فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}.
إن الذين آثروا عليه شيئًا خسروا في الدنيا والآخرة كما قالوا:
أناسٌ أعرضوا عنَّا ** بلا جُرْمٍ ولا معنى

فإن كانوا قد استَغْنَوْا ** فإنَّا عنهم أغنى

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {اشتروا الحياة}.
قوله تعالى: {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}.
قال ابن عرفة: هذا ليس بتكرار:
- فالأول اقتضى أن ذلك العذاب لا يرجى من فاعله شفقة على المفعول ولا تخفيفا عنه.
- والثاني اقتضى أنه لا يقدر أحد على استخلاص المفعول من ذلك العذاب ونصرته بوجه. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون}: قال ابن عباس: نزلت في اليهود، الذين تقدّم ذكرهم أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وفي اسم الإشارة دليل على أنه أشير به إلى الذين جمعوا الأوصاف السابقة الذميمة.
وقد تقدّم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله: {أولئك على هدى من ربهم} وأنه إذا عدّدت أوصاف لموصوف، أشير إلى ذلك الموصوف تنبيهًا على أنه هو جامع تلك الأوصاف.
والذين: خبر عن أولئك، وتقدّم الكلام في قوله: {اشتروا}، وتقدّم أن الشراء والبيع يقتضيان عوضًا ومعوّضًا أعيانًا.
فتوسعت العرب في ذلك إلى المعاني، وجعل إيثارهم بهجة الدنيا وزينتها على النعيم السرمدي اشتراء، إيثارًا للعاجل الفاني على الآجل الباقي، إذ المشتري ليس هو المؤثر لتحصيله، والثمن المبذول فيه مرغوب عنه عنده، ولا يفعل ذلك إلا مغبون الرأي فاسد العقل.
قال بعض أرباب المعاني: إن الدنيا: ما دنا من شهوات القلب، والآخرة: ما اتصلت برضا الرب.
فلا يخفف معطوف على الصلة، ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زمانًا، تقول: جاءني الذي قتل زيدًا بالأمس، وسيتقل غدًا أخاه، إذ الصلاة هي جمل، فمن يشترط اتحاد زمان أفعالها بخلاف ما ينزل من الأفعال منزلة المفردات، فإنهم نصوا على اشتراط اتحاد الزمان مضيًا أو غيره، وعلى اختيار التوافق في الصيغة، وجوّز أن يكون أولئك مبتدأ والذين بصلته خبرًا.
وفلا: يخفف خبر بعد خبر، وعلل دخول الفاء لأن الذين، إذا كانت صلته فعلًا، كان فيها معنى الشروط، وهذا خطأ، لأن الموصول هنا أعربه خبرًا عن أولئك، فليس قوله فلا يخفف خبرًا عن الموصول، إنما هو خبر عن أولئك، ولا يسري للمبتدأ الشرطية من الموصول الواقع خبرًا عنه.
وجوز أيضًا أن يكون أولئك مبتدأ، والذين مبتدأ ثان، وفلا يخفف خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك.
قيل: ولم يحتج إلى عائد، لأن الذين هم أولئك، كما تقول: هذا زيد منطلق، وهذا خطأ، لأن كل جملة وقعت خبرًا لمبتدأ فلابد فيها من رابط، إلا إن كانت نفس المبتدأ في المعنى، فلا يحتاج إلى ذلك الرابط.
وقد أخبرت عن أولئك بالمبتدأ الموصول وبخبره، فلابد من الرابط.
وليس نظير ما مثل به من قوله: هذا زيد منطلق، لأن زيد منطلق خبران عن هذا، وهما مفردان، أو يكون زيد بدلًا من هذا، ومنطلق خبرًا.
وأما أن يكون هذا مبتدأ، وزيد مبتدأ ثانيًا، ومنطلق خبرًا عن زيد، ويكون زيد منطلق جملة في موضع الخبر عن هذا، فلا يجوز لعدم الرابط.
وأيضًا فلو كان هنا رابط، لما جاز هذا الإعراب، لأن الذين مخصوص بالإشارة إليه، فلا يشبه اسم الشرط، إذ يزول العموم باختصاصه، ولأن صلة الذين ماضية لفظًا ومعنى.
ومع هذين الأمرين لا يجوز دخول الفاء في الجملة الواقعة خبرًا.
والتخفيف هو التسهيل، وقد حمل نفي التخفيف على الانقطاع، وحمل أيضًا على التشديد.
والأولى جملة على نفي التخفيف بالانقطاع، أو بالتقليل منه، أو في وقت، أو في كل الأوقات، لأنه نفي للماهية، فيستلزم نفي أشخاصها وصورها.
والظاهر من النفي بلا والكثير فيها أنه نفي في المستقبل.
وقد فسر الزمخشري نفي التخفيف بأن ذلك في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بنقصان الجزية، وكذلك نفى النصر في الدنيا والآخرة.
ومعنى نفى النصر: أنهم لا يجدون من يدفع عنهم ما حل بهم من عذاب الله.
{ولا هم ينصرون}: جملة إسمية معطوفة على جملة فعلية، ويجوز أن تكون فعلية وتكون المسألة من باب الاشتغال، فيكون هم مرفوعًا بفعل محذوف يفسره ما بعده، على حدّ قوله:
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

ويقوي هذا الوجه ويحسنه كونه تقدم قوله: {فلا يخفف}، وهو جملة فعلية، إذ لولا تقدّم الجملة الفعلية لكان الأرجح الرفع على الابتداء، وذلك أن لا ليست مما تطلب الفعل، لا اختصاصًا ولا أولوية، فتكون كان والهمزة خلافًا لأبي محمد بن السيد، إذ زعم أن الحمل على الفعل فيما دخلت عليه لا، أولى من الابتداء، وبناء الفعل للمفعول أولى من بنائه للفاعل، لأنه أعم، إلا إن جعل الفاعل عامًا، فيكون ولا هم ينصرهم أحد، فكان يفوت بذلك اختتام الفواصل بما اختتمت به قبل وبعد، ويفوت الإيجاز، مع أن قوله: {ولا هم ينصرون} يفيد ذلك، أعني العموم.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أخبار الله تعالى، أنه أخذ الميثاق على بني إسرائيل بإفراد العبادة، والإحسان إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وبالقول الحسن للناس، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأنهم نقضوا الميثاق بتوليهم وإعراضهم، وأنه أخذ عليهم أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجون أنفسهم من ديارهم، وأنهم أقروا والتزموا ذلك.
