فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أجيب: بأنّ الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو من بعض عذاب الله؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معًا بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله، وعند هذا حكى الله تعالى عن الذين استكبروا أنهم قالوا: {لو هدانا الله}، أي: الذي له صفات الكمال {لهديناكم}، أي: لو أرشدنا الله تعالى لارشدناكم، ودعوناكم إلى الهدى، ولكنه لم يهدنا، فضللنا وكنتم لنا تبعًا فأضللناكم، ولما كان الموجب لقولهم هذا الجزع قالوا: {سواء علينا}، أي: نحن وأنتم {أجزعنا أم صبرنا}، أي: مستو علينا الجزع والصبر، والجزع أبلغ من الحزن؛ لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه {ما لنا من محيص}، أي: منجى ومهرب مما نحن فيه من العقاب.
تنبيه:
يحتمل أن يكون هذا من كلام المتبوعين، وأن يكون كلام الفريقين، ويؤيد الثاني ما روي أنهم يقولون في النار: تعالوا نجزع فيجزعون خمسمئة عام فلا ينفعهم الجزع، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون خمسمئة عام فلا ينفعهم الصبر، فعند ذلك يقولون ذلك. وقال محمد بن كعب القرظي: بلغني أنّ أهل النار استغاثوا بالخزنة كما قال الله تعالى: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يومًا من العذاب}.
فردّت الخزنة عليهم: {أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى}.
فردّت الخزنة عليهم: {ادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}.
فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا: {يا مالك ليقض علينا ربك}.
سألوا الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ثلاثمائة وستون يومًا واليوم {كألف سنة مما تعدون}.
ثم يجيبهم بقوله: {إنكم ما كثون}. فلما أيسوا مما عنده، قال بعضهم لبعض ذلك. ولما ذكر تعالى المناظرة التي وقعت بين الرؤوساء والأتباع من كفرة الإنس أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وبين أتباعه بقوله تعالى: {وقال الشيطان} الذي هو أوّل المتبوعين في الضلال ورأس المضلين والمستكبرين {لما قضي الأمر}، أي: أحكم وفرغ منه، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه وتوبيخه، فيقوم فيهم خطيبًا. قال مقاتل: يوضع له منبر من نار، فيجتمع أهل النار إليه يلومونه، فيقول لهم ما أخبر الله تعالى بقوله: {إنّ الله وعدكم وعد الحق}، أي: بالبعث والجزاء على الأعمال فصدقكم {ووعدتكم} أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب {فأخلفتكم}، أي: الوعد، فلم أقل شيئًا إلا كان زيفًا، فاتبعتموني مع كوني عدوّكم، وتركتم ربكم وهو وليكم.
تنبيه:
في الآية إضمار من وجهين: الأوّل: أنّ التقدير: إنّ الله وعدكم الحق فصدقكم كما تقدّم تقريره، ووعدتكم فأخلفتكم، وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد لأنهم كانوا يشاهدونها، وليس وراء العيان بيان؛ ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف، فدل ذلك على الصدق في وعد الله تعالى.
الثاني: أنّ قوله: {ووعدتكم فأخلفتكم} الوعد يقتضي مفعولًا ثانيًا، وحذف هذا للعلم به، والتقدير: ووعدتكم أن لا جنة ولا نار، ولا حشر ولا حساب كما تقرّر، ولما بين غروره بين سهولة اغترارهم زيادة في تنديمهم فقال: {وما كان لي عليكم من سلطان}، أي: سلطان، فمن مزيدة، أي: قوّة وقدرة أقهركم على الكفر والمعاصي، وألجئكم على متابعتي وقوله: {إلا أن دعوتكم} استثناء منقطع، قال النحويون: لأنّ الدعاء ليس من جنس السلطان، فمعناه: لكن دعوتكم {فاستجبتم لي} محكمين الشهوات؛ لأنّ النفس تدعو إلى هذه الأحوال الدنيوية، ولا يتصور كيفية السعادات الأخروية والكمالات النفسانية والله يدعو إليها يرغب فيها كما قال: {والآخرة خير وأبقى}.
