فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثاني: أنه إذا أخذت لقمة من الخبز لتضعها في فمك فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، فأما الأول فأعرف أنها لا تتم إلا إذا كان هذا العالم بكليته قائمًا على الوجه الأصوب لأن الحنطة لابد منها ولا تنبت إلا بمعونة الفصول وتركب الطبائع وظهور الأمطار والرياح، ولا يحصل شيء من ذلك إلا بدور أن الأفلاك واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة، ثم بعد أن تكون الحنطة لابد لها من آلات الطحن ونحوه وهي لا تحصل إلا عند تولد الحديد في أرحام الجبال؛ ثم تأمل كيف تكونت على الأشكال المخصوصة، ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لابد من اجتماع العناصر حتى يمكن الطبخ، وأما الثاني فتأمل في تركيب بدن الحيوان وهو أنه تعالى كيف خلق ذلك حتى يمكنه الانتفاع بتلك اللقمة، وأنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل؛ وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار فلا يمكنك أن تعرف القليل إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب على الوجه الأكمل، وأني للعقول بإدراك كل ذلك فظهر بالبرهان الباهر صحة هذه الشرطية اهـ.
وقال مولانا أبو السعود قدس سره بعد كلام: وإن رمت العثور على حقيقة الحق والوقوف على ما جل من السر ودق فاعلم أن الإنسان بمقتضى حقيقته الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتبعه من الكمالات اللائقة والملكات الرائقة بحيث لم انقطع ما بينه وبين العناية الإلهية من العلاقة لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم والبوار ومهاوي الهلاك والدمار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي وكل آن يمر وينقضي من أنواع الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وسائر الصفات الروحانية والنفسانية والجسمانية ما لا يحيط به نطاق التعبير ولا يعلمه إلا اللطيف الخبير، وتوضيحه أنه كما لا يستحق الوجود ابتداءً لا يستحقه بقاءً وإنما ذلك من جناب المبدىء الأول عز شأنه وجل فكما لا يتصور وجوده ابتداءً ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارىء لأن الاستمرار والدوام من خصائص الوجود الواجبي.
وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن وجب كونها متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده ليست كذلك إذ لا استحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية، وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود وارتفاع تلك الموانع التي لا تتناهى أعني بقاءها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها في كل آن من آنات وجوده، نعم غير متناهية حقيقة لا ادعاء، وكذا الحال في وجودات علله وشرائطه القريبة والبعيدة ابتداءً وبقاءً، وكذا في كمالاته التابعة لوجوده اهـ، ويتراءى منه أنه قد ترك الإمام في تحقيق هذا المقام وراءه وأنه لو سمع ذلك لاقتدى به في ذكره ولعد من النعم اقتداءه وقريب منه ما يقال في بيان عدم تناهي النعم: إن الوجود نعمة نكذا كل ما يتبعه من الكمالات، وذلك موقوف على وجوده تعالى في الأزمنة الموهومة الغير المتناهية، وتحقق ما يتوقف عليه وجود النعمة نعمة فتحققه سبحانه في كل آن من تلك الآنات نعمة، فالنعم غير متناهية، ولك أن تقول في بيان ذلك: إنه ما من إنسان إلا وقد دفع الله تعالى عنه من البلايا ما لا يحيط به نطاق الحصر لأن البلايا الداخلة تحت حيطة الإمكان غير متناهية، ولا شك أن دفع كل بلية نعمة فتكون النعم غير متناهية، ومما يوضح عدم تناهي البلايا الممكنة أن أهل النار المخلدين فيها لا زال عذابهم بازدياد كما يرشد إليه قوله تعالى: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا} [النبأ: 30] وقد ذكر غير واحد في ذلك أنهم كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد من ذلك، فيكون كل مرتبة منه متناهيًا في الشدة وإن كانت مراتبه غير متناهية بحسب العدد والمدة وعلى هذا نعم الله تعالى على المبتلي أيضًا لا تحصى.
وفي رواية ابن أبي الدنيا.
والبيهقي عن ابن مسعود قال: إن لله تعالى على أهل النار منة فلو شاء أن يعذبهم بأشد من النار لعذبهم.
ثم الظاهر أن المراد بالنعمة معناها اللغوي أعني الأمر الملائم لا المعنى الشرعي أعني الملائم الذي تحمد عاقبته إذ لا يتأتى عليه عموم الخطاب، ولا يبعد إطلاق النعمة بذلك المعنى على نحو رفع الموانع وتحقق العلل والشرائط حسبما ذكر سابقًا، وظاهر ما تقدم يقتضي أن النعم في حد ذاتها غير محصورة والآية ظاهرة في أن الإنسان لا يحصرها بالعد وفرق بين الأمرين فتدبر.
وبالجملة ليس للعبد إلا العجز عن الوقوف على نهاية نعمه سبحانه وتعالى وكذا العجز عن شكر ذلك، وما أحسن ما قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: من لم يعرف نعمة الله تعالى عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه.
وأخرج البيهقي في الشعب وغيره عن سليمان التيمي قال: إن الله تعالى أنعم على العباد على قدره سبحانه وكلفهم الشكر على قدرهم، وعن طلق بن حبيب قال: إن حق الله تعالى أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله سبحانه أكثر من أن يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين.
وأفضل نعمه جل شأنه على عباده على ما روي عن سفيان بن عيينة أن عرفهم أن لا إله إلا الله.
وأخرج ابن أبي الدنيا وغيره عن أبي أيوب القرشي مولى بني هاشم أن داود عليه السلام قال: رب أخبرني ما أدنى نعمتك على؟ فأوحى الله تعالى إليه يا داود تنفس فتنفس فقال تبارك وتعالى: هذا أدنى نعمتي عليك.
واشتهر أن أول النعم المقصودة لذاتها الوجود وأنه معدن كل كمال كما أن العدم معدن كل نقص.
ويدل على أنه نعمة لا يكاد يقاس بها غيرها عند كثير من الناس أن الإنسان منهم يفدي نفسه بملك الدنيا لو كان بيده وعلم أن الفداء ممكن إذا ألم به الألم وتحقق العدم.
ومن العجيب أن أبا علي الشبلي البغدادي، وقيل: ابن سيناء لم يعد وجود الإنسان نعمة عليه فقد قال من أبيات:
ودهر ينثر الأعمار نثرا ** كما للغصن بالورق انتثار