فكان الميثاق الأول يتضمن الأوامر، والميثاق الثاني يتضمن النواهي، لأن التكاليف الإلهية مبنية على الأوامر والنواهي.
وكان البدء بالأوامر آكد، لأنها تتضمن أفعالًا، والنواهي تتضمن تروكًا، والأفعال أشق من التروك.
وكان من الأوامر الأمر بإفراد الله بالعبادة، وهو رأس الإيمان، إذ متعلق أشرف المتعلقات، فكان البدء به أولى.
ثم نعى عليهم التباسهم بما نهوا عنه، وإن كان قد تقدم أخباره أنهم خالفوا في الأمر بقوله: {ثم توليتم}، لأن فعل المنهيات أقبح من ترك المأمورات، لأنها تروك كما ذكرنا.
ثم قرّعهم بمخالفة نواهي الله، وأنهم مستعينون في ذلك بغير الحق، بل بالإثم والعدوان.
ثم ذكر تناقض آرائهم وسخف عقولهم، بفداء من أتى إليهم منهم، مع أنهم هم السبب في إخراجهم وأسرهم، مع علمهم بتحريم إخراجهم، وبذكر أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض.
هذا مع أنه كله حق وصدق، فلا يناسب ذلك الكفر ببعض، والإيمان ببعض.
ثم ذكر أن الجزاء لفاعل ذلك هو الخزي في الدنيا، وأشد العذاب في الآخرة، وأن الله تعالى لا يغفل عما عملوه، فيجازيهم على ذلك.
ثم أشار إلى من تحلى بهذه الأوصاف الذميمة، وخالف أمر الله ونهيه، هو قد اشترى عاجلًا تافهًا بآجل جليل، وآثر فانيًا مكدرًا على باق صاف.
وأن نتيجة هذا الشراء أن لا يخفف عنهم ما حل بهم من العذاب، ولا يجدوا ناصرًا يدفع عنهم سوء العقاب.
لقد خسروا تجارة، وبدلوا بالنعيم السرمدي نارًا وقودها الناس والحجارة.
وإذا كان التخفيف قد نفى، فالرفع أولى.
وهل هذا إلا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؟. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}.
الْآيَاتُ السَّابِقَةُ كَانَتْ تَذْكِيرًا بِالنِّعَمِ التَّارِيخِيَّةِ الْمَلِيَّةِ، وَبِالتَّقْصِيرِ فِي الشُّكْرِ وَعَوَاقِبِهِ، وَذَلِكَ كَالتَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّفْسَ، وَالْإِنْجَاءِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَمِنَ الْغَرَقِ، وَإِيتَاءِ مُوسَى الْكِتَابَ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَتَسْهِيلِ الْمَعِيشَةِ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ بِمَا سَاقَ اللهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، ثُمَّ مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي أَثَرِ كُلِّ نِعْمَةٍ وَمَا أَعْقَبَهُ كُفْرُ النِّعَمِ مِنَ النِّقَمِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ إِلَّا مَا جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ لِهَذِهِ الْأُصُولِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا التَّذْكِيرُ بِأُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَمَا كَانَ مِنْ إِهْمَالِهَا وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا. هَذَا هُوَ الْمُرَادُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ عَلَى أَنَّ فِيمَا يَأْتِي إِعَادَةَ الْإِشَارَةِ إِلَى بَعْضِ مَا مَضَى، قَضَى بِهَا مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ وَغِلَظِ الْقُلُوبِ وَكَثْرَةِ الْمُشَاغَبَاتِ وَالْمُمَارَاةِ، فَالْخِطَابُ مَعَهُمْ دَائِمًا فِي بَابِ الْإِطْنَابِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَاحَظَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُطْنِبُ وَيُبْدِئُ وَيُعِيدُ فِي خِطَابِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ لِمَا كَانَتْ شُحِنَتْ بِهِ أَذْهَانُهُمْ مِمَّا يُسَمَّى عِلْمًا أَوْ فِقْهًا، فَأَبْعَدَهُمْ عَنْ أَنْ يَصِلَ شُعَاعُ الْحَقِّ إِلَى مَا وَرَاءِ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ وَيَكْتَفِي بِالْإِيجَازِ، بَلْ بِالْإِشَارَةِ الدَّقِيقَةِ فِي خِطَابِ الْعَرَبِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سُرْعَةِ الْفَهْمِ وَرِقَّةِ الْإِحْسَاسِ لِقُرْبِهِمْ مِنَ السَّذَاجَةِ الْفِطْرِيَّةِ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبُرْهَانِ فِي ضِمْنِ تَمْثِيلٍ يُغْنِي عِنْدَهُمْ عَنِ الْإِسْهَابِ وَالتَّطْوِيلِ؛ وَلِذَلِكَ خَاطَبَهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ فِي الْأَصْنَامِ: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [22: 73].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ فِي سِيَاقِ خِطَابِهِمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لِعِلْمِهِمْ بِهِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ}... إِلَخْ بَيَانٌ لَهُ- أَيْ لِلْمِيثَاقِ- لَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ.
