فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}.
ثم إنه لما ذكر سبحانه أحوال الكافر لنعمه وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكرًا لها شرع جل وعلا في تفصيل ما يستوجب على كافة الانام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام والمنن الجسام حثًا للمؤمنين عليها وتقريعًا للكفرة المخلين أتم إخلال بها فقال عز قائلًا:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إلخ،
وهذا أولى مما قيل: إنه تعالى لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء وكان حصول السعادة بمعرفة الله تعالى وصفاته والشقاوة بالجهل بذلك ختم الوصف بالدلائل الدالة على وجوده جل شأنه وكمال علمه وقدرته فقال سبحانه ما قال لظهور اعتبار المذكورات في حيز الصلة نعمًا لا دلائل، والاسم الجليل مبتدأ والموصول خبره ولا يخفى ما في الكلام من تربية المهابة والدلالة على قوة السلطان، والمراد خلق السموات وما فيها من الإجرام العلوية والأرض وما فيها من أنواع المخلوقات {وَأَنزَلَ مِنَ السماء} أي السحاب {مَاء} أي نوعًا منه وهو المطر، وسمى السحاب سماء لعلوه وكل ما علاك سماء؛ وقيل: المراد بالسماء الفلك المعلوم فإن المطر منه يتبدى إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض، وعليه الكثير من المحدثين لظواهر الأخبار.
واستبعد ذلك الإمام لأن الإنسان ربما كان واقفًا على قلة جبل عال ويرى السحاب أسفل منه فإذا نزل رآه ماطرًا، ثم قال: وإذا كان هذا أمرًا مشاهدًا بالبصر كان النزاع فيه باطلًا، وأول بعضهم الظواهر لذلك بأن معنى نزول المطر من السماء نزوله بأسباب ناشئة منها، وإيامًا كان {فَمَنْ} ابتدائية وهي متعلقة {بأنزل} وتقديم المجرور على المنصوب اما باعتبار كونه مبتدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك: أعطاه السلطان من خزائنه مالًا أو لما مر غير مرة من التشويق إلى المؤخر {مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ} أي بذلك الماء {مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ} تعيشون به وهو بمعنى المرزوق مرادًا به المعنى اللغوي وهو كل ما ينتفع به فيشمل المطعوم والملبوس، ونصبه على أنه مفعول {أَخْرَجَ} و{مِنَ الثمرات} بيان له فهو في موضع الحال منه، وتقدم {مِنْ} البيانية على ما تبينه قد أجازه الكثير من النحاة وقد مر الكلام في ذلك، واستظهر أبو حيان المانع لذلك كون {مِنْ} للتبعيض، والجار والمجرور في موضع الحال و{رِزْقًا} مفعول {أَخْرَجَ} أيضًا، وجوز أن تكون {مِنْ} بمعنى بعض مفعول أخرج و{رِزْقًا} بمعنى مرزوقًا حالًا منه فهو بيان للمراد من بعض الثمرات لأن منها ما ينتفع به فهو رزق ومنها ما ليس كذلك، ويجوز أن يكون {رِزْقًا} باقيًا على مصدريته، ونصبه على أنه مفعول له أي أخرج به ذلك لأجل الرزق والانتفاع به أو مفعول مطلق لأخرج لأن أخرج بعض الثمرات في معنى رزق فيكون في معنى قعدت جلوسًا على المشهور، وقيل: من زائدة ولا يرى جواز ذلك هنا إلا الأخفش و{لَكُمْ} صفة لرزقًا أن أريد به المرزوق ومفعول به إن أريد به المصدر كأنه قيل: رزقًا إياكم، والباء للسببية.
ومعنى كون الإخراج بسببه أن الله تعالى أودع فيه قوة مؤثرة بإذنه في ذلك حسبما جرت به حكمته الباهرة مع غناه الذاتي سبحانه عن الاحتياج إليه في الإخراج، وهذا هو رأي السلف الذي رجع إليه الأشعري كما حقق في موضعه، وزعم من زعم أن المراد أخرج عنده والتزموا هذا التأويل في ألوف من المواضع وضللوا القائلين بأن الله تعالى أودع في بعض الأشياء قوة مؤثرة في شيء ما حتى قالوا: إنهم إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان، وأولئك عندي أقرب إلى الجنون وسفاهة الرأي.