قال الرازي: وعندي أنه يمكن أن يقال كلمة إلا هاهنا استثناء حقيقي، لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة تكون بالقهر والقسر، وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه، فهذا نوع من أنواع التسليط اهـ. ثم قال لهم: {فلا تلوموني}، أي: لأنه ما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة {ولوموا أنفسكم}؛ لأنكم سمعتم دلائل الله تعالى وجاءتكم الرسل، فكان من الواجب عليكم أن لا تلتفتوا إليّ، ولا تسمعوا قولي، فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم بكم أولى بإجابتي ومتابعتي من غير حجة ولا دليل.
فإن قيل: لم قال الشيطان: {فلا تلوموني} وهو ملوم بسبب إقدامه على تلك الحالة والوسوسة الباطلة؟
أجيب: بأنه أراد لا تلوموني على فعلكم ولوموا أنفسكم عليه؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله تعالى لكم. ثم قال تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال: {ما أنا بمصرخكم}، أي: بمغيثكم فيما يخصكم من العذاب، فأزيل صراخكم منه. {وما أنتم بمصرخي}، أي: بمغيثيّ فيما يخصني منه. وقرأ ما عدا حمزة بفتح الياء مع التشديد، وقرأ حمزة بكسر الياء مع التشديد على الأصل في إلتقاء الساكنين؛ لأنّ ياء الإعراب ساكنة، وياء المتكلم أصلها السكون، فلما التقيا كسرت لالتقاء الساكنين.
قال البيضاوي: وهو أصل مرفوض في مثله لما فيه من اجتماع ياءين وثلاث كسرات مع حركة ياء الإضافة اهـ. فقوله: أصل مرفوض، أي: متروك عند النحاة، وإلا فهو قراءة متواترة عند القراء، فيجب المصير إليها؛ لأنها وردت من رب العالمين على لسان سيد المرسلين.
وقول الفراء: ولعلها من وهم القراء، فإنه قلّ من سلم منهم من الوهم ممنوع، فقد قال أبو حيان: هي قراءة متواترة نقلها السلف، واقتفى آثارهم فيها الخلف، فلا يجوز أن يقال فيها: إنها خطأ أو قبيحة أو رديئة، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنها لغة لكن قلّ استعمالها، ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع، ونص على أنها صواب أبو عمرو بن العلاء، لما سئل عنها، والقاسم بن معن من روؤساء الكوفيين. قال الله تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال: {إني كفرت بما أشركتموني من قبل}، أي: كفرت اليوم باشراككم إياي من قبل هذا اليوم، أي: في الدنيا كقوله تعالى: {ويوم القيامة يكفرون بشرككم}.
ومعنى كفره بإشراكهم إياه تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله تعالى: {إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم}.
وروى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة «يقول: عيسى ذلك النبيّ الأمّي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني، ويجعل فيّ نورًا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكفار قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون: ما هو غير الشيطان هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم قم أنت فاشفع لنا فإنك أضللتنا، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد، ثم يعظم لهبهم ويقول عند ذلك: {إن الله وعدكم وعد الحق} الآية».
قال في الكشاف: وقوله: {إن الظالمين}، أي: الكافرين {لهم عذاب أليم}، أي: مؤلم من كلام الله تعالى، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس، وإنما حكى الله تعالى ما سيقوله في ذلك الوقت؛ ليكون لطفًا للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لابد لهم من الوصول إليه، وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم. ولما بالغ سبحانه وتعالى في شرح حال الأشقياء من الوجوه الكثيرة شرح أحوال السعداء، وما أعد لهم من الثواب العظيم والأجر الجزيل، وذلك أنّ الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فالمنفعة الخالصة إليها الإشارة بقوله تعالى: {وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار} وكونها دائمة أشير إليها بقوله تعالى: {خالدين فيها} وهو حال مقدرة، والتعظيم حصل لهم من وجهين: أحدهما: قوله تعالى: {بإذن ربهم}؛ لأنّ تلك المنافع إنما كانت تفضلًا من الله تعالى وإنعامًا. والثاني: قوله تعالى: {تحيتهم فيها سلام}؛ لأنّ بعضهم يحيى بعضًا بهذه الكلمة والملائكة يحيونهم بها كما قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم}.
