فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال المحققون: معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته وطاعته هي الشجرة الطيبة بل لا طيب ولا لذيذ إلا هي، لأن المدركات المحسوسة إنما تصير مدركة لملاقاة شيء من المحسوس شيئًا من الحاس. أما نور معرفة الله وإشراقها فإنما ينفذ ويسري في جميع جواهر النفس حتى إنه يكاد يتحد به. ثم إن سائر اللذات منقطعة متناهية، ولذة المعرفة لا تكاد تنتهي إلى حد. وإن عروق هذه الشجرة ثابتة راسخة في جوهر النفس الناطقة ولها شعب وأغصان صاعدة في هواء العالم الروحاني يجمعها التعظيم لأمر الله، ومنشؤها القوة النظرية، وغايتها الحكمة العملية بأقسامها وأصولها وفروعها، وأغصان نابتة في فضاء العالم الجسماني ومنبتها القوة العملية وفائدتها الحكمة الخلقية التي يجمعها الشفقة على خلق الله عمومًا وخصوصًا. وأثر رسوخ شجرة المعرفة في القلب أن يكون نظره للاعتبار {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر: 2] وسمعه للحكمة {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} [الزمر: 18] ونطقه بالصدق والصواب {وقولوا قولًا سديدًا} [الأحزاب: 70] وكذا الكلام في سائر القوى والأعضاء. وهنالك مراتب لا تكاد تنحصر بحسب مراتب الاستعدادات. وإذا صار جوهر النفس كاملًا بحسب هذه الفضائل فقد يكون مكملًا لغيره وذلك قوله: {تؤتي أكلها كل حين}.
وفي قوله: {بإذن ربها} إشارة إلى أن النظر في جميع هذه المراتب يجب ان يكون على المفيض لا على الفيض، وعلى المنعم لا على النعمة. و{ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} المبدأ وعرفانه والمعاد وإتيانه فيختار الكمال على النقصان. وأثر العرفان للمعروف لا للعرفان فيكون حينئذ جوهر النفي كلمة طيبة كما قال في حق عيسى {كلمة من الله} [آل عمران: 39]. وإذا عرفت الكلمة الطيبة والشجرة الطيبة سهل عليك معرفة ضديهما. فالكلمة الخبيثة كلمة الشرك أو كل كلمة قبيحة أو كل نفس شريرة، والشجرة الخبيثة الباطل أو كل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والثوم ونحو ذلك. ومعنى اجتثت استؤصلت وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها {ما لها من قرار} أي من استقرار مصدر كالثبات والنبات. وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال: ما أعلم لها في الأرض مستقرًا ولا في السماء مصعدًا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها القيامة. قلت: وذلك أن الباطل لا قائل به ولا يوافقه فيه من هو بصدد الاعتبار فهو مضمحل زائل. والحق نقيض ذلك بل الباطل لا يستقر صاحبه عليه ولا يحصل له منه برد مضمحل زائل. والحق نقيض ذلك بل الباطل لا يستقر صاحبه عليه ولا يحصل له منه برد اليقين. وكذا النفس الخبيثة لا تكون لها طمأنينة ولا وقار، تراها أبدًا تسعى في الطرق المضلة والسبل المنحرفة كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران.
ولما شبه حال الفريقين بما شبه بين مآل حالهما فقال: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} أي الذي ثبت بالحجة والبرهان وتمكن في قلب صاحبه بحيث لم يكن للتشكيك فيه مجال. هذا في الحياة الدنيا فلا جرم إذا فتنوا في دينهم لم يزالوا كأصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا في القبول لم يتلعثموا، وإذا وقفوا بين يدي الجبار لم يبهتوا. عن ابن عباس: من دوام على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها. وقد ورد في حديث سؤال القبر عن البراء بن عازب مثل ذلك. والسبب العقلي فيه أن المواظبة على الفعل توجب رسوخ الملكة بحيث لا تزول بتبدل الأحوال وتقلب الأطوار. وإنما فسرت الآخرة هاهنا بالقبر لأن الميت ينقطع بالموت عن أحكام الدنيا ويدخل في أحكام الآخرة. فمعنى الآية يثبت الله الذين آمنوا بالله وبما يجب الإيمان به على ما آمنوا به في الدارين، أو يثبتهم الله فيهما بسبب القول الثابت على القول الثابت. وقيل: معنى الآية يثبتهم الله على الثواب والكرامة سببب القول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا، وسيصدر عنهم حال ما يكونون في الآخرة. ويرد عليه أن الآخرة ليست دار عمل وإن كان قوله: {في الحياة الدنيا} متعلقًا بقوله: {ويثبت} أي ثبتهم على الثواب في الدارين بسبب القول، ورد عليه أن الدنيا ليست دار ثواب، ويمكن أن يناقش في هذا الإيراد لقوله سبحانه: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} [النحل: 97] {ويضل الله الظالمين} الذين وضعوا الباطل موضع الحق والشرك بدل التوحيد في الدارين، فلا جرم إذا سئلوا في قبورهم قالوا لا ندري. {ويفعل الله ما يشاء} من التثبيت والإضلال. ولا اعتراض لأحد عليه أو من منح الألطاف ومنعها كما تقتضيه الحكمة.
