فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فذهب عامة أهل الأثر إلى أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة، واحتجوا بحديث عبد الله بن الزّبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة» قال الإمام الحافظ أبو عمر: وأسند هذا الحديث حبيبٌ المعلّم عن عطاء بن أبي رَبَاح عن عبد الله بن الزّبير وجوّده، ولم يخلّط في لفظه ولا في معناه، وكان ثقة.
قال ابن أبي خَيْثَمة سمعت يحيى بن مَعِين يقول: حبيبٌ المعلّم ثقة.
وذكر عبد الله بن أحمد قال سمعت أبي يقول: حبيب المعلم ثقة ما أصح حديثَه! وسئل أبو زُرْعة الرازيّ عن حبيب المعلم فقال: بصري ثقة.
قلت: وقد خرج حديث حبيب المعلم هذا عن عطاء بن أبي رَبَاح عن عبد الله بن الزبير عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الحافظُ أبو حاتم محمد بن حاتم التميمي البُستيِ في المسند الصحيح له، فالحديث صحيح وهو الحجة عند التنازع والاختلاف.
والحمد لله.
قال أبو عمر: وقد روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن الزبير؛ رواه موسى الجُهَني عن نافع عن ابن عمر؛ وموسى الجهني الكوفي ثقة، أثنى عليه القَطّان وأحمد ويحيى وجماعتهم، وروى عنه شعبة والثّوريّ ويحيى بن سعيد.
وروى حكيم بن سيف، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيما سواه» وحكيم بن سيف هذا شيخ من أهل الرِّقة قد روى عنه أبو زُرْعة الرازيّ، وأخذ عنه ابن وضّاح، وهو عندهم شيخ صدوق لا بأس به.
فإن كان حفِظ فَهُما حديثان، وإلا فالقول قول حبيب المعلم.
وروى محمد بن وضّاح، حدثنا يوسف بن عديّ عن عمر بن عبيد عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل» قال أبو عمر: وهذا كله نصٌّ في موضع الخلاف قاطع له عند من أُلْهِمَ رشدَه، ولم تَمل به عصبيّته.
وذكر ابن حبيب عن مُطَرِّف وعن أَصْبَغ عن ابن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على ما في هذا الباب.
وقد اتفق مالك وسائر العلماء على أن صلاة العيدين يُبْرَز لهما في كل بلد إلا مكة فإنها تُصلَّى في المسجد الحرام.
وكان عمر وعلي وابن مسعود وأبو الدَّرْدَاء وجابر يفضّلون مكة ومسجدها وهم أولى بالتقليد ممن بعدهم؛ وإلى هذا ذهب الشافعي، وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين، وروي مثله عن مالك؛ ذكر ابن وهب في جامعه عن مالك أن آدم عليه السلام لما أُهبط إلى الأرض قال: يا ربّ هذه أحب إليك أن تُعبدَ فيها؟ قال: بل مكة.
والمشهور عنه وعن أهل المدينة تفضيل المدينة، واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك؛ فطائفة تقول مكة، وطائفة تقول المدينة.
قوله تعالى: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ} الأفئدة جمع فؤاد وهي القلوب، وقد يُعبَّر عن القلب بالفؤاد كما قال الشاعر:
وإن فؤادًا قادني بصَبَابَةٍ ** إليكِ على طولِ المَدَى لَصَبُورُ

وقيل: جمع وَفْد، والأصل أوفدة، فقدّمت الفاء وقلبت الواو ياء كما هي، فكأنه قال: واجعل وفودًا من الناس تَهْوي إليهم؛ أي تَنزع؛ يقال: هوِي نحوه إذا مال، وهوت الناقة تَهوِي هُوِيًا فهي هاوية إذا عَدَت عَدْوًا شديدًا كأنها في هواء بئر، وقوله: {تهوي إِلَيْهِمْ} مأخوذ منه.
قال ابن عباس ومجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس، ولكن قال: {مِنَ النَّاسِ} فهم المسلمون؛ فقوله: {تَهْوي إِلَيْهِمْ} أي تحنّ إليهم، وتحنّ إلى زيارة البيت.
وقرأ مجاهد {تَهْوَى إِليهِم} أي تهواهم وتجلّهم.
{وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} فاستجاب الله دعاءه، وأنبت لهم بالطائف سائر الأشجار، وبما يجلب إليهم من الأمصار.
