فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن عطية: ومن أخبر بهذه الجملة وتقررت في نفسه آمن وصلى وأنفق انتهى.
يشير إلى ما تقدم من قوله: إنّ معمول قل هو قوله تعالى: {الله الذي خلق السموات والأرض} الآية.
فكأنه يقول: يقيموا الصلاة، جواب لقوله: {قل لعبادي} {الله الذي خلق السموات والأرض}.
والظاهر أن مفعول أخرج هو رزقًا لكم، ومِنْ للتبعيض.
ولما تقدّم على النكرة كان في موضع الحال، ويكون المعنى: إن الرزق هو بعض جنى الأشجار، ويخرج منها ما ليس برزق كالمجرد للمضرات.
ويجوز أن تكون مِن لبيان الجنس قاله ابن عطية والزمخشري، وكأنه قال: فأخرج به رزقًا لكم هو الثمرات.
وهذا ليس بجيد، لأنّ من التي لبيان الجنس إنما تأتي بعد المبهم الذي تبينه.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج، ورزقًا حالًا من المفعول، أو نصبًا على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق.
وقيل: من زائدة، وهذا لا يجوز عند جمهور البصريين، لأنّ ما قبلها واجب، وبعدها معرفة، ويجوز عند الأخفش.
والفلك هنا جمع فلك، ولذلك قال: لتجري.
ومعنى بأمره: راجع إلى الأمر القائم بالذات.
وقال الزمخشري: لقوله، كن.
وانطوى في تسخير الفلك تسخير البحار، وتسخير الرياح.
وأما تسخير الأنهار فبجريانها وبتفجيرها للانتفاع بها.
وانتصب دائبين على الحال والمعنى: يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات، عن مقاتل بن حبان يرفعه إلى ابن عباس أنه قال: معناه دائبين في طاعة الله.
قال ابن عطية: وهذا قول إن كان يراد به أنّ الطاعة انقياد منهما في التسخير، فذلك موجود في قوله: سخر، وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العبادة من البشر فهذا جيد، والله أعلم انتهى.
وتسخير الليل والنهار كونهما يتعاقبان خلفةً للمنام والمعاش.
وقال المتكلمون: تسخير الليل والنهار مجاز، لأنّهما عرضان، والاعراض لا تسخر.
ولما ذكر تعالى تلك النعم العظيمة، ذكر أنه لم يقتصر عليها فقال: وآتاكم من كل ما سألتموه، والخطاب للجنس من البشر أي: أن الإنسان قد أوتي من كل ما شأن أنْ يسأل وينتفع به، ولا يطرد هذا في كل واحد واحد من الناس، وإنما تفرقت هذه النعم في البشر فيقال: بحسب هذا الجميع أوتيتم كذا على جهة التقرير للنعمة.
وقرأ ابن عباس، والضحاك، والحسن، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وعمرو بن قائد، وقتادة، وسلام، ويعقوب، ونافع في رواية: من كل بالتنوين، أي: من كل هذه المخلوقات المذكورات.
وما موصولة مفعول ثان أي: ما شأنه أن يسأل بمعنى يطلب الانتفاع به.
وقيل: ما نافية، والمفعول الثاني هو من كل كقوله: {وأوتيت من كل شيء} أي غير سائليه.
أخبر بسبوغ نعمته عليهم بما لم يسألوه من النعم، ولم يعرض لما سألوه.
والجملة المنفية في موضع نصب على الحال، وهذا القول بدأ به الزمخشري، وثنى به ابن عطية وقال: إنه تفسير الضحاك.
وهذا التفسير يظهر أنه مناف لقراءة الجمهور من كل ما سألتموه بالإضافة، لأنّ في تلك القراءة على ذلك التخريج تكون ما نافية، فيكونون لم يسألوه.
وفي هذه القراءة يكونون قد سألوه، وما بمعنى الذي.
وأجيز أن تكون مصدرية، ويكون المصدر بمعنى المفعول.
ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة وبين تلك على تقدير أنّ ما نافية قال: ويجوز أن تكون ما موصولة على وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلح أحوالكم ومعائشكم إلا به، فكأنكم سألتموه، أو طلبتموه بلسان الحال. فتأول سألتموه بقوله: ما احتجتم إليه. والضمير في سألتموه إن كانت ما مصدرية عائد على الله تعالى، ويكون المصدر يراد به المسؤول. وإن كانت موصولة بمعنى الذي عاد عليها، والتقدير: من كل الذي سألتموه إياه. ولا يجوز أن يكون عائدًا على الله. والرابط للصلة بالموصول محذوف، لأنك إن قدرته متصلًا فيكون التقدير: ما سألتموهوه، فلا يجوز. أو منفصلًا فيكون التقدير: ما سألتموه إياه، فالمنفصل لا يجوز حذفه. والنعمة هنا قال الواحدي: اسم أقيم مقام المصدر، يقال: أنعم إنعامًا ونعمة، أقيم الاسم مقام الانعام كقولك: أنفقت إنفاقًا ونفقة، ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر انتهى.
والذي يظهر أن النعمة هو المنعم به، وأنه هو اسم جنس لا يراد به الواحد بل يراد به الجمع، كأنه قيل: وإن تعدوا نعمة الله ومعنى لا تحصوها، لا تحصوها، لا تحصروها ولا تطيقوا عدها، هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال. وأما التفصيل فلا يقدر عليه، ولا يعلمه إلا الله. وقال أبو الدرداء: من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه، وحضر عذابه. والمراد بالإنسان هنا الجنس أي: توجد فيه هذه الخلال وهي: الظلم، والكفر، يظلم النعمة بإغفال شكرها، ويكفرها بجحدها. وقيل: ظلوم في الشدة فيشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع. وفي النحل: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم} والفرق بين الختمين: أنه هنا تقدم قوله: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرًا} وبعده: {وجعلوا لله أندادًا}، فكان ذلك نصًا على ما فعلوا من القبائح من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك، بجعل الأنداد ناسب أن يحتم بذم من وقع ذلك منه، فجاء إن الإنسان لظلوم كفار. وأما في النحل فلما ذكر عدة تفضلات، وأطنب فيها، وقال: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} أي: من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ولا على شيء منه، ذكر من تفضلاته اتصافه بالعذاب والرحمة تحريضًا على الرجوع إليه، وأن هاتين الصفتين هو متصف بهما، كما هو متصف بالخلق، ففي ذلك إطماع لمن آمن به. وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق أنه يغفر زلَله السابق ويرحمه، وأيضًا فإنه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان، ذكر ما حصل من المنعم، ومن جنس المنعم عليه، فحصل من المنعم ما يناسبه حالة عطائه وهو الغفران والرحمة، إذ لولاهما لما أنعم عليه. وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسبه حالة الإنعام عليه، وهو الظلم والكفران، فكأنه قيل: إن صدر من الإنسان ظلم فالله غفور، أو كفران نعمة فالله رحيم، لعلمه يعجز الإنسان وقصوره. ودعوى أن هذه الآية منسوخة بآية النحل لا يلتفت إليها، ونقل ذلك السخاوي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. اهـ.

.قال الثعالبي:

قوله سبحانه: {الله الذي خَلَقَ السموات والأرض وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ}.