يُقَالُ: أَخَذْتُ عَلَيْكَ عَهْدًا تَفْعَلُ كَذَا، كَمَا تَقُولُ: أَنْ تَفْعَلَ كَذَا سَوَاءٌ، وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، يُلَاحَظُ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ قَدِ امْتَثَلَ فَيُخْبِرُ بِوُقُوعِهِ، أَوْ إِنَّهُ- لِتَوْثِيقِهِ وَالتَّشْدِيدِ فِي تَأْكِيدِهِ- سَيَمْتَثِلُ حَتْمًا فَيُخْبِرُ بِأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. أَقُولُ وَهَذَا النَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللهَ، وَإِنَّمَا يَخْشَى عَلَيْهِمُ الشِّرْكَ بِهِ كَمَا وَقَعَ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَجْيَالِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الشُّعُوبِ، فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ لِدِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ هُوَ أَنْ يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرَكَ بِهِ عِبَادَةُ أَحَدٍ سِوَاهُ مِنْ مَلَكٍ وَلَا بَشَرٍ وَلَا مَا دُونَهُمَا بِدُعَاءٍ وَلَا بِغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، كَمَا قَالَ: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [4: 36] فَالتَّوْحِيدُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أَيْ وَتُحْسِنُونَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَالْإِحْسَانُ نِهَايَةُ الْبِرِّ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَا يَجِبُ مِنَ الرِّعَايَةِ وَالْعِنَايَةِ، وَقَدْ أَكَّدَ اللهُ الْأَمْرَ بِإِكْرَامِ الْوَالِدَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ حَتَّى إِنَّهُ يُوجَدُ فِيهَا الْآنَ أَنَّ مَنْ يَسُبُّ وَالِدَيْهِ يُقْتَلُ، وَقَدْ قَرَنَ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ إِلَى الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ أَوِ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [17: 23]. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْعِنَايَةُ بِأَمْرِ الْوَالِدَيْنِ فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ لِكَوْنِهِمَا سَبَبَ وُجُودِ الْوَلَدِ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ، فَإِنَّهُ لَا مِنَّةَ لَهُمَا عَلَى الْوَلَدِ بِهَذِهِ السَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إِكْرَامًا لَهُ وَلَا عِنَايَةً بِهِ، كَيْفَ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا أَوْ مَوْجُودًا فَيُكْرَمُ!، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِبَاعِثِ الشَّهْوَةِ وَإِرْضَاءِ النَّفْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ الْوَلَدُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَاجِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَوَدُّ أَلَّا يُولَدَ لَهُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَاحِدٌ أَوْ وَلَدَانِ فَقَطْ فَيَكُونَ لَهُ أَكْثَرُ. فَإِذَا كَانَ وُجُوبُ الْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ مَعْلُولًا لِإِرَادَتِهِمَا الْوَلَدَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ هَذَا الْإِحْسَانُ بِوَلَدٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مِنَ الزَّوْجِيَّةِ حَظٌّ سِوَاهُ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ مَا لَا وُجُودَ لَهُ، ذَلِكَ كَلَامٌ شِعْرِيٌّ، وَالْعِلَّةُ الصَّحِيحَةُ فِي وُجُوبِ هَذَا الْإِحْسَانِ عَلَى الْوَلَدِ هِيَ الْعِنَايَةُ الصَّادِقَةُ الَّتِي بَذَلَاهَا فِي تَرْبِيَتِهِ، وَالْقِيَامِ بِشُئُونِهِ أَيَّامَ كَانَ ضَعِيفًا عَاجِزًا جَاهِلًا، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهَا ضَرَرًا، إِذْ كَانَا يَحُوطَانِهِ بِالْعِنَايَةِ وَالرِّعَايَةِ، وَيَكْفُلَانِهِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ وَالْقِيَامِ بِشَأْنِ نَفْسِهِ، فَهَذَا هُوَ الْإِحْسَانُ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُمَا عَنْ عِلْمٍ وَاخْتِيَارٍ، بَلْ مَعَ الشَّغَفِ الصَّحِيحِ وَالْحَنَانِ الْعَظِيمِ، وَمَا جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَشْكُرَ لِكُلِّ مَنْ يُسَاعِدُهُ عَلَى أَمْرٍ عَسِيرٍ فَضْلَهُ، وَيُكَافِئَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ عَلَى حَسَبِ الْحَالِ فِي الْمُسَاعِدِ، وَمَا كَانَتْ بِهِ الْمُسَاعَدَةُ، فَكَيْفَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الشُّكْرُ لِلْوَالِدَيْنِ بَعْدَ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُمَا اللَّذَانِ كَانَا يُسَاعِدَانِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَيَّامَ كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ؟!.
وَكَذَلِكَ حُبُّ الْوَالِدَيْنِ لِلْوَلَدِ لَيْسَتْ عِلَّتُهُ- كَمَا يَقُولُ النَّاسُ- كَوْنَهُ جُزْءًا مِنْهُمَا وَفِلْذَةَ كَبِدِهِمَا، هَذَا كَلَامٌ شِعْرِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ أَيْضًا، فَإِنَّ جِسْمَ الْإِنْسَانِ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَغْذِيَةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ صَحِيحَةً، لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحِبَّ الْحِنْطَةَ وَالْغَنَمَ أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّ وَالِدَيْهِ، وَإِنَّمَا لِحُبِّ الْوَالِدَيْنِ الْوَلَدَ مَنْبَعَانِ:
أَحَدُهُمَا: حَنَانٌ فِطْرِيٌّ أَوْدَعَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهِمَا لِإِتْمَامِ حِكْمَتِهِ.
وَثَانِيهُمَا: مَا جَرَتْ بِهِ سُنَّةُ الْبَشَرِمن التَّفَاخُرِ بِالْأَوْلَادِ، وَمِنَ الْأَمَلِ بِالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَيْسَتِ الْفَائِدَةُ مَحْصُورَةً فِي الْمَالِ وَالْعَوْنِ عَلَى الْمَعِيشَةِ، وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ الشَّرَفَ وَالْجَاهَ أَيْضًا.
وَكَمْ أَبٍ قَدْ عَلَا بِابْنٍ لَهُ شَرَفًا ** كَمَا عَلَا بِرَسُولِ اللهِ عَدْنَانُ

وَلَمَّا كَانَ حُبُّ الْوَالِدَيْنِ لِلْأَوْلَادِ بِمَكَانَةٍ مِنَ الْقُوَّةِ لَا يُخْشَى زَوَالُهَا، تَرَكَ النَّصَّ عَلَى الْإِحْسَانِ بِهِمْ وَثَنَّى بِالْإِحْسَانِ بِمَنْ دُونَهُمْ فِي النَّسَبِ، فَقَالَ: {وَذِي الْقُرْبَى}.