و{الثمرات} يراد بها ما يراد من جمع الكثرة لأن صيغ الجموع يتعاور بعضها موضع بعض أو لأنه أريد بالمفرد جماعة الثمرة التي في قولك: أكلت ثمرة بستان فلان، وقد تقدم لك ما ينفعك تذكرة في هذا المقام فتذكر {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك} السفن بأن أقدركم على صنعتها واستعمالها بما ألهمكم كيفية ذلك، وقيل: بأن جعلها لا ترسب في الماء {لِتَجْرِىَ في البحر} حيث توجهتم {بِأَمْرِهِ} بمشيئته التي بها نيط كل شيء، وتخصيصه بالذكر على ما ذكره بعض المحققين للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الأعمال واستعمال الآلات كما يتراءى من ظاهر الحال، ويندرج في تسخير الفلك كما في البحر تسخيره وكذا تسخير الرياح {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} جعلها معدة لانتفاعكم حيث تشربون منها وتتخذون جداول تسقون بها زروعكم وجناتكم وما أشبه ذلك، هذا إذا أريد بالأنهار المياه العظيمة اجلارية في المجاري المخصوصة وأما إذا أريد بها نفس المجاري فتسخيرها تيسيرها لهم لتجري فيها المياه.
{وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ}.
أي دائمين في الحركة لا يفتران إلى انقضاء عمر الدنيا.
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى الأرض حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر، والقول بجريانهما إذا غربا تحت الأرض مروى أيضًا عن الحسن البصري وهو الذي يشهر له العقل السليم وللأخباريين غير ذلك، وظاهر الآية إثبات الحركة لهما أنفسهما.
والفلاسفة يثبتون لهما حركتين يسمون احداهما الحركة الأولى وهي الحركة اليومية من المشرق إلى المغرب الحاصلة لهما بقسر المحدد لفلكيهما، والأخرى الحركة الثانية وهي الحركة على توالي البروج من المغرب إلى المشرق الحاصلة لهما بحركة فلكيهما حركة ذاتية، ولا يثبتون لهما حركة في ثخن الفلك على نحو حركة السمكة في الماء لصلابة الفلك وعدم قبوله الخرق أصلا عندهم.
وأثبت الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته حركتهما على ذلك النحو، والفلك عنده مثل الماء والهواء.
ذكر بعض الأخباريين أنهما وسائر الكواكب معلقة بسلاسل من نور بأيدي ملائكة يسيرونها كيف شاء الله تعالى وحيث شاء سبحانه، والافلاك ساكنة عند هذا البعض، وكذا عند الشيخ قدس سره على ما يقتضيه ظاهر كلامه، والأخبار في هذا الباب ليست بحيث تسد ثغر الخصم.
وذكر النسفي أنه ليس فيهما ما يعول عليه، وكلام الفلاسفة ما لم يكن فيه مصادمة لما تحقق عن املخبر الصادق صلى الله عليه وسلم مما لا بأس به، وفسر بعضهم {دَائِبَينَ} بمجدين تعبين وهو على التشبيه والاستعارة، وأصل الدأب العادة المستمرة، ونصب الاسم على الحال، وتسخير هذين الكوكبين العظيمين جعلهما منيرين مصلحين ما نيط بهما صلاحه من المكونات، ولعمري أن الله سبحانه جعلهما أجدى من تفاريق العصا.
وفي كتاب المشارع والمطارحات للشيخ شهاب الدين السهر وردي قتيل حلب أن تأثير الشمس والقمر أظهر الآثار السماوية، وتأثير الشمس أظهر من تأثير القمر، وأظهر الآثار بعد الشعاع التسخين الحاصل منه ولولا ذلك ما كان كون وفلا فساد ولا استحالة ولا ليل ولا نهار ولا فصول ولا مزاج ولا حيوانات ولا غيرها، وأطال الكلام في بيان ذلك وما يتعلق به، ولا ضرر عندي في اعتقاد أنهما مؤثران بإذن الله تعالى كسائر الأسباب عند السلف الصالح {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر} يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم، وأرجع بعض المحققين التسخير في المواضع الأربعة إلى معنى التصريف، وأصله سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهرًا، وذكر أن في التعبير عن ذلك به من الإشعار بما في ذلك من صعوبة المأخذ وعزة المنال والدلالة على عظم السلطان وشدة المحال ما لا يخفى، والظاهر أنه في المعنى المراد به هنا مجاز في تلك المواضع جميعاف، ونقل أبو حيان عن المتكلمين أنه مجاز في الأخير منها قال: لأن الليل والنهار عرضان والأعراض لا تسخر وفيه قصور، وفي إبراز كل من هذه النعم في جملة مستقلة تنويه لشأنها وتنبيه على رفعة مكانها وتنصيص على كون كل نعمة جليلة مستوجبة للشكر.