ثم عجب من ظالمي مكة بقوله: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله} أي شكر نعمته {كفرًا} أي وضعوا مكان الشكر الكفر أو بدلوا نفس النعمة كفرًا أي سلبوا النعمة فلم يبق معهم إلا الكفر. وذلك أنه تعالى أسكنهم حرمه ووسع عليهم معايشهم وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فلم يقوموا بشكر تلك النعم فضربهم بالقحط سبع سنين وقتلوا يوم بدر وبقي الكفر طوقًا في أعناقهم وأعناق من تابعهم وذلك قوله: {وأحلوا قومهم دار البوار} أي الهلاك. وقوله: {جهنم} عطف بيان {وبئس القرار} أي المقر مصدر سمى به. قوله: {ليضلوا} من قرأ بضم الياء فاللام للغرض أو للعاقبة، ومن قرأ بفتحها فاللام للعاقبة لأن العاقل لا يريد ضلال نسه ولكنه قد يريد إضلال الغير لمصلحة دنيوية. وإنما حسن استعمال اللام لأجل العاقبة من حيث إنها تشبه الغاية والغرض من قبل حصولها في آخر المراتب والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز.
{قل تمتعوا} أمر وعيد وتهديد. قال جار الله: فيه إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع هو آمر الشهوة. والمعنى إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة {فإن مصيركم إلى النار} وإنما سمى عيش الكفار تمتعًا لأن إمهالهم في الدنيا على أيّ وجه يفرض يكون أسهل مما أعد لهم في الآخرة من العقاب. ومن الذين نزل فيهم؟ روي عن عمر أنه قال: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية. فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين. وقيل: هم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه. ولما أمر الكافرين بالتمتع بنعيم الدنيا تهديدًا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بحث المؤمنين على خلاف ذلك وهو الإقبال على ما ينفعهم في الآخرة فقال: {قل لعبادي الذين} المقول محذوف لأن جواب {قل} يدل عليه التقدير: قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. وجوز بعضهم أن يكون المذكور هو المقول بناء على أنه أمر غائب محذوف اللام. وإنما حسن الحذف لأن الأمر الذي هو {قل} عوض منه، ولول قيل: {يقيموا الصلاة وينفقوا} ابتداء بحذف اللام لم يجز. والخلال المخالة أراد أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في هذا اليوم الذي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مصادقة، وإنما ينتفع بالإنفاق لوجه الله. ونفي المخالة في هذه الآية وفي قوله في البقرة: {لا بيع فيه ولا خلة} [الآية: 254] لا ينافي إثباتها في قوله: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ ولا المتقين} [الزخرف: 67] لأن المنفية هي التي سببها ميل الطبيعة ورغبة النفس، والمثبتة هي التي يوجبها الاشتراك في الإيمان العمل الصالح.
ولما ختم أحوال المعاد عاد الى المبدإ فقال: {الله} وهو مبتدأ خبره {الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم} وقد مر في أول البقرة والمراد من السماء جهة العلو. وقيل: نفس السماء، وزيف بأن الإنسان ربما كان واقفًا على قلة جبل عال ويرى الغيم أسفل منه، وإذا نزل من ذلك الجبل يرى الغيم ماظرًا عليه. {وسخر لكم الفلك} كقوله في أواسط البقرة {والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} [الآية: 164] وقد مر. ومعنى {بأمره} بتيسيره وتسييره لأنه خلق موادها وألهم صنعتها وجعل الماء بحيث يسهل على وجهه جريها، ولأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال إنه أمر بكذا. ومنهم من حمل الأمر على الظاهر أي بقوله: كن. {وسخر لكم الأنهار} وجه المنة فيها أن البحر قلما ينتفع به في العمارة والزراعة لعمقه ولملوحته ففجر الله الأنهار والعيون والآبار الصالحة للانتفاع بها كما لا يخفى {وسخر لكم الشمس والقمر} أي صيرهما تحت تصرفه وتسخيره بحيث يعود انتفاع ذلك عليكم من التسخين والترطيب والإضاءة والإنارة لأنهما مذللان للإنس.