الْإِحْسَانُ هُوَ الَّذِي يُقَوِّي غَرَائِزَ الْفِطْرَةِ، وَيُوَثِّقُ الرَّوَابِطَ الطَّبِيعِيَّةَ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ حَتَّى تَبْلُغَ الْبُيُوتُ فِي وَحْدَةِ الْمَصْلَحَةِ دَرَجَةَ الْكَمَالِ، وَالْأُمَّةُ: تَتَأَلَّفُ مِنَ الْبُيُوتِ الْعَائِلَاتِ، فَصَلَاحُهَا صَلَاحُهَا، وَهَاهُنَا قَالَ الْأُسْتَاذُ كَلِمَةً جَلِيلَةً وَهِيَ: وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ لَا تَكُونُ لَهُ أُمَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ عَاطِفَةَ التَّرَاحُمِ وَدَاعِيَةَ التَّعَاوُنِ إِنَّمَا تَكُونَانِ عَلَى أَشَدِّهِمَا وَأَكْمَلِهِمَا فِي الْفِطْرَةِ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، ثُمَّ بَيْنَ سَائِرِ الْأَقْرَبِينَ، فَمَنْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُ حَتَّى لَا خَيْرَ فِيهِ لِأَهْلِهِ، فَأَيُّ خَيْرٍ يُرْجَى مِنْهُ لِلْبُعَدَاءِ وَالْأَبْعَدِينَ؟ وَمَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ لِلنَّاسِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ بِنْيَةِ أُمَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَنْفَعْ فِيهِ اللُّحْمَةُ النَّسَبِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَقْوَى لُحْمَةٍ طَبِيعِيَّةٍ تَصِلُ بَيْنَ النَّاسِ، فَأَيُّ لُحْمَةٍ بَعْدَهَا تَصِلُهُ بِغَيْرِ الْأَهْلِ فَتَجْعَلُهُ جُزْءًا مِنْهُمْ يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّهُمْ وَيُؤْلِمُهُ مَا يُؤْلِمُهُمْ، وَيَرَى مَنْفَعَتَهُمْ عَيْنَ مَنْفَعَتِهِ وَمَضَرَّتَهُمْ عَيْنَ مَضَرَّتِهِ، وَهُوَ مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ لِأُمَّتِهِ؟ قَضَى نِظَامُ الْفِطْرَةِ بِأَنْ تَكُونَ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ أَقْوَى مَنْ كُلِّ نَعْرَةٍ، وَصِلَتُهَا أَمْتَنَ مَنْ كُلِّ صِلَةٍ، فَجَاءَ الدِّينُ يُقَدِّمُ حُقُوقَ الْأَقْرَبِينَ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَجَعْلَ حُقُوقِهِمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنَ الشَّخْصِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حُقُوقَ أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ فَقَالَ: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}، وَالْيَتِيمُ هُوَ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَقَدْ قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ بِهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْمِسْكِينِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِفَقْرٍ وَلَا مَسْكَنَةٍ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى الْوَصِيَّةَ بِالْيَتِيمِ، وَفِي الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَحَسْبُكَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَهَى عَنْ قَهْرِ الْيَتِيمِ وَشَدَّدَ الْوَعِيدَ عَلَى أَكْلِ مَالِهِ تَشْدِيدًا خَاصًّا، وَلَوْ كَانَ السِّرُّ فِي ذَلِكَ غَلَبَةَ الْمَسْكَنَةِ عَلَى الْيَتَامَى، لَاكْتَفَى هُنَا بِذِكْرِ الْمَسَاكِينِ. كَلَّا إِنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ هُوَ كَوْنُ الْيَتِيمِ لَا يَجِدُ فِي الْغَالِبِ مَنْ تَبْعَثُهُ عَاطِفَةُ الرَّحْمَةِ الْفِطْرِيَّةِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَتِهِ وَالْقِيَامِ بِحِفْظِ حُقُوقِهِ، وَالْعِنَايَةِ بِأُمُورِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّ الْأُمَّ إِنْ وُجِدَتْ تَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ عَاجِزَةً، وَلاسيما إِذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ أَبِيهِ، فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ بِمَا أَكَّدَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالْأَيْتَامِ أَنْ يَكُونُوا مِنَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ أَبْنَائِهِمْ يُرَبُّونَهُمْ تَرْبِيَةً دِينِيَّةً دُنْيَوِيَّةً؛ لِئَلَّا يَفْسُدُوا وَيَفْسُدَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ، فَيَنْتَشِرُ الْفَسَادُ فِي الْأُمَّةِ فَتَنْحَلُّ انْحِلَالًا، فَالْعِنَايَةُ بِتَرْبِيَةِ الْيَتَامَى هِيَ الذَّرِيعَةُ لِمَنْعِ كَوْنِهِمْ قُدْوَةً سَيِّئَةً لِسَائِرِ الْأَوْلَادِ. وَالتَّرْبِيَةُ لَا تَتَيَسَّرُ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْقُدْوَةِ، فَإِهْمَالُ الْيَتَامَى إِهْمَالٌ لِسَائِرِ أَوْلَادِ الْأُمَّةِ.
أَمَّا الْمَسَاكِينُ فَلَا يُرَادُ بِهِمْ هَؤُلَاءِ السَّائِلُونَ الشَّحَّاذُونَ الْمُلْحِفُونَ الَّذِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى كَسْبِ مَا يَفِي بِحَاجَاتِهِمْ، أَوْ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ وَلَوْ لَمْ يَكْتَسِبُوا، إِلَّا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا السُّؤَالَ حِرْفَةً، يَبْتَغُونَ بِهَا الثَّرْوَةَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ كَسْبٍ يَكْفِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} فَهُوَ كَلَامٌ جَدِيدٌ لَهُ شَأْنٌ مَخْصُوصٌ، وَلِذَلِكَ تَغَيَّرَ فِيهِ الْأُسْلُوبُ، فَلَمْ يَرِدْ عَلَى النَّسَقِ الَّذِي قَبْلَهُ مَعَ دُخُولِهِ فِي الْمِيثَاقِ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ الْحُقُوقَ الْعَمَلِيَّةَ وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْإِحْسَانِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُحْسِنَ الْإِنْسَانُ بِالْفِعْلِ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَامِلَ جَمِيعَ النَّاسِ، فَالَّذِينَ لابد لَهُ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَأَقَارِبِهِ الَّذِينَ يَنْشَأُ فِيهِمْ وَيَتَرَبَّى بَيْنَهُمْ، فَجَاءَ النَّصُّ بِوُجُوبِ الْإِحْسَانِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِتَصْلُحَ بِذَلِكَ حَالُ الْبُيُوتِ.