وتأخير تسخير الشمس والقمر عن تسخير ما تقدم من الأمور مع ما بينه وبين خلق السموات من المناسبة الظاهرة قيل: لاستتباع ذكرها لذكر الأرض المستدعى لذكر إنزال الماء منها إليها الموجب لذكر إخراج الرزق الذي من جملته ما يحصل بواسطة الفلك والأنهار أو للتفادي عن توهم كون الكل أعني خلق السموات والأرض وتسخير الشمس والقمر نعمة واحدة، وقد تقدم نظيره آنفًا، وذكر بعضهم في وجه ذكر هذه المتعاطفات على هذا الأسلوب أنه بدأ بخلق السموات والأرض لأنهما أصلان يتفرع عليهما سائر ما يذكر بعد، وثنى بإنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به لشدة تعلق النفوس بالرزق فيكون تقديمه من قبيل تعجيل السمرة.
ولما كان الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجواري في البحر وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع من ذلك وبالنقل يكثر الربح ذكر سبحانه تسخير الفلك التي ينقل عليها واقتصر عليها اعتناءً بشأنها، ولما ذكر أمر الثمرات وما به يكمل الانتفاع بها من حيث النقل ذكر تسخير الأنهار العذبة التي يشرب منها الناس في سائر الأحيان إتمامًا لأمر الرزق وذكر تسخير الشمس والقمر بعد لأن الانتفاع بهما ليس بالمباشرة كالانتفاع بالفلك والانتفاع بالانهار، وأخر تسخير الليل والنهار لأنهما عرضان وما تقدمهما جوهر والعرض من حيث هو بعد الجوهر اهـ، وليس بشيء يعول عليه.
{وءاتاكم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}.
أي أعطاكم بعض جميع ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئته التابعة للحكمة والمصلحة فمن كل مفعول ثان لآتى و{مِنْ} تبعيضية، وقال بعض الكاملين: إن {كُلٌّ} للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم كما في قوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء} [الأنعام: 44] واعترض على حمل {مِنْ} على التبعيض دون ابتداء الغاية بأنه يفضي إلى إخلاء لفظ {كُلٌّ} عن فائدة زائدة لأن {مَا} نص في العموم بل يوهم إيتاء البعض من كل فرد متعلق به السؤال ولا وجه له.
ودفع بأنه بعد تسليم كون {مَا} نصًا في العموم هنا عمومان عموم الأفراد وعموم الأصناف بمعنى كل صنف صنف وهما مقصودان هنا، فالمعنى أعطاكم من جميع أفراد كل صنف سألتموه، فإن الاحتياج بالذات إلى النوع والصنف لا لفرد بخصوصه، وفسر {مَا سَأَلْتُمُوهُ} بما من شأنه أن يسأل لاحتياج الناس إليه سواء سئل بالفعل أم لم يسأل، فلا ينفي إيتاء ما لا حاجة إليه مما لا يخطر بالبال، وجعلوا الاحتياج إلى الشيء سؤالًا له بلسان الحال وهو من باب التمثيل، وسبيل هذا السؤال سبيل الجواب في رأي في قوله تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] وقيل: الأصل وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه فحذف الثاني لدلالة ما أبقى على ما ألقى، {وَمَا} يحتمل أن تكون موصولة والضمير المنصوب في {سَأَلْتُمُوهُ} عائد عليها، والتقدير من كل الذي سألتموه إياه؛ ومنع أبو حيان جواز أن يكون راجعًا إليه تعالى ويكون العائد على الموصول محذوفًا مستندًا بأنه لو قدر متصلًا لزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة من دون اختلاف وهو لا يجوز ولو قدر منفصلًا حسبما تقتضيه القاعدة في مثل ذلك لزم حذف العائد المنفصل وقد نصوا على عدم جوازه اهـ.
وذهب بعضهم إلى جواز كلا التقديرين مدعيًا أن منع اتصال المتحدين رتبة خاص فيما إذا ذكرا معًا أما إذا ذكر أحدهما وحذف الآخر فلا منع إذ الاتصال حينئذٍ محض اعتبار وعلة المنع لا تجري فيه، وأن منع حذف المنفصل خاص أيضًا فيما إذا كان الانفصال لغرض معنوي كالحصر في قولك: جاء الذي أباه ضربت إذ بالحذف حينئذٍ يفوت ذلك الغرض، أما إذا كان لغرض لفظي كدفع اجتماع المثلين فلا منع إذ ليس هناك غرض يفوت، ويحتمل أن تكون موصوفة والكلام في الضمير كما تقدم، وأن تكون مصدرية والضمير لله تعالى والمصدر بمعنى المفعول أي مسؤولكم.