وقوله: {دائبين} نصب على الحال. والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة مطردة أي يدأبان في مسيرهما وإنارتهما وسائر منافعهما وخواصهما، وهكذا معنى التسخير في قوله: {وسخر لكم الليل والنهار} أي قدر هذين العرضين المتعاقبين لراحة الإنسان ولمعاشه. ولما فصل طرفًا من النعم أجمل الباقية منها بقوله: {وآتاكم من كل ما سألتموه} أي بعض جميع ما سألتموه. ومن قرأ بالتنوين ف {ما} إما نافية والجملة نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، أو موصولة بمعنى وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه وطلبتموه بلسان الحال. ثم بين أن نعم الله على عبيده غير متناهية فقال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} أي لا تقدرون على تعدادها لكثرتها بل لعدم تناهيها. قال الواحدي: النعمة هاهنا اسم أقيم مقام المصدر كالنفقة بمعنى الإنفاق ولهذا لم تجمع. ومن تأمل في تشريح الأبدان وفي أعضاء الحيوان وأجزائها من العروق الدقاق والأوردة والشرايين وفي كل واحد من الأعضاء البيسطة والمركبة ووقف على منافعها، عرف بعض دقائق نعم الله تعالى على عباده. وإذا جاوز النفس إلى الآفاق وسير فكره في أحوال الأجسام السفلية والعلوية، وقف من بديع صنعتها وعظيم منفعتها على ما يقضى منه العجب. وإذا عبر الملك إلى الملكوت تاه في أودية الحيرة والدهشة وتلاشى عقله عند أدنى سرادقات العزة والهيبة. قال الحكيم: إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها. أما الذي قبلها فكالخبز والطحن والزرع وغير ذلك من الآلات المعينة والأسباب الفاعلية والقابلية حتى تنتهي إلى الأفلاك والعناصر، وأما الذي بعده فكالقوى المعينة على الجذب والإمساك والهضم والدفع وكالأعضاء الحاملة لتلك القوى وكسائر الأمور النافعة في ذلك الباب خارجة من البدن أو داخلة فيه، فإنها لا تكاد تنحصر. وإذا كانت نعم الله تعالى في تناول لقمة واحدة تبلغ هذا المبلغ فكيف فيما جاوز ذلك؟ إذا كنت في عالم الأجساد، فإذا تخطيت إلى عالم الأرواح وأجلت طرف عقلك في ميادين القدس وحظائر الأنس وصادفت بعض ما هنالك من الكرامات واللذات فلعلك تعرف حق النعمة إذ تغرق في لجة المنة أو تغرف من نهر المنحة والنعم هنالك على وفق الاستعداد وإدراك النعم بمقدار الفهم والرشاد، فإن كنت أهلًا لها فذاك وإلا فلا تلم إلا نفسك {إن الإنسان} أي هذا الجنس {لظلوم} يظلم النعمة بإغفال شكرها {كفار} شديد الكفران لها وذلك أنه مجبول على النسيان والملالة فلابد أن يقع في إغفال شكر النعمة إن نسيها، أو في كفران النعمة إذا ملها.
وقيل: ظلوم في الشدائد بالشكاية والجزع كفار في السعة يجمع ويمنع. واعلم أنه ختم الآية في هذه السورة بما ختم وختمها في النحل بقوله: {إن الله لغفور رحيم} وكأنه قال: إن كنت ظلومًا فأنا غفور، وإن كنت كفارًا فأنا رحيم فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير، ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء، تلك صفتك في الأخذ وهذه صفتي في الإعطاء. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)}.
قوله: {أَلَمْ تَرَ}: هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له، وهو تعجيب من حال الكفار حيث جعلوا بدل نعمة الله عليهم الكفر أي: بدل شكرها الكفر، بها، وذلك بتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله منهم، وأنعم عليهم به، وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أنهم كفار مكة وأن الآية نزلت فيهم.
وقيل: نزلت في الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
وقيل: نزلت في بطنين من بطون قريش بني مخزوم، وبني أمية.
وقيل: نزلت في منتصرة العرب.
وهم جبلة بن الأيهم وأصحابه، وفيه نظر، فإن جبلة وأصحابه لم يسلموا إلاّ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقيل: إنها عامة في جميع المشركين.
وقيل: المراد بتبديل نعمة الله كفرًا أنهم لما كفروها سلبهم الله ذلك فصاروا متبدّلين بها الكفر {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} أي: أنزلوا قومهم بسبب ما زينوه لهم من الكفر دار البوار، وهي جهنم، والبوار: الهلاك.