ثُمَّ إِنَّ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ مِنْ قَوْمِهِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْ إِحْسَانِهِ وَإِحْسَانِ أَمْثَالِهِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيَمَ لِلْأَوَّلِينَ، وَلَا غَنَاءَ عِنْدَ الْآخِرِينَ، فَفَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا مِنْهُ. ثُمَّ بَعْدَ بَيَانِ مَا بِهِ إِصْلَاحُ الْبُيُوتِ مِنْ إِعَانَةِ الْأَقْرَبِينَ، وَمَا بِهِ صَلَاحُ بَعْضِ الْعَامَّةِ مِنْ مَعُونَةِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ عَلَى إِصْلَاحِ بُيُوتِهِمْ، بَقِيَ بَيَانُ حُقُوقِ سَائِرِ الْأُمَّةِ، وَهِيَ النَّصِيحَةُ لَهُمْ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فِيهِمْ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مُجَرَّدَ التَّلَطُّفِ بِالْقَوْلِ وَالْمُجَامَلَةِ فِي الْخِطَابِ، فَالْحُسْنُ هُوَ النَّافِعُ فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحُقُوقِ مُسْتَقِلًّا بِذَاتِهِ جَاءَ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْفَرَائِضِ إِصْلَاحَ الْأُمَّةِ كُلِّهَا.
جَاءَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ مُجْمَلًا لِيَعْلَمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا بِحَسْبِ الطَّاقَةِ، وَلَكِنْ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ إِلَّا بِهِدَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ، وَأَكْبَرُ ذَلِكَ النَّوْعِ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ لِإِصْلَاحِ نُفُوسِ الْأَفْرَادِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ لِإِصْلَاحِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ؛ لِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وَإِنَّمَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَالصِّدْقِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَالْخُشُوعِ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَالِاسْتِكَانَةِ لِعِزِّ سُلْطَانِهِ، وَلَا تَكُونُ بِمُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ وَرُسُومِهَا الظَّاهِرَةِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَمَا وَصَفَهُمْ بِالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُمْ مَا أَعْرَضُوا عَنْ صُورَةِ الصَّلَاةِ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي ذَكَّرَهُمْ فِيهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَإِلَى هَذَا الْيَوْمِ أَيْضًا. وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَحْبَارِهِمْ يَزْعُمُ أَنَّهَا تِلْكَ الْمُحْرَقَاتُ وَالْقَرَابِينُ الْمَفْرُوضَةُ لِتَكْفِيرِ الْخَطَايَا أَوْ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ مِصْرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ لَهُمْ زَكْوَاتٍ مَالِيَّةٍ، مِنْهَا مَالٌ مَخْصُوصٌ يُؤَدَّى لِآلِ هَارُونَ وَهُوَ إِلَى الْآنِ فِي اللَّاوِيِّينَ، وَمِنْهَا مَالٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَمِنْهَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ، وَمِنْهَا سَبْتُ الْأَرْضِ، وَهُوَ تَرْكُهَا فِي كُلِّ سَبْعِ سِنِينَ مَرَّةً بِلَا حَرْثٍ وَلَا زَرْعٍ، وَكُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ.
قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} أَيْ ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ بَعْدَ هَذَا الْمِيثَاقِ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُكُمْ، أَنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَنْتُمْ فِي حَالَةِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ لَهُ، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْإِنْسَانُ مُنْصَرِفًا عَنْ شَيْءٍ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ وَيُوَفِّيَهُ حَقَّهُ، فَلَيْسَ كُلُّ مُتَوَلٍّ عَنْ شَيْءٍ مُعْرِضًا عَنْهُ وَمُهْمِلًا لَهُ عَلَى الدَّوَامِ؛ لِذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ هَذَا الْقَيْدِ {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} لَازِمًا لابد مِنْهُ، وَلَيْسَ تَكْرَارًا كَمَا يُتَوَهَّمُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمِّمٌ لِلْمَعْنَى، وَمُؤَكِّدٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّرْكِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّوَلِّي.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا زَادَهُ الْمُفَسِّرُ مِنْ قوله: فَقَبِلْتُمْ ذَلِكَ لِيَعْطِفَ عَلَيْهِ {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ}، فَالْمَقَامُ مَقَامُ وَعِيدٍ وَزَجْرٍ وَتَوْبِيخٍ، وَفِي كَلِمَةِ ثم نَفْسِهَا مَا يُفِيدُ أَنَّ التَّوَلِّيَ لَمْ يَكُنْ عَقِبَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ.
وَقَدْ كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ التَّوَلِّي مَعَ الْإِعْرَاضِ أَنَّ اللهَ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَأْخُذُوا الدِّينَ إِلَّا فِي كِتَابِهِ، فَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ يُحِلُّونَ بِرَأْيِهِمْ وَيُحَرِّمُونَ، وَيُبِيحُونَ بِاجْتِهَادِهِمْ وَيَحْظُرُونَ، وَيَزِيدُونَ فِي الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ، وَيَضَعُونَ مَا شَاءُوا مِنَ الِاحْتِفَالَاتِ وَالشَّعَائِرِ، فَصَدَقَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ شُرَكَاءَ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الدِّينَ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ أَدِلَّاءُ يُسْتَعَانُ بِهِمْ عَلَى فَهْمِ كِتَابِهِ وَمَا شَرَعَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَقَدِ اتَّبَعَ سَنَنَ الْيَهُودِ فِي هَذَا التَّشْرِيعِ جَمِيعُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَحُكْمُ الْجَمِيعِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ، فَهُوَ لَا يُحَابِي أَحَدًا {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [18: 49] وَكَذَلِكَ كَانُوا قَدْ قَطَعُوا صِلَاتِ الْقَرَابَةِ، وَبَخِلُوا بِالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ، وَتَرَكُوا النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفَقَدُوا رُوحَ الصَّلَاةِ وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ، وَلَكِنَّهُمُ الْآنَ عَادُوا إِلَى بَعْضِ مَا تَرَكُوا، وَلَمْ يَعُدِ الَّذِينَ تَشَبَّهُوا بِهِمْ أَوِ اتَّبَعُوا بِغَيْرِ شُعُورِ سُنَّتِهِمْ، وَالْأَمْرُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ لِبَعْضِ مَنْ كَانُوا فِي زَمَنِ سَيِّدِنَا مُوسَى عليه السلام أَوْ فِي كُلِّ زَمَنٍ، فَإِنَّهُ لَا تَخْلُو أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ مِنَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى الْحَقِّ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِمْ وَقَدْرِ طَاقَتِهِمْ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَدَمُ بَخْسِ الْمُحْسِنِينَ حَقَّهُمْ، وَبَيَانُ أَنَّ وُجُودَ قَلِيلٍ مِنَ الصَّالِحِينَ فِي الْأُمَّةِ لَا يَمْنَعُ عَنْهَا الْعِقَابَ الْإِلَهِيِّ إِذَا فَشَا فِيهَا الْمُنْكَرُ، وَقَلَّ الْمَعْرُوفُ.