وقرأ ابن عباس والضحاك والحسن ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وعمرو بن قائد وقتادة وسلام ويعقوب ونافع في رواية {مِن كُلّ} بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال، وجوز على هذه القراءة أن تكون {مَا} نافية والمفعول الثاني {مِن كُلّ} كما في قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء} [النمل: 23] والجملة المنفية في موضع الحال أي أتاكم من كل غير سائليه، وهو إخبار منه تعالى بسيوغ نعمته سبحانه عليهم بما لم يسألوه من النعم؛ وروي هذا عن الضحاك، ولا يخفى أن الوجه هو الأول ما أن القراءة على هذا الوجه تخالف القراءة الأولى والأصل توافق القراءتين وإن فهم منها إيتاء ما سألوه بطريق الأول.
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله} أي ما أنعم به عليكم كما هو الظاهر.
وقال الواحدي: إن {نِعْمَتَ} هنا اسم أقيم مقام المصدر يقال: أنعم إنعامًا ونعمة كما يقال أنفقت إنفاقًا ونفقة فالنعمة بمعنى الإنعام ولذا لم تجمع، والمعول عليه ما أشرنا إليه من أنها اسم جنس بمعنى المنعم به، والمراد بها الجمع كأنه قيل: وإن تعدوا نعم الله: {لاَ تُحْصُوهَا} وقد نص بعضهم على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة وما قيل: إن الاستغراق ليس مأخوذًا من الإضافة بل من الشرط والجزاء المخصوصين فيه نظر لأن الحكم المذكور يقتضي صحة إرادته منه ولولاه تنافيا، والمراد بلا تحصوها لا تطيقوا حصرها ولو إجمالًا فإنها غير متناهية، وأصل الإحصاء العد بالحصى فإن العرب كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الأصابع ولذا قال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى ** وإنما العزة للكاثر

ثم استعمل لمطلق العد، وقال بعض الأفاضل: إن أصله أن الحاسب إذا بلغ عقدًا معينًا من عقود الأعداد وضع حصاة ليحفظه بها ففيه إيذان بعدم بلوغ مرتبة معتد بها من مراتبها فضلًا عن بلوغ غايتها وهو من الحسن بمكان إلا أنه ذهب إلى الأول الراغب وغيره، وأول الإحصاء بالحصر لئلا يتنافى الشرط والجزاء إذا ثبت في الأول العد ونفي في الثاني ولو أول {إن تَعْدُواْ} بأن تريدوا العد يندفع السؤال على ما قيل أيضًا والأول أولى، وقال بعض الفضلاء: إن المعنى أن تشرعوا في عد أفراد نعمة من نعمه تعالى لا تطيقوا عدها.
وإنما أتى بإن وعدم العد مقطوع به نظرًا إلى توهم أنه يطاق، قيل: والكلام عليه أبلغ منه على الأول لما فيه من الإشارة إلى أن النعمة الواحدة لا يمكن عد تفاصيلها، لكن أنت تعلم أن الظاهر هو الأول.
وقد ذكر الإمام مثالين يستوضح بهما الوقوف على أن نعم الله تعالى لا تحصى ولا يمكن أن تستقصى فقال:
الأول: أن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان دماغية ونخاعية، والدماغية سبعة وقد أتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحدة منها، ولا شك أن كل واحدة تنقسم إلى شعب كثيرة وكل واحدة من تلك الشعب تنقسم أيضًا إلى شعب أدق من الشعر، ولكل واحد منها ممر إلى الأعضاء، ولو أن واحدة اختلت كيفًا أو وضعًا أو نحو ذلك لاختلت مصالح البنية، ولكل منها على كثرتها حكم مخصوصة، وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والأوردة، وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والوضع والفعل والانفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحرًا لا ساحل له، وإذا اعتبرت هذا في بدن الإنسان فاعتبر في نفسه وروحه فإن عجائب عالم الأرواح أكثر من عجائب عالم الأجسام؛ وإذا اعتبرت أحوال عالم الأفلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والمعدن والحيوان ظهر لك أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلًا واحدًا وتأمل به الإنسان في حكمة الله تعالى في أقل الأشياء لما أدرك منها إلا القليل.