هذه الآيةُ تذكيرٌ بآلائه سُبْحانه، وتنبيهٌ على قدرته التي فيها إِحْسَان إِلى البَشَر؛ لتقوم الحُجَّة عليهم، وقوله: {بِأَمْرِهِ}: مصدر أَمَرَ يَأْمُرُ، وهذا راجعٌ إِلى الكلامِ القديمِ القائِمِ بالذاتِ، و{دَائِبَيْنِ}: معناه: متمادِيَيْنِ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لصاحب الجَمَلِ الذي بَكَى وأَجْهَش إِليه: «إِنَّ هَذَا الجمَلَ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبَه»، أي: تديمه في الخِدْمَة والعَمَل، وظاهرُ الآية أنَّ معناه: دائبَيْن في الطلوع والغروبِ وما بينهما من المَنَافِعِ للناسِ التي لا تحصَى كثرةً، وعن ابن عباس أَنَّه قال: معناه: دائِبَيْنِ في طاعة اللَّه، وقوله سبحانه: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} المعنى: أنَّ جنس الإِنسان بجملته قد أوتي من كلِّ ما شأنه أنْ يسأل وينتفع به، وقرأ ابن عباس وغيره: {مِنْ كُلٍّ مَّا سَأَلْتُمُوهُ}- بتنوين كُلٍّ-، وروِيت عن نافع، وقوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا}، أي: لكثرتها وعِظَمها في الحَوَاس والقُوَى، والإِيجادِ بعد العَدَمِ والهدايةِ للإِيمان وغيرِ ذلك، وقال طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: إِنَّ حقَّ اللَّه تعالى: أَثْقَلُ من أَنْ يَقُومَ به العُبَّادُ، ونِعْمَهُ أَكثر مِنْ أَنْ يحصيها العبَادُ، ولكنْ أصْبِحُوا توَّابين، وأمْسُوا تَوَّابِين.
* ت *: وَمِنْ الكَلِمِ الفارقيَّة: أيها الحَرِيصُ على نيلِ عَاجِلِ حظِّه ومراده؛ الغافلُ عن الاستعداد لمعاده تنبَّه لعظمة مَنْ وجودُكَ بإِيجادِهِ؛ وبقاؤك بإِرْفاده؛ ودوامك بإِمداده، وأنْتَ طفلٌ في حَجْر لُطْفه؛ ومهد عَطْفه؛ وحضانة حفظه، يغذِّك بلِبَانِ بِرِّهِ؛ ويقلِّبك بأيدي أياديه وفضله؛ وأنتَ غافلٌ عن تعظيم أمره؛ جاهلٌ بما أولاَكَ من لَطِيف سِرِّه؛ وفضَّلك به على كثيرٍ من خَلْقه، واذكر عهد الإِيجاد، ودوام الإِمْدَاد والإِرفاد؛ وحالَتَيِ الإِصْدَار والإِيراد؛ وفاتحة المبدأ وخاتمةَ المَعَاد. انتهى.
وقوله سبحانه: {إِنَّ الإنسان}: يُريدُ به النوَعَ والجنْسَ، المعنَى: توجَدُ فيه هذه الخِلاَلُ، وهي الظُّلْم والكُفْر، فإِن كانَتْ هذه الخِلاَلُ من جاحِدٍ، فهي بصفةٍ، وإِن كانَتْ من عاصٍ فهي بصفةٍ أُخرَى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}.
{الله} مبتدأٌ خبرُه {الذى خَلَقَ السموات} وما فيها من الأجرام العلوية {والأرض} وما فيها من أنواع المخلوقاتِ. لمّا ذكر أحوالَ الكافرين لنعم الله تعالى وأمرَ المؤمنين بإقامة مراسم الطاعةِ شكرًا لنعمه شرَع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنامِ، والمثابرةِ على الشكر والطاعة من النعم العِظام والمنن الجِسام حثًا للمؤمنين عليها وتقريعًا للكفرة المُخلّين بها الواضعين موضعَها الكفرَ والمعاصيَ، وفي جعل المبتدإ الاسمَ الجليلَ والخبرَ الاسمَ الموصولَ بتلك الأفاعيلِ العظيمة من خلق هذه