والرب يحييهم أيضًا بهذه التحية كما قال تعالى: {سلام قولًا من رب رحيم}.
ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما دخلوا الجنة سلموا من جميع آفات الدنيا وحسراتها وفنون آلامها وأسقامها وأنواع همومها وغمومها؛ لأنّ السلام مشتق من السلامة. ولما شرح سبحانه تعالى أحوال الأشقياء، وأحوال السعداء ذكر مثلًا يبين الحال في حكم هذين القسمين بقوله تعالى: {ألم تر}، أي: تنظر، والخطاب يحتمل أن يكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم ويدخل معه غيره، وأن يكون لكل فرد من الناس، أي: ألم تر أيها الإنسان {كيف ضرب الله}، أي: المحيط بكل شيء علمًا وقدرة {مثلًا} سيره بحيث يعم نفعه، والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأوّل، ثم بينه بقوله تعالى: {كلمة طيبة} قال ابن عباس وأكثر المفسرين: هي لا إله إلا الله. {كشجرة طيبة} قال ابن مسعود وأنس: هي النخلة. وعن ابن عباس: هي شجرة في الجنة. وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «إنّ الله تعالى ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي؟ قال عبد الله: فوقع الناس في شجر البوادي وكنت صبيًا فوقع في قلبي أنها النخلة، فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقولها وأنا صغير القوم». وروي: فمنعني مكان عمر فاستحييت فقال له عمر: يا بنيّ لو كنت قلتها لكانت أحب إليّ من حمر النعم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنها النخلة». قيل: الحكمة في تشبيه الإنسان بالنخلة من بين سائر الأشجار أنّ النخلة أشبه به من حيث إنها إذا قطع رأسها يبست وسائر الأشجار يتشعب من جوانبها بعد قطع رأسها، وأنها تشبه الإنسان بحيث أنها لا تحمل إلا باللقاح؛ لأنها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «أكرموا عمتكم قيل: ومن عمتنا؟ قال: النخلة». {أصلها ثابت}، أي: في الأرض {وفرعها}، أي: غصنها {في السماء}، أي: في جهة العلو والصعود ولم يرد المظلة كقولك في الجبل: طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه. {تؤتي}، أي: تعطي. {أكلها}، أي: ثمرها.
{كل حين بإذن ربها}، أي: بإرادته، والحين في اللغة الوقت يطلق على القليل والكثير، واختلفوا في مقدار هذا، فقال مجاهد: الحين هنا سنة كاملة؛ لأنّ النخلة تثمر في كل سنة مرّة. وقال قتادة: ستة أشهر يعني من حين طلعها إلى وقت صرامها. وقال الربيع: كل حين يعني كل غدوة وعشية؛ لأنّ ثمر النخل يؤكل ليلًا ونهارًا وصيفًا وشتاء، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والخلال والبسر والمنصف والرطب، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب، فأكلها دائم في كل وقت.
قال العلماء: ووجه الحكمة في تمثيل كلمة الإخلاص بالشجرة؛ لأنّ الإيمان ثابت في قلب المؤمن كثبوت أصل هذه الشجرة في الأرض، وعمله يصعد إلى السماء كما قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}.