ودنيا كلما وضعت جنينا ** غذاه من نوائبها ظؤار

إلى أن قال:
نعاقب في الظهور وما ولدنا ** ويذبح في حشا الأم الحوار

وننتظر البلايا والرزايا ** وبعد فللوعيد لنا انتظار

ونخرج كارهين كما دخلنا ** خروج الضب أخرجه الوجار

فماذا الامتنان على وجود ** لغير الموجدين به الخيار

فكانت أنعما لو أن كونا ** نخير قبله أو نستشار

فهذا الداء ليس له دواء ** وهذا الكسر ليس له انجبار

إلى آخر ما قال، ولعمري لقد غمط نعمة الله تعالى عليه وظلمها {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ} يظلم النعمة بإغفال شكرها بالكلية أو بوضعه في غير موضعه أو يظلم نفسه بتعريضها للحرمان بترك الشكر {كُفِرَ} شديد الكفران والجحود، وقيل: ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع، والأول أنسب بما قبله، وأل في الإنسان للجنس ومصداق الحكم بالظلم وأخيه بعض من وجدا من إفراده فيه ويدخل في ذلك الذين بدلوا نعمة الله تعالى كفرًا، والظاهر أن الجملة استئناف بياني وقع جوابًا لسؤال مقدر كأنه قيل: لم لم يراعوا حقها؟ أو لم حرمها بعضهم؟ وقيل: إنها تعليل لعدم تناهي النعم ولذا أتى بصيغتي المبالغة فيها وهو كما ترى هذا، وفي النحل [18]: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} وفرق أبو حيان بين الختمين بأنه هنا لما تقدم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا} [إبراهيم: 28] وبعده {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا} [إبراهيم: 30] فكان ذلك نصًا على ما فعلوا من القبائح من الظلم والكفران ناسب أن يختم بذم من وقع ذلك منه فختمت الآية بقوله سبحانه: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} وأما في النحل فلما ذكر عدة تفضلات وأطنب فيها وقال جل شأنه: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] أي من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ذكر من تفضلاته تعالى اتصافه بالغفران والرحمة تحريضًا على الرجوع إليه سبحانه وأن هاتين الصفتين هو جل وعلا متصف بهما كما هو متصف بالخلق، ففي ذلك أطماع لمن آمن به تعالى وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق تبارك وتعالى أنه يغفر زلله السابق ويرحمه، وأيضًا فإنه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان ذكر ما حصل من المنعم ومن جنس المنعم عليه، فحصل من المنعم ما يناسب حالة عطائه وهو الغفران والرحمة إذ لولاهما لما أنعم عليه، وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسب حالة الإنعام عليه ويقع معها في الجملة وهو الظلم والكفران فكأنه قيل: إن صدر من الإنسان ظلم فالله تعالى غفور أو كفران فالله تعالى رحيم لعلمه بعجز الإنسان وقصوره.
وما نقل السخاوي عن عبد الرحمن بن أسلم من أن هذه الآية منسوخة بآية النحل مما لا يلتفت إليه انتهى كلامه.
وفيه بحث، وقيل: إنما ختم سبحانه آية النحل بما ختم للإطناب هناك في ذكر النعم مع تقدم الدعوة إلى الشكر صريحًا فكان ذلك مظنة التقصير فيه ويناسب الإطناب في سرد النعم أن يذكر منها ما يتعلق بذلك وهو الغفران والرحمة فتأمل والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. اهـ.

.قال القاسمي:

{اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} أي: المزن: {مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ}.
أي: تعيشون به: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ} أي: السفن: {لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} أي: بإرادته: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} أي: فتجري حيث تشاؤون من شرب وسقي وسواهما.
{وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَينَ} أي: يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي: يتعاقبان خلفه، لمعاشكم وسباتكم.
{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أي: ما تحتاجون إليه مما تصلح أحوالكم ومعايشكم به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال.
وقال القاشاني: {مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} بألسنة استعداداتكم، فإن كل شيء يسأله بلسان استعداده، كما لا يفيض عليه مع السؤال بلا تخلف وتراخ: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} لعدم تناهيها: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ} أي: بوضع نور الاستعداد ومادة البقاء في ظلمة الطبيعة ومحل الفناء وصرفه فيها. أو بنقص حق الله أو حق نفسه بإبطال الاستعداد {كَفَّارٌ} أي: بتلك النعم التي لا تحصى، باستعمالها في غير ما ينبغي أن تستعمل، وغفلته عن المنعم عليه به، واحتجابه بها عنه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}.
استئناف واقع موقع الاستدلال على ما تضمنته جملة {وجعلوا لله أندادًا} الآية.
وقد فصل بينه وبين المستدل عليه بجملة {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلوات} الآية.
وأدمج في الاستدلال تعدادهم لنعم تستحق الشكر عليها ليظهر حال الذين كفروها، وبالضد حال الذين شكروا عليها، وليزداد الشاكرون شكرًا.
فالمقصود الأول هو الاستدلال على أهل الجاهلية، كما يدل عليه تعقيبه بقوله: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجْنُبْنِي وبني أن نعبد الأصنام} [سورة إبراهيم: 35].
فجيء في هذه الآية بِنِعم عامة مشهودة محسوسة لا يستطاع إنكارها إلا أنها محتاجة للتذكير بأن المنعم بها وموجدها هو الله تعالى.
وافتتُح الكلام باسم الموجِد لأن تعيينه هو الغرض الأهم.
وأخبر عنه بالموصول لأن الصلة معلومة الانتساب إليه والثبوت له، إذ لا ينازع المشركون في أن الله هو صاحب الخلق ولا يدعون أن الأصنام تخلق شيئًا، كما قال: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [سورة لقمان: 25]، فخلق السماوات والأرض دليل على إلهية خالقهما وتمهيد للنعم المودعة فيهما؛ فإنزال الماء من السماء إلى الأرض، وإخراج الثمرات من الأرض، والبحارُ والأنهارُ من الأرض.
والشمس والقمر من السماء، والليل والنهار من السماء ومن الأرض، وقد مضى بيان هذه النعم في آيات مضت.
والرزق القوت.
والتسخير: حقيقته التذليل والتطويع، وهو مجاز في جعل الشيء قابلًا لتصرف غيره فيه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} في سورة الأعراف [54].
وقوله: {لتجري في البحر} هو علة تسخير صنعها.
ومعنى تسخير الفلك: تسخير ذاتها بإلهام البشر لصنعها وشكلها بكيفية تجري في البحر بدون مانع.