الأجرامِ العظام وإنزال الأمطارِ وإخراجِ الثمرات وما يتلوها من الآثار العجيبةِ ما لا يخفى من تربية المهابةِ والدِلالة على قوة السلطان {وَأَنزَلَ مِنَ السماء} أي السحابِ فإن كلَّ ما علاك سماءٌ، أو من الفَلَك فإن المطر منه يبتدىء إلى السحاب ومنه إلى الأرضِ على ما دلت عليه ظواهرُ النصوص أو من أسباب سماويةٍ تثير الأجزاءَ الرطبةَ من أعماق الأرض إلى الجو فينعقد سحابًا ماطرًا، وأيًا ما كان فمن ابتدائيةٌ {مَاء} أي نوعًا منه هو المطرُ، وتقديمُ المجرورِ على المنصوب إما باعتبار كونِه مبدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك: أعطاه السلطانُ من خزانته مالًا، أو لما مرّ مرارًا من التشويق إلى المؤخّر {فَأَخْرَجَ بِهِ} بذلك الماء {مِنَ الثمرات} الفائتة للحصر، إما لأن صيغَ الجموعِ يتعاور بعضُها موضعَ بعض، وإما لأنه أريد بمفردها جماعةُ الثمرة التي في قولك: أدركت ثمرةُ بستانِ فلان {رِزْقًا لَّكُمْ} تعيشون به وهو بمعنى المرزوق شاملٌ للمطعوم والملبوس مفعولٌ لأخرج ومن للتبيين كقولك: أنفقت من الدراهم ألفًا، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعولًا ورزقًا حالًا منه، أو مصدرًا من أخرج بمعنى رزَق، أو للتبعيض بدليل قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} كأنه قيل: أنزل من السماء بعضَ الماء فأخرج به بعضَ الثمرات ليكون بعضَ رزقكم إذ لم ينزل من السماء كلُّ الماء ولا أخرج بالمطر كلَّ الثمار ولا جعل كلَّ الرزق ثمرًا، وخروجُ الثمرات وإن كان بمشيئته عز وجل وقدرتِه لكن جرت عادتُه تعالى بإفاضة صورِها وكيفياتها على المواد الممتزجةِ من الماء والتراب وأودع في الماء قوةً فاعلةً وفي الأرض قوةً قابلةً يتولد من اجتماعهما أنواعُ الثمار، وهو قادرٌ على إيجاد الأشياء بلا أسباب ولا موادَّ كما أبدع نفوسَ الأسباب كذلك لما أن له تعالى في إنشائها مدرّجًا من طَور إلى طور صنائعَ وحِكمًا يجدّد فيها لأولي الأبصار عِبَرًا وسكونًا إلى عظيم قدرتِه ليس ذلك في إبداعها دفعةً، وقوله: لكم، صفةٌ لقوله: رزقًا، إن أريد به المرزوقُ، ومفعولٌ به إن أريد به المصدرُ كأنه قيل: رزقاٍ إياكم. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك} بأن أقدركم على صنعتها واستعمالِها بما ألهمكم كيفيةَ ذلك {لِتَجْرِىَ في البحر} جريًا تابعًا لإرادتكم {بِأَمْرِهِ} بمشيئته التي نيط بها كلُّ شيء، وتخصيصُه بالذكر للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الأعمالِ واستعمالِ الآلاتِ كما يتراءى من ظاهر الحال {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} إن أريد بها المياهُ العظيمة الجاريةُ في الأنهار العظامِ كما يومىء إليه ذكرُها عند البحر فتسخيرُها جعلُها مُعدّةً لانتفاع الناس حيث يتخذون منها جداولَ يسقوُن منها زروعَهم وجِنانَهم وما أشبه ذلك، وإن أريد بها نفسُ الأنهار فتسخيرُها تيسيرُها لهم.
{وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ}.
يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالةً وخلافةً وإصلاحِهما لما نيط بهما صلاحُه من المكوّنات {وَسَخَّر لَكُمُ الليل والنهار} يتعاقبان خِلْفةً لمنامكم ومعاشِكم ولعقد الثمار وإنضاجِها، ذكر سبحانه وتعالى أنواعَ النعم الفائضةِ عليهم وأبرز كلَّ واحدة منها في جملة مستقلةٍ تنويهًا لشأنها وتنبيهًا على رفعة مكانِها وتنصيصًا على كون كل منها نعمةً جليلةً مستوجبةً للشكر، وفي التعبير عن التصريف المتعلّق بما ذُكر من الفلك والأنهارِ والشمسِ والقمر والليل والنهار بالتسخير من الإشعار بما فيها من صعوبة المأخذ وعزةِ المنال والدِلالة على عِظَم السلطان وشدّة المِحال ما لا يخفى، وتأخيرُ تسخيرِ الشمس والقمرِ عن تسخير ما تقدمه من الأمور المعدودةِ مع ما بينه وبين خلقِ السموات من المناسبة الظاهرةِ لاستتباع ذكرِها لذكر الأرض المستدعي لذكر إنزالِ الماءِ منها إليها الموجبِ لذكر إخراجِ الرزقِ الذي من جملته ما يحصُل بواسطة الفَلَك والأنهار أو للتفادي عن توهم كون الكل أعني خلقَ السمواتِ والأرض وتسخيرَ الشمس والقمر نعمةً واحدةً كما مر في سورة البقرة.
{وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أي أعطاكم بعضَ جميع ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئتُه التابعةُ للحكمة والمصلحة كقوله سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} أو آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ونيط به انتظامُ أحوالِكم على الوجه المقدّرِ فكأنكم سألتموه، أو كلَّ ما طلبتموه بلسان الاستعدادِ أو كلَّ ما سألتموه، على أن من للبيان وكلمةُ كل للتكثير، كقولك: فلان يعلم كلَّ شيء وأتاه كلُّ الناس وعليه قوله عز وجل: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء} وقيل: الأصلُ وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه فحُذف الثاني لِدلالة ما أُبقيَ على ما أُلقيَ، وقرئ بتنوين {كلِّ} على أن ما نافيه ومحل سألتموه النصبُ على الحالية أي آتاكم من كلَ غيرَ سائليه.
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله} التي أنعم بها عليكم {لاَ تُحْصُوهَا} لا تُطيقوا بحصرها ولو إجمالًا فإنها غيرُ متناهيةٍ، وأصل الإحصاءِ أن الحاسبَ إذا بلغ عَقدًا معينًا من عقود الأعدادِ وضع حصاةً ليحفظ بها، إيذانٌ بعدم بلوغِ مرتبةٍ معتدَ بها من مراتبها فضلًا عن بلوغ غايتِها، كيف لا وما من فرد من أفراد الناسِ وإن كان في أقصى مراتبِ الفقرِ والإفلاس مَمنوًّا بأصناف العنايا مبتلىً بأنواع الرزايا فهو بحيث لو تأملتَه ألفيتَه متقلّبًا في نِعمَ لا تحدّ ومننٍ لا تحصى ولا تعدّ كأنه قد أعطيَ كلَّ ساعة وآنٍ من النعماء ما حواه حِيطةُ الإمكان، وإن كنت في ريب من ذلك فقدِّرْ أنه ملَك مِلكٌ أقطارَ العالم، ودانت له كافةُ الأمم، وأذعنت لطاعته السَّراةُ، وخضعت لهيبته رُقابُ العُتاة، وفاز بكل مرام، ونال كل منالٍ، وحاز جميع ما في الدنيا من أصناف الأموالِ من غير نِدّ يزاحمه، ولا شريك يساهمُه، بل قدِّرْ أن جميع ما فيها من حجر ومدَرٍ يواقيتُ غاليةٌ ونفائسُ دُررٍ، ثم قدِّر أنه قد وقع مِنْ فقْد مشروبٍ أو مطعوم في حالة بلغت نفسُه الحلقومَ، فهل يشتري وهو في تلك الحال بجميع مالِه من الملك والمال لُقمةً تنجّيه عن رِواه، أو شربةً ترويه من ظَماه، أم يختار الهلاك فتذهبَ الأموالُ والأملاك بغير بذل يبقى عليه ولا نفعٍ يعود إليه؟ كلا، بل يبذُل لذلك كلَّ ما تحويه اليدان كائنًا ما كان وليس في صفقته شائبةُ الخُسران، فإذن تلك اللقمةُ والشَّرْبةُ خيرٌ مما في الدنيا بألف رتبةٍ مع أنهما في طرف الثمام ينالهما متى شاء من الليالي والأيام، أو قدّر أنه قد احتبس عليه النفَسُ فلا دخلَ منه ما خرَج ولا خرَج منه ما ولَج، والحينُ قد حان وأتاه الموتُ من كل مكان أما يعطي ذلك كلَّه بمقابلة نفس واحد بل يعطيه وهو لرأيه حامدٌ، فإذن هو خير من أموال الدنيا بجملتها ومطالبها برُمّتها مع أنه قد أبيح له كل آنٍ من آنات الليالي والأيام حالَ اليقظة والمنام هذا من الظهور والجلاء بحيث لا يكاد يخفى على أحد من العقلاء، وإن رمت العثورَ على حقيقة الحقِّ والوقوفَ على كل ما جل من السرِّ ودق فاعلم أن الإنسانَ بمقتضى حقيقتِه الممكنةِ بمعزل عن استحقاق الوجودِ وما يتبعه من الكمالات اللائقةِ والملكاتِ الرائقةِ بحيث لو انقطع ما بينه وبين العنايةِ الإلهية من العلاقة لما استقر له القَرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم والبوار، ومهاوي الهلاك والدمار لكن يَفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدّس في كل زمان يمضي وكل آن يمرّ وينقضي من أنواع الفيوضِ المتعلقة بذاته ووجودِه وسائرِ صفاتِه الروحانيةِ والنفسانية والجُسمانية ما لا يحيط به نطاقُ التعبير ولا يعلمه إلا العليم الخبير، وتوضيحه أنه كما لا يستحق الوجودَ ابتداءً لا يستحقه بقاءً وإنما ذلك من جانب المبدأ الأول عز وجل، فكما لا يتصور وجودُه ابتداءً ما لم ينسدَّ عليه جميع أنحاءِ عدمِه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققِه بعلّته ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمه الطارىء لأن الاستمرار والدوامَ من خصائص الوجود الواجبي.
وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجودُه من الأمور الوجودية التي هي عللُه وشرائطُه وإن وجب كونُها متناهيةً لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدميةَ التي لها دخلٌ في وجوده ليست كذلك إذ لا استحالةَ في أن يكون لشيء واحد موانعُ غيرُ متناهية، وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود فارتفاعُ تلك الموانع التي لا تتناهى أعني بقاءَها على العدم مع إمكان وجودِها في أنفسها في كل آن من آنات وجودِه نعمٌ غيرُ متناهية حقيقة لا ادعاءً وكذا الحال في وجودات علله وشرائطِه القريبة والبعيدة ابتداءً وبقاءً وكذا في كمالاته التابعةِ لوجوده فاتضح أنه يَفيض عليه كلَّ آن نعمٌ لا تتناهى من وجوه شتى، فسبحانك سبحانك ما أعظمَ سلطانَك لا تلاحظك العيونُ بأنظارها ولا تطالعك العقولُ بأفكارها شأنُك لا يضاهى وإحسانُك لا يتناهى ونحن في معرفتك حائرون وفي إقامة مراسمِ شكرِك قاصرون نسألك الهدايةَ إلى مناهج معرفتِك والتوفيقَ لأداء حقوقِ نعمتك لا نحصي ثناءً عليك لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ} يظلِم النعمةَ بإغفال شكرِها أو بوضعه إياها في غير موضعِها أو يظلم نفسَه بتعريضها للحرمان {كَفَّارٌ} شديدُ الكفران، وقيل: ظلومٌ في الشدة يشكو ويجزع، كفّارٌ في النعمة يجمع ويمنع، واللام في الإنسان للجنس ومصداقُ الحكمِ بالظلم والكفران بعضُ مَنْ وُجد فيه من أفراده ويدخُل في ذلك الذين بدلوا نعمة الله كفرًا الخ دخولًا أوليًا. اهـ.