فكذلك فرع هذه عال في السماء، وتنال بركته وثوابه كل وقت، والمؤمن كلما قال: لا إله إلا الله، صعدت إلى السماء، وجاءه بركتها وخيرها وثوابها ومنفعتها؛ ولأنّ الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء عرق راسخ وأصل قائم، وفرع عال، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء تصديق القلب، وقول اللسان، وعمل الأبدان، ثم نبه تعالى على عظم هذا المثل ليقبل على تدبره ليعلم المراد منه فيلزم فقال: {ويضرب الله}، أي: الذي له الإحاطة الكاملة {الأمثال للناس لعلهم يتذكرون}، أي: يتعظون، فإنّ في ضرب الأمثال زيادة إفهام، وتذكير وتصوير للمعاني العقلية، فيحصل الفهم التامّ والوصول إلى المطلوب. ولما ذكر مثل حال السعداء أتبعه بمثل حال الأعداء فقال: {ومثل كلمة خبيثة} هي كلمة الكفر {كشجرة خبيثة} هي الحنظل وقيل: الثوم، وقيل: الكشوث بمثلثة في آخره. قال الجوهري: نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض قال الشاعر:
هي الكشوث لا أصل ولا ورق ** ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر

وقيل شجرة الشوك {اجتثت}، أي: استؤصلت {من فوق الأرض}، أي: عروقها قريبة منه {ما لها من قرار}، أي: أصل ولا عرق، فكذلك الكفر بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوّة. وعن عبادة أنه قيل لبعض العلماء: ما تقول في {كلمة خبيثة}؟ فقال: ما أعلم لها في الأرض مستقرًا ولا في السماء مصعدًا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها يوم القيامة. ولما وصف الله سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة في الآية المتقدّمة أخبر بقوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} أنه تعالى يثبتهم بها {في الحياة الدنيا}، أي: في القبر، وقيل: قبل الموت {وفي الآخرة}، أي: يوم القيامة عند البعث والحساب، وقيل: في القبر على القول الثاني. ولما وصف الكلمة الخبيثة في الآية المتقدّمة أخبر بقوله تعالى: {ويضلّ الله الظالمين}، أي: الكفار أنه تعالى لا يهديهم للجواب الصواب {ويفعل الله ما يشاء}، أي: إن شاء هدى، وإن شاء أضلّ لا اعتراض عليه. وروي عن البراء بن عازب انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله فذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت}». وروي عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ العبد إذا وضع في القبر وتولى عنه أصحابه يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وسلم فأمّا المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيراهما جميعًا» قال قتادة: ذكر لنا أنه يفسح له في قبره ثم رجع إلى حديث أنس. قال: «وأمّا المنافق أو الكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه. فيقال: ما دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين». وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شهدنا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغنا من دفنها وانصرف الناس قال: «إنه الآن يسمع خفق نعالكم أتاه منكر ونكير أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي البقر، وأصواتهما مثل الرعد فيجلسانه فيسألانه ما كان يعبد ومن نبيه؟ فإن كان ممن يعبد الله تعالى قال: كنت أعبد الله ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه فذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} فيقال له: على اليقين حييت وعليه مت وعليه تبعث، ثم يفتح له باب إلى الجنة ويوسع له في حفرته، وإن كان من أهل الشك قال: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته فيقال له: على الشك حييت وعليه مت وعليه تبعث، ثم يفتح له باب إلى النار ويسلط عليه عقارب وتنانين لو نفخ أحدهم في الدنيا ما أنبتت شيئًا، فتنهشه وتؤمر الأرض فتنضم عليه حتى تختلف أضلاعه». فنسأل الله الثبات لنا ولوالدينا ولأحبابنا في الدنيا والآخرة إنه كريم جواد. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}.
{ألف لام را كتاب أنزلناه إليك}..
هذا الكتاب المؤلف من جنس هذه الأحرف كتاب أنزلناه إليك. لم تنشئه أنت. أنزلناه إليك لغاية: {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور}..
لتخرج هذه البشرية من الظلمات. ظلمات الوهم والخرافة. وظلمات الأوضاع والتقاليد. وظلمات الحيرة في تيه الأرباب المتفرقة، وفي اضطراب التصورات والقيم والموازين.. لتخرج البشرية من هذه الظلمات كلها إلى النور. النور الذي يكشف هذه الظلمات. يكشفها في عالم الضمير وفي دنيا التفكير. ثم يكشفها في واقع الحياة والقيم والأوضاع والتقاليد.
والإيمان بالله نور يشرق في القلب، فيشرق به هذا الكيان البشري، المركب من الطينة الغليظة ومن نفخة روح الله. فإذا ماخلا من إشراق هذه النفخة، وإذا ما طمست فيه هذه الإشراقة استحال طينة معتمة. طينة من لحم ودم كالبهيمة، فاللحم والدم وحدهما من جنس طينة الأرض ومادتها. لولا تلك الإشراقة التي تنتفض فيه من روح الله، يرقرقها الإيمان ويجلوها، ويطلقها تشف في هذا الكيان المعتم، ويشف بها هذا الكيان المعتم.