لَوْ تَدَبَّرَ جُهَّالُنَا هَذِهِ الْآيَةَ، لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مَغْرُورُونَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى الْأَقْطَابِ وَالْأَوْتَادِ وَالْأَبْدَالِ فِي تَحَمُّلِ الْبَلَاءِ عَنْهُمْ، وَمَنْعِ الْعَذَابِ أَنْ يَنْزِلَ بِالْأُمَّةِ بِبَرَكَتِهِمْ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقْطَابَ مَوْجُودُونَ حَقِيقَةً، فَإِنَّ وُجُودَهُمْ لَا يُغْنِي عَنِ الْأُمَّةِ شَيْئًا، وَقَدْ عَصَى اللهَ جَمَاهِيرُهَا وَقَضَوْا مِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ، فَقَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ بِأَنَّ بَقَاءَ الْأُمَمِ عَزِيزَةً إِنَّمَا يَكُونُ بِمُحَافَظَةِ الْجَمَاهِيرِ فِيهَا عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي تَكُونُ بِهَا الْعِزَّةُ وَيُحْفَظُ بِهَا الْمَجْدُ وَالشَّرَفُ.
وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِآيَاتِ اللهِ فِي كِتَابِهِ، لَا يَعْتَبِرْ بِآيَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، فَقَدْ فُتِنَ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَحَلَّ بِجَمِيعِ بِلَادِهِمْ مَا حَلَّ مِنَ الْبَلَاءِ وَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [47: 24]، {أَوَ لَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [9: 126].
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}.
كَانَ التَّذْكِيرُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَهَمِّ الْمَأْمُورَاتِ الَّتِي أَخَذَ اللهُ تَعَالَى الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَا بَعْدَ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَبَيَانِ أَنَّهُمْ نَقَضُوا مِيثَاقَ اللهِ تَعَالَى وَلَمْ يَأْتَمِرُوا بِهَا، وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ التَّذْكِيرُ بِأَهَمِّ الْمَنْهِيَّاتِ الَّتِي أَخَذَ اللهُ تَعَالَى الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ بِاجْتِنَابِهَا، وَبَيَانُ أَنَّهُمْ نَقَضُوا مِيثَاقَهُ وَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْهَا، وَقَدْ قَالَ هُنَاكَ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيِ الَّذِينَ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى خِطَابِ الْحَاضِرِينَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ فَقَالَ: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} وَقَالَ هُنَا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} تَمَادِيًا فِي سِيَاقِ الِالْتِفَاتِ، وَتَذْكِيرًا بِوَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَاعْتِبَارِهَا كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، يُصِيبُ الْخَلْفَ أَثَرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ مَا اسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِمْ، وَجَرَوْا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، كَمَا تُؤَثِّرُ أَعْمَالُ الشَّخْصِ السَّابِقَةُ فِي قُوَاهُ النَّفْسِيَّةِ، وَطَبْعِ مَلَكَاتِهِ بَعْدَ انْحِلَالِ مَادَّةِ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ الَّتِي ابْتَدَأَتِ الْعَمَلَ، وَحُلُولِ مَوَادٍّ أُخْرَى فِي مَحِلِّهَا تَتَمَرَّنُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَمَا يَفْعَلُهُ الشَّخْصُ فِي صِغَرِهِ، يَبْقَى أَثَرُهُ فِي قُوَاهُ فِي كِبَرِهِ، فَكَذَلِكَ الْأُمَمُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ النَّهْيَ عَنْ سَفْكِ بَعْضِهِمْ دَمَ بَعْضٍ، وَإِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ بِعِبَارَةٍ تُؤَكِّدُ مَعْنَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَتُحْدِثُ فِي النَّفْسِ أَثَرًا شَرِيفًا يَبْعَثُهَا عَلَى الِامْتِثَالِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ قَلْبٌ يَشْعُرُ، وَوِجْدَانٌ يَتَأَثَّرُ، فَقَالَ: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} فَجَعَلَ دَمَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ كَأَنَّهُ دَمُ الْآخَرِ عَيْنُهُ، حَتَّى إِذَا سَفَكَهُ كَانَ كَأَنَّهُ بَخَعَ نَفْسَهُ وَانْتَحَرَ بِيَدِهِ. وَقَالَ: {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} عَلَى هَذَا النَّسَقِ. وَهَذَا التَّعْبِيرُ الْمُعْجِزُ بِبَلَاغَتِهِ خَاصٌّ بِالْقُرْآنِ. فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ لَا تَزَالُ مَحْفُوظَةً عِنْدَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ فِي الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يَجْرُوا عَلَيْهَا فِي الْعَمَلِ، وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ عَنْهَا عِنْدَهُمْ لَا تُطَاوِلُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ الَّتِي تُدْهِشُ صَاحِبَ الذَّوْقِ السَّلِيمِ وَالْوِجْدَانِ الرَّقِيقِ، فَهَذَا إِرْشَادٌ حَكِيمٌ طَلَعَ مِنْ ثَنَايَا الْأَحْكَامِ يَهْدِي إِلَى أَسْرَارِهَا وَيُومِئُ إِلَى مَشْرِقِ أَنْوَارِهَا، مَنْ تَدَبَّرَهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قِوَامَ لِلْأُمَمِ إِلَّا بِالتَّحَقُّقِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْحِكَمُ، وَشُعُورِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا بِأَنَّ نَفْسَهُ نَفْسُ الْآخَرِينَ وَدَمَهُ دَمُهُمْ، لَا فَرْقَ فِي الِاحْتِرَامِ بَيْنَ الرُّوحِ الَّتِي تَجُولُ فِي بَدَنِهِ وَالدَّمِ الَّذِي يَجْرِي فِي عُرُوقِهِ، وَبَيْنَ الْأَرْوَاحِ وَالدِّمَاءِ الَّتِي يَحْيَا بِهَا إِخْوَانُهُ الَّذِينَ وُحِّدَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الشَّرِيعَةُ الْعَادِلَةُ وَالْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْوَجِيهُ فِي الْآيَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهَا لَا تَرْتَكِبُوا مِنَ الْجَرَائِمِ مَا تُجَازَوْنَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ. وَيُقَالُ فِي قَوْلِهِ: {لَا تَسْفِكُونَ} كَمَا قِيلَ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ} مِنْ تَضَمُّنِ صِيغَةِ الْخَبَرِ لِلتَّأْكِيدِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُخَاطِبُهُمْ بِمَا كَانَ مِنِ اعْتِرَافِ سَلَفِهِمْ بِالْمِيثَاقِ وَقَبُولِهِ، وَشُهُودِهِمُ الْوَحْيَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ عَلَى مُوسَى- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
ثَانِيهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ الْحَاضِرُونَ أَنْفُسُهُمْ، أَيْ أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِالْقُرْآنِ قَدْ أَقْرَرْتُمْ بِهَذَا الْمِيثَاقِ وَتَعْتَقِدُونَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَلَا تُنْكِرُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ، بَلْ تَشْهَدُونَ بِهِ وَتُعْلِنُونَهُ، فَالْحُجَّةُ نَاهِضَةٌ عَلَيْكُمْ بِهِ.
ثُمَّ بَعْدَ بَيَانِ هَذَا الْمِيثَاقِ وَتَسْجِيلِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ لَا يُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا، ذَكَرَ نَقْضَهُمْ إِيَّاهُ فَقَالَ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} الْحَاضِرُونَ الشَّاهِدُونَ الْمُشَاهِدُونَ {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَنْ قَبْلَكُمْ، مَعَ اعْتِرَافِكُمْ بِأَنَّ الْمِيثَاقَ مَأْخُوذٌ عَلَيْكُمْ كَمَا كَانَ مَأْخُوذًا عَلَيْهِمْ؛ كَانَ بَنُو قَيْنُقَاعَ مِنَ الْيَهُودِ أَعْدَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ إِخْوَانِهِمْ فِي الدِّينِ، وَكَانَ الْأَوَّلُونَ حُلَفَاءَ الْأَوْسِ، وَالْآخَرُونَ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ افْتَرَقُوا فَبَقِيَ بَنُو النَّضِيرِ مَعَ الْخَزْرَجِ، وَخَالَفَ بَنُو قُرَيْظَةَ الْأَوْسَ، وَكَانَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَعْدَاءً، وَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ، وَمَعَ كُلٍّ حُلَفَاؤُهُ، فَهَذَا مَا احْتَجَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِهِمْ أَنْفُسِهِمْ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَيَتْبَعُ هَذَا الْقِتَالَ الْأَسْرُ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. وَالتَّظَاهُرُ: التَّعَاوُنُ، وَتَظَاهَرُونَ أَصْلُهُ تَتَظَاهَرُونَ كَمَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ مَقِيسٌ مَشْهُورٌ. كَانَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْيَهُودِ يُظَاهِرُ حُلَفَاءَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَيُعَاوِنُهُمْ عَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْيَهُودِ بِالْإِثْمِ كَالْقَتْلِ وَالسَّلْبِ، وَبِالْعُدْوَانِ كَالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ.
وَمِنْ مَثَارَاتِ الْعَجَبِ أَنَّهُ كَانُوا إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى فِدَاءِ الْأَسْرَى يَفْدِي كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْيَهُودِ أَسْرَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَعْدَائِهِ، وَيَعْتَذِرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ فِي الْكِتَابِ بِفِدَاءِ أَسْرَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِالْكِتَابِ، فَلِمَ قَاتَلُوا شَعْبَ إِسْرَائِيلَ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَهُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ؟ هَذَا لَعِبٌ بِالْكِتَابِ وَاسْتِهْزَاءٌ بِالدِّينِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ أَسَرْتُمُوهُمْ وَأَخْرَجْتُمُوهُمْ بِالتَّظَاهُرِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْعَرَبِ، {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} بِمِيثَاقٍ أَغْلَظَ مِنْ طَلَبِ مُفَادَاتِهِمْ.
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} وَهُوَ فِدَاءُ الْأَسْرَى، {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} آخَرَ مِنْهُ وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ الْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ؟ أَلَيْسَ مِنَ الْحَمَاقَةِ وَالْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ أَنَّ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مِثْلَ هَذَا الْإِيمَانِ بِأَهْوَنِ الْأُمُورِ مَعَ الْكُفْرِ بِأَعْظَمِهَا؟ وَالْإِيمَانُ لَا يَتَجَزَّأُ، فَالْكُفْرُ بِالْبَعْضِ كَالْكُفْرِ بِالْكُلِّ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمَعْصِيَةِ بِالْكُفْرِ دَلِيلٌ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} فَالْقُرْآنُ يُصَرِّحُ هُنَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِأَنَّ مَنْ يُقْدِمُ عَلَى الذَّنْبِ لَا تَضْطَرِبُ نَفْسُهُ قَبْلَ إِصَابَتِهِ، وَلَا يَتَأَلَّمُ وَيَنْدَمُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَيَرْجِعُ إِلَى اللهِ تَعَالَى تَائِبًا، بَلْ يَسْتَرْسِلُ فِيهِ بِلَا مُبَالَاةٍ بِنَهْيِ اللهِ- تَعَالَى- عَنْهُ وَتَحْرِيمِهِ لَهُ، فَهُوَ كَافِرٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى، الْمُصَدِّقَ بِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ سُخْطِهِ وَمُوجِبَاتِ عُقُوبَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَ لِإِيمَانِ قَلْبِهِ أَثَرٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ أَنَّ لِكُلِّ اعْتِقَادٍ أَثَرًا فِي النَّفْسِ، وَلِكُلِّ أَثَرٍ فِي النَّفْسِ تَأْثِيرٌ فِي الْأَعْمَالِ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّهُ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ شَارِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ».