وقوله: {بأمره} متعلق بـ {تجري}.
والأمر هنا الإذن، أي تيسير جريها في البحر، وذلك بكف العواصف عنها وبإعانتها بالريح الرخاء، وهذا كقوله: {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره} [سورة الحج: 65].
وعبر عن هذا الأمر بالنعمة في قوله: {ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله} [سورة لقمان: 31]، وقد بينته آية: {ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الرياح فيظللن رواكد على ظهره} الآية [سورة الشورى: 32- 33].
وتسخير الأنهار: خلقها على كيفية تقتضي انتقال الماء من مكان إلى مكان وقراره في بعض المنخفضات فيستقى منه من تمر عليه وينزل على ضفافه حيث تستقر مياهه، وخلق بعضها مستمرة القرار كالدجلة والفرات والنيل للشرب ولسير السفن فيها.
وتسخير الشمس والقمر خلقهما بأحوال ناسبت انتفاع البشر بضيائهما، وضبط أوقاتهم بسيرهما.
ومعنى {دائبين} دائبين على حالات لا تختلف إذ لو اختلفت لم يستطع البشر ضبطها فوقعوا في حيرة وشك.
والفلك: جمع لفظه كلفظ مفرده.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} في سورة البقرة [164].
ومعنى {وآتاكم من كل ما سألتموه} أعطاكم بعضًا من جميع مرغوباتكم الخارجة عن اكتسابكم بحيث شأنكم فيها أن تسألوا الله إياها، وذلك مثل توالد الأنعام، وإخراج الثمار والحب، ودفع العوادي عن جميع ذلك: كدفع الأمراض عن الأنعام، ودفع الجوائح عن الثمار والحب.
فجملة {وآتاكم من كل ما سألتموه} تعميم بعد خصوص، فهي بمنزلة التذييل لما قبلها لحِكم يعلمها الله ولا يعلمونها {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} [سورة الشورى: 27]، وأن الإنعام والامتنان يكون بمقدار البذل لا بمقدار الحرمان.
وبهذا يتبين تفسير الآية.
وجملة {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} تأكيد للتذييل وزيادة في التعميم، تنبيهًا على أن ما آتاهم الله كثير منه معلوم وكثير منه لا يحيطون بعلمه أو لا يتذكرونه عند إرادة تعداد النعم.
فمعنى {إن تعدوا} إن تحاولوا العد وتأخذوا فيه.
وذلك مثل النعم المعتاد بها التي ينسى الناس أنها من النعم، كنعمة التنفس، ونعمة الحواس، ونعمة هضم الطعام والشراب، ونعمة الدورة الدموية، ونعمة الصحة.
وللفخر هنا تقرير نفيس فانظره.
والإحصاء: ضبط العدد، وهو مشتق من الحَصَا اسمًا للعدد، وهو منقول من الحصى، وهو صغار الحجارة لأنهم كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنبًا للغلط.
وجملة {إن الإنسان لظلوم كفار} تأكيد لمعنى الاستفهام الإنكاري المستعمل في تحقيق تبديل النعمة كُفرًا، فلذلك فصلت عنها.
والمراد بـ {الإنسان} صنف منه، وهو المتصف بمضمون الجملة المؤكدة وتأكيدها، فالإنسان هو المشرك، مثل الذي في قوله تعالى: {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا} [سورة مريم: 66]، وهو استعمال كثير في القرآن.
وصيغتا المبالغة {في ظلوم كفار} اقتضاهما كثرة النعم المفاد من قوله: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}، إذ بمقدار كثرة النعم يكثر كفر الكافرين بها إذ أعرضوا عن عبادة المنعم وعبدوا ما لا يغني عنهم شيئًا، فأما المؤمنون فلا يجحدون نعم الله ولا يعبدون غيره. اهـ.