وفي صحيح البخاريّ عن ابن عباس الحديث الطويل وقد ذكرنا بعضه: «فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسمعيل يطالع تَرِكَته فلم يجد إسمعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألهم عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحن في ضيق وشدة؛ فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيّر عَتَبة بابه، فلما جاء إسمعيل كأنه آنس شيئًا فقال: هل جاءكم من أحدا قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشتنا فأخبرته أنّا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاكِ بشيء: قالت: أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيّر عَتَبة بابك؛ قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك؛ فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، ودخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله. قال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذ حبّ ولو كان لهم دعا لهم فيه. قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه...» وذكر الحديث.
وقال ابن عباس: قول إبراهيم {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ} سأل أن يجعل الله الناس يهوون السُّكْنى بمكة، فيصير بيتًا محرّمًا، وكل ذلك كان والحمد لله.
وأول من سكنه جُرْهُم.
ففي البخاريّ بعد قوله: وإن الله لا يُضيِّع أهْلَه وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السّيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، وكذلك حتى مرّت بهم رُفقة من جُرْهُم قافلين من طريق كُدَا، فنزلوا بأسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا: إن هذا الطائر ليَدُور على ماء! لَعهدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء؛ فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّين فإذا هُم بالماء، فأخبروهم بالماء فأقبلوا.
قال: وأمّ إسمعيل عند الماء؛ فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حقّ لكم في الماء.
قالوا: نعم.
قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فألفى ذلك أمّ إسمعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، شَبَّ الغلامُ، وماتت أم إسمعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوّج إسماعيل يطالع تَرِكَته...»؛ الحديث. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنًا}.
يعني ذا آمن يؤمن فيه وأراد بالبلد مكة.
فإن قلت: أي فرق بين قوله اجعل هذا بلدًا آمنًا وبين قوله اجعل هذا البلد آمنًا؟ قلت: الفرق بينهما أنه سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فيها ولا يخافون وسأل في الثاني أن يخرج هذا البلد من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمنًا {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} يعني أبعدني وبنيّ أن نعبد الأصنام.
فإن قلت قد توجه على هذه الآية إشكالات وهي من وجوه: الأول أن إبراهيم دعا ربه أن يجعل مكة آمنة ثم إن جماعة من الجبابرة وغيرهم، قد أغاروا عليها وأخافوا أهلها.
الوجه الثاني: أن الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام معصومون عن عبادة الأصنام، وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله اجنبني عن عبادتها.
الوجه الثالث: أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه أيضًا أن يجنب بنيه عن عبادة الأصنام، وقد وجد كثير من بنيه عبد الأصنام مثل كفار قريش، وغيرهم ممن ينسب إلى إبراهيم عليه السلام.
قلت: الجواب عن الوجوه المذكورة من وجوه: فالجواب على الوجه الأول: من وجهين أحدهما أن إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب، وهذا موجود بحمد الله ولم يقدر أحد على خراب مكة، وأورد على هذا ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» أخرجاه في الصحيحين.
وأجيب عنه بأن قوله: {اجعل هذا البلد آمنًا} يعني إلى قرب القيامة وخراب الدنيا وقيل: هو عام مخصوص بقصة ذو السويقتين فلا تعارض بين النصين.
الوجه الثاني: أن يكون المراد اجعل هذا البلد آمنين، وهذا الوجه عليه أكثر العلماء من المفسرين وغيرهم علو هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله: {ويتخطف الناس من حولهم}، وأهل مكة آمنون من ذلك حتى إن من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وما له من ذلك، وحتى إن الوحوش إذا كانت خارجة من الحرم استوحشت فإذا دخلت الحرم أمنت واستأنست لعلمها أنها لا يهيجها أحد في الحرم وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها وأما الجواب عن الوجه الثاني: فمن وجوه أيضًا: الوجه الأول: أن دعاء إبراهيم عليه السلام لنفسه لزيادة العصمة التثبيت، فهو كقوله واجعلنا مسلمين لك.
الوجه الثاني: أن إبراهيم عليه السلام، وإن كان يعلم أن الله سبحانه وتعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه دعا بهذا الدعاء، هضمًا للنفس وإظهارًا للعجز والحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى ورحمته، وأن أحدًا لا يقدر على نفع نفسه بشيء لم ينفعه الله به فلهذا السبب دعا لنفسه بهذا الدعاء وأما دعاؤه لبنيه، وهو الوجه الثالث من الإشكالات فالجواب عنه من وجوه: الأول أن إبراهيم دعا لبنيه من صلبه، ولم يعبد أحد منهم صنمًا قط.