وَلَقَدْ سَمَّى اللهُ الذَّنْبَ هَاهُنَا كُفْرًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِوَعِيدِ الْكُفْرِ فَقَالَ: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}... إِلَخْ. أَوْعَدَهُمُ اللهُ تَعَالَى كَمَا أَوْعَدَ مَنْ قَبْلَهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى نَقْضِ مِيثَاقِ الدِّينِ الَّذِي يَجْمَعُهُمْ، وَالشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ وِحْدَتِهِمْ وَرِبَاطِ جِنْسِيَّتِهِمْ بِالْخِزْيِ الْعَاجِلِ، وَالْعَذَابِ الْآجِلِ، وَقَدْ دَلَّ الْمَعْقُولُ، وَشَهِدَ الْوُجُودُ بِأَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ فَسَقَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا، وَاعْتَدَتْ حُدُودَ شَرِيعَتِهَا، إِلَّا وَانْتَكَثَ فَتْلُهَا، وَتَفَرَّقَ شَمْلُهَا، وَنَزَلَ بِهَا الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، وَهُوَ الْخِزْيُ الْمُرَادُ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ الْخَلِيقَةِ، ذَكَرَهَا لِيَعْتَبِرَ بِهَا مَنْ صَرَفَتْهُ الْغَفْلَةُ عَنْهَا.
وَأَمَّا الْعَذَابُ الْآجِلُ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} فَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، وَهَادٍ إِلَى حِكْمَةٍ عُلْيَا؛ ذَلِكَ أَنَّ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ إِذَا سَحَلَ مَرِيرُهَا، وَاخْتَلَّتْ بِفَسَادِ الْأَخْلَاقِ أُمُورُهَا، وَكَثُرَتْ فِي ذَا الْعَالَمِ شُرُورُهَا، حَتَّى سَلَبَتْ مَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لِمَنْ حَافَظُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَاسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ، تَكُونُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُسْلَبَ فِي الْآخِرَةِ مَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لِلْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ، وَمَا وَعَدَ بِهِ أَصْحَابَ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ، فَإِنَّ سَعَادَةَ الدَّارِ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ أَجْرًا عَلَى أَعْمَالٍ بَدَنِيَّةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِصَلَاحِ النَّفْسِ فِي خُلُقٍ وَلَا نِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ ثَمَرَةُ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ الَّتِي يُتَوَسَّلُ إِلَيْهَا بِعَمَلِ الْحِسِّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَكُونُ نَعِيمُ الْآخِرَةِ جَزَاءَ حَرَكَاتٍ جَسَدِيَّةٍ، وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الرُّوحَانِيَّةُ؟ {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [91: 7- 10].
{وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَدْ قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ تُرَدُّونَ بِالْخِطَابِ لِمُنَاسَبَةِ قوله: {مِنْكُمْ} كَمَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ {تَعْمَلُونَ} بِالْخِطَابِ لِذَلِكَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ وَيَعْقُوبَ {يَعْمَلُونَ} عَلَى الْغِيبَةِ لِرُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى {مَنْ يَفْعَلُ}.
ثُمَّ أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ وَبَيَّنَ سَبَبَهُ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} أَيْ جَعَلُوا حُظُوظَهُمْ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ بِمَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ، وَأَهْمَلُوا مِنْ شَرِيعَتِهِ، حَتَّى لَمْ يَتَّبِعُوا مِنْهَا إِلَّا مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَلَا يُعَارِضُ شَهَوَاتِهِمْ كَالْحَمِيَّةِ الَّتِي حَمَلَتْ كُلَّ حَلِيفٍ عَلَى الِانْتِصَارِ لِمُحَالِفِهِ الْمُشْرِكِ وَمُظَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ عَلَى قَوْمِهِ الَّذِينَ تَجْمَعُهُ بِهِمْ رَابِطَةُ الدِّينِ وَالنَّسَبِ {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ}؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُ ذَاتِيَّةٌ فِيهِمْ، وَهِيَ ظُلْمَةُ أَرْوَاحِهِمْ وَفَسَادُ أَخْلَاقِهِمْ {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} بِشَفَاعَةِ شَافِعٍ، أَوْ وِلَايَةِ وَلِيٍّ مِنْ دُونِ اللهِ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [2: 255]؟ وَأَنَّى يُؤْذَنُ بِالشَّفَاعَةِ لِمَنْ سَجَّلَتْ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءَ أَعْمَالُهُمْ بِإِحَاطَةِ الْخَطَايَا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى أَخَذَتْ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ الرَّحْمَةِ، وَقَطَعَتْ عَلَيْهِمْ بِاخْتِيَارِهِمْ سَبِيلَ الرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ، فَمِنَ الْجَهْلِ إِهْمَالُهُمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَنَقْضُهُمْ مِيثَاقَ اللهِ تَعَالَى فِي أَهَمِّ مَا وَاثَقَهُمْ بِهِ، وَاعْتِمَادُهُمْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ عَلَى الشُّفَعَاءِ {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [21: 28].
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَلْفَاظِ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ} أَنَّ الضَّمِيرَ لِلشَّأْنِ عِنْدَ الْمُفَسِّرِ وَالْجَمَاهِيرِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْمَعْهُودَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي تَقْضِي الْحَالُ فِيهَا بِتَقَدُّمِ الِاسْمِ وَتَأَخُّرِ الْفِعْلِ، أَوْ مَا يُشْتَقُّ مِنْهُ لابد أَنْ تُصَدَّرَ بِضَمِيرٍ تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا شَوَاهِدٌ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ يَتَّفِقُ فِيهَا ذَوْقُهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي إِعْرَابِهَا. اهـ.