وقيل: هم قادة قريش أحلوا قومهم يوم بدر دار البوار أي: الهلاك وهو القتل الذي أصيبوا به، ومنه قول الشاعر:
فلم أرَ مثلهم أبطال حرب ** غداة الحرب إذ خيف البوار

والأوّل أولى لقوله: {جَهَنَّمَ} فإنه عطف بيان لدار البوار، و{يَصْلَوْنَهَا} في محل نصب على الحال، أو هو مستأنف لبيان كيفية حلولهم فيها {وَبِئْسَ القرار} أي: بئس القرار قرارهم فيها، أو بئس المقرّ جهنم، فالمخصوص بالذمّ محذوف {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا} معطوف على {وأحلوا} أي: جعلوا لله شركاء في الربوبية، أو في التسمية وهي الأصنام.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {ليضلوا} بفتح الياء أي: ليضلوا أنفسهم عن سبيل الله، وتكون اللام للعاقبة، أي: ليتعقب جهلهم لله أندادًا ضلالهم، لأن العاقل لا يريد ضلال نفسه، وحسن استعمال لام العاقبة هنا؛ لأنها تشبه الغرض والغاية من جهة حصولها في آخر المراتب، والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز.
وقرأ الباقون بضم الياء ليوقعوا قومهم في الضلال عن سبيل الله، فهذا هو الغرض من جعلهم لله أندادًا.
ثم هدّدهم سبحانه، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَمَتَّعُواْ} بما أنتم فيه من الشهوات، وما زينته لكم أنفسكم من كفران النعم وإضلال الناس {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} أي: مردّكم ومرجعكم إليها ليس إلا، ولما كان هذا حالهم، وقد صاروا لفرط تهالكهم عليه وانهماكهم فيه لا يقلعون عنه، ولا يقبلون فيه نصح الناصحين، جعل الأمر بمباشرته مكان النهي قربانه إيضاحًا لما تكون عليه عاقبتهم، وأنهم لا محالة صائرون إلى النار فلابد لهم من تعاطي الأسباب المقتضية ذلك، فجملة: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} تعليل للأمر بالتمتع، وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره.
ويجوز أن تكون هذه الجملة جوابًا لمحذوف دلّ عليه سياق الكلام، كأنه قيل: فإن دمتم على ذلك فإن مصيركم إلى النار، والأوّل أولى والنظم القرآني عليه أدلّ.
وذلك كما يقال لمن يسعى في مخالفة السلطان: اصنع ما شئت من المخالفة، فإن مصيرك إلى السيف.
{قُل لّعِبَادِىَ الذين ءامَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً} لما أمره بأن يقول للمبدّلين نعمة الله كفرًا الجاعلين لله أندادًا ما قاله لهم، أمره سبحانه أن يقول للطائفة المقابلة لهم، وهي طائفة المؤمنين، هذا القول، والمقول محذوف دلّ عليه المذكور، أي: قل لعبادي: أقيموا وأنفقوا ويقيموا وينفقوا، فجزم {يقيموا} على أنه جواب الأمر المحذوف، وكذلك {ينفقوا}، ذكر معنى هذا الفراء.
وقال الزجاج: إنّ يقيموا مجزوم بمعنى اللام، أي: ليقيموا فأسقطت اللام، ثم ذكر وجهًا آخر للجزم مثل ما ذكره الفراء.
وانتصاب {سرّا} و{علانية}، إما على الحال، أي: مسرين ومعلنين، أو على المصدر، أي: إنفاق سرّ وإنفاق علانية، أو على الظرف، أي: وقت سرّ ووقت علانية.
قال الجمهور: السرّ: ما خفي. والعلانية: ما ظهر.
وقيل: السرّ: التطوّع، والعلانية الفرض، وقد تقدم بيان هذا عند تفسير قوله: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ} [البقرة: 271].
{مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال} قال أبو عبيدة: البيع ها هنا: الفداء، والخلال: المخالة، وهو مصدر.
قال الواحدي: هذا قول جميع أهل اللغة، وقال أبو عليّ الفارسي: يجوز أن يكون جمع خلة مثل برمة وبرام وعلبة وعلاب، والمعنى: أن يوم القيامة لا بيع فيه حتى يفتدي المقصر في العمل نفسه من عذاب الله بدفع عوض عن ذلك، وليس هناك مخاللة حتى يشفع الخليل لخليله، وينقذه من العذاب، فأمرهم سبحانه بالإنفاق في وجوه الخير مما رزقهم الله، ما داموا في الحياة الدنيا قادرين على إنفاق أموالهم من قبل أن يأتي يوم القيامة؛ فإنهم لا يقدرون على ذلك، بل لا مال لهم إذ ذاك، فالجملة، أعني: {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال}، لتأكيد مضمون الأمر بالإنفاق مما رزقهم الله، ويمكن أن يكون فيها أيضًا تأكيد لمضمون الأمر بإقامة الصلاة؛ وذلك لأن تركها كثيرًا ما يكون سبب الاشتغال بالبيع، ورعاية حقوق الأخلاء، وقد تقدم في البقرة تفسير البيع والخلال.