
فالالتفات نظرًا لقوله: {مَنْ يَفْعَلْ}، وعدم الالتفات نظرًا لقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ}.
وكذلك: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قرئ في المشهور بالغيبة والخطاب والكلام فيهما كما تقدم. اهـ. باختصار.