الوجه الثاني: أنه أراد أولاده وأولاد أولاده الموجودين حالة الدعاء ولا شك أن إبراهيم عليه السلام قد أجيب فيهم.
الوجه الثالث قال الواحدي: دعا لمن أذن الله أن يدعو له فكأنه قال: وبني الذين أذنت لي في الدعاء لهم لأن دعاء الأنبياء مستجاب وقد كان من بنيه من عبد الصنم فعلى هذا الوجه يكون هذا الدعاء من العام المخصوص.
الوجه الرابع: أن هذا مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية: فمن تبعني فإنه مني، وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فليس منه، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
وقوله تعالى: {رب إنهن} يعني الأصنام {أضللن كثيرًا من الناس} وهذا مجاز لأن الأصنام جمادات، وحجارة لا تعقل شيئًا حتى تضل من عبدها إلا أنه لما حصل الإضلال بعبادتها أضيف إليها كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرتهم وإنما فتنوا بها واغتروا بسببها {فمن تبعني فإنه مني} يعني فمن تبعني على ديني واعتقادي، فإنه مني يعني المتدينين بديني المتمسكين بحبلي كما قال الشاعر:
إذا حاولت في أسد فجورًا ** فإني لست منك ولست مني

أراد ولست من المتمسكين بحبلي، وقيل: معناه أنه مني حكمه حكمي جار مجراي في القرب والاختصاص {ومن عصاني} يعني في غير الدين {فإنك غفور رحيم} قال السدي: ومن عصاني ثم تاب فإنك غفور رحيم.
وقال مقاتل: ومن عصاني فيما دون الشرك فإنك غفور رحيم.
وشرح أبو بكر بن الأنباري هذا فقال: ومن عصاني فخالفني في بعض الشرائع وعقائد التوحيد فإنك غفور رحيم إن شئت أن تغفر له غفرت إذا كان مسلمًا وذكر وجهين آخرين أحدهما أن هذا كان قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبويه، وهو يقول أن ذلك غير محظور فلما عرف أنهما غير مغفور لهما تبرأ منهما والوجه الآخر ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان، والإسلام وتهديه إلى الصواب.
قوله إخبارًا عن إبراهيم {ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم} خ عن ابن عباس قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقًا لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم منطقًا فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم إلى أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء فقالت له ذلك مرارًا وجعل لا يلتفت إليها فقالت آلله أمرك بهذا؟ قال نعم قالت إذن لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم فدعا بهذه الدعوات فرفع يديه؛ فقال: رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع حتى بلغ يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفاء أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليها ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا فهبطت منه حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدًا فلم ترى أحدًا ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت صوتًا أيضًا فقالت: قد أسمعت أن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بقعبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه، وتقول: بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف» وفي رواية «قدر ما تغرف» قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه سلم: «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا. قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتا لله تعالى، يبنيه هذا الغلام وأبوه وأن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرًا عائفًا. فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي، وما فيه ماء فأرسلوا جريًا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا، وأم إسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك قالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا: قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه سلم: فألقى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا أهليهم، فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم وشب الغلام، وتعلم العربية منهم وآنسهم وأعجبهم حين حين شب فلما أدرك زوجوه بامرأة منهم وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته» أخرجه البخاري بأطول من هذا، وقد تقدم الحديث بطوله في تفسير سورة البقرة، وأما تفسير الآية فقوله ربنا إني أسكنت من ذريتي من للتبعيض أي بعض ذريتي وهو إسماعيل عليه السلام بواد غير ذي زرع يعني ليس فيه زرع، لأنه واد بين جبلين جبل أبي قبيس وجبل أجياد وهو واد بمكة عند بيتك المحرم سماه محرمًا لأنه يحترم عنده ما لا يحترم عند غيره، وقيل: لأن الله حرمه على الجبابرة فلم ينالوه بسوء وحرم التعرض له والتهاون به، وبحرمته وجعل ما حوله محرمًا لمكانه، وشرفه وقيل: لأنه حرم على الطوفان بمعنى امتنع منه وقيل: سمي محرمًا لأن الزائرين له يحرمون على أنفسهم أشياء كانت مباحة لهم من قبل وسمي عتيقًا أيضًا لأنه أعتق من الجبابرة أو من الطوفان.
فإن قلت: كيف قال عند بيتك المحرم ولم يكن هناك بيت حينئذ، وإنما بناه إبراهيم بعد ذلك.