فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ ءَامِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا منَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى}.
كما سأل أن يجعل مكةً بلدًا آمنًا طلب أن يجعل قلبَه محلًا آمنًا؛ أي لا يكون فيه شيءٌ إلا بالله. {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}: والصنم ما يعبد من دونه، قال تعالى: {أَفَرَءَيْتَ مِنَ اتَّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] فصنمُ كل أحدٍ ما يشغله عن الله تعالى من مالٍ ووَلَدٍ وجاهٍ وطاعة وعبادة.
ويقال إنه لمَّا بنى البيتَ استعان بالله أن يجرِّدَه من ملاحظة نفسه وفعله. ويقال إنه صلى الله عليه وسلم كان مترددًا بين شهود فضل الله وشهود رفق فسه، فلما لقي من فضله وجوده قال قال من كمال بسطه: {وَاغْفِرْ لأَبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِينَ} [الشعراء: 86]. ولما نظر من حيث فقر نفسه قال: {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}.
ويقال شاهد غيره فقال: {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}، وشاهد فضله ورحمته ولطفه فقال: {وَاغْفِرْ لأَبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِينَ} [الشعراء: 86].
قوله جلّ ذكره: {فَمَن تَبِعَنِى فإِنَّهُ مِنِىّ وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رًّحِيمٌ}.
{فَإِنَّهُ مِنِىّ}: أي موافق لي ومن أهل مِلَّتِي، ومن عصاني خالفني وعصاك.
قوله: {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رًّحِيمٌ}: طلبٌ للرحمة بالإشارة، أي فارحمهم.
وقال: {وَمَنْ عَصَانِى} ولم يَقُلْ: مَنْ عصاك، وإنْ كان من عصاه فقد عصى الله، ولكن اللفظ إنما لطلب الرحمة فيما كان نصيب من ترك حقه، ولم ينتصر لنفسه بل قابلهم بالرحمة.
ويقال إن قولَ نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أتمُّ في معنى العفو حيث قال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»، وإبراهيم- عليه السلام- عَرَّضَ وقال: {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رًّحِيمٌ}.
ويقال لم يجزم السؤال لأنه بدعاء الأدب فقال: {وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رًّحِيمٌ}.
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}.
أخبر عن صدق توكله وصدق تفويضه بقوله: {إني أسكنت} وإنما رأى الرِّفقَ بهم في الجوارِ لا في المَبَارِّ قال: {عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} ثم قال: {لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ}: أي أسكنتُم لإقامة حقِّكَ لِطَلَبِ حظوظهم.
ويقال اكتفى أن يكونوا في ظلال عنايته عن أن يكونوا في ظلال نعمته.
ثم قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوَى إِلَيْهِمْ} أي ليشتغلوا بعبادتك، وأقم قومي- ما بقوا- بكفايتك، {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ}: فإنَّ مَنْ قام بحقِّ الله أقام اللَّهُ بحقّه قَوْمَه، واستجاب اللَّهُ دعاءَه فيهم، وصارت القلوبُ من كل بَر وبحرٍ كالمجبولة على محبة تلك النسبة، وأولئك المتصلين، وسكان ذلك البيت.
ويقال قوله: {بِوَادٍ غَيرِ ذي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37]: أي أسكنتهُم بهذا الوادي حتى لا تتعلق بالأغيار قلوبُهم، ولا تشتغل بشَيءٍ أفكارهم وأسرارُهم، فهم مطروحون ببَابِكَ، مصونون بحضرتك، مرتبطون بحُكْمِك؛ إنْ رَاعيتَهُم كَفَيْتَهُم وكانوا أَعَزَّ خَلْقِ الله، وإنْ أقصيتَهم ونفيتهم كانوا أضعفَ وأذلَّ خَلْقِ الله. اهـ.

.تفسير الآيات (38- 41):

قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما فرغ من الدعاء بالأهم من الإبقاء على الفطرة الأولى المشوقة للعزائم إلى العكوف في دارة الأنس، ومن الكفاية لهم المعاش، المنتج للشكر بإنفاق الفضل، وتبين من ذلك أنهم خالفوا أعظم آبائهم في جميع ما قصده لهم من المصالح، أتبعه ما يحث على الإخلاص في ذلك وغيره له ولغيره ليكون أنجح للمراد بضمان الإسعاد ولاسيما مع تكرير النداء الدال على مزيد التضرع فقال: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا المالك لجميع أمورنا {إنك تعلم ما} أي جميع ما {نخفي وما نعلن} ثم أشار إلى عموم علمه فقال: {وما يخفى على الله} أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلمًا.
وبالغ في النفي فقال: {من شيء} من ذلك ولا غيره {في الأرض} ولما كان في سياق المبالغة، أعاد النافي تأكيدًا فقال: {ولا في السماء} أي فهو غير محتاج إلى التعريف بالدعاء، فالدعاء إنما هو لإظهار العبودية، واسم الجنس شامل لما فوق الواحد، ومن فوائد التعبير بالإفراد الدلالة على أن من كان محيطًا بكل ما في المتقابلين من غير أن يحجبه أحدهما عن الآخر، كان محيطًا بغيرهما كذلك من غير فرق.
ولما تم ما دعا به من النزاهة عن رجاسة الشرك وتبين بتقديمه أن أهم المهمات البراءة منه، أتبعه الحمد على ما رزق من النعم وما تبع ذلك من الإشارة إلى وجوب الشكر فقال: {الحمد لله} أي المستجمع لصفات الكمال {الذي وهب} والهبة: هبة تمليك من غير عقد، منًّا منه {لي} حال كوني مستعليًا {على الكبر} ومتمكنًا منه على يأس من الولد {إسماعيل} الذي أسكنته هنا {وإسحاق} وهذا يدل على ما تقدم فهمي له من أن هذا الدعاء كان بعد بناء البيت وطمأنينته بإسحاق عليه السلام، عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن سنه كان عند ولادة إسماعيل عليه السلام تسعًا وتسعين سنة، وعند ولادة إسحاق عليه السلام كان مائة سنة واثنتي عشرة سنة.
ولما كان إتيان الولد له في سن لا يولد فيه لمثله، وجميع ما دعا به من الخوارق فوجوده لا يكاد يصدق، أشار إلى ذلك بتأكيد قوله: {إن ربي} أي المحسن إليّ {لسميع الدعاء} أي من شأنه إجابة الدعاء على الوجه الأبلغ تعريضًا بالأنداد وإشارة إلى ما تضمنه تأسفه على العقم، فقد تقدم في سورة البقرة عن التوراة أنه لما خلّص ابن أخيه لوطًا من الأسر قال له الله: يا إبراهيم! أنا أكانفك وأساعدك لأن ثوابك قد جزل، فقال إبرم: اللهم ربي! ما الذي تنحلني وأنا خارج من الدنيا بلا نسل ويرثني اليعازر غلامي الدمشقي؟ فقال له الرب: لا يرثك هذا، بل ابنك الذي يخرج من صلبك فهو يرثك، وقال له: انظر إلى السماء وأحص النجوم إن كنت تقدر أن تحصيها، فكذلك تكون ذريتك، فآمن إبرم بالله.
ولما تم الحمد على النعمة بعد الدعاء بالتخلي من منافي السعادة وختمه بالحمد على إجابة الدعاء، انتهز الفرصة في إتباعه الدعاء بالتحلي بحلية العبادة التي أخبر أنها قصده بإسكانه من ذريته ثم إقامتها، إشارة إلى صعوبتها على النفس إلا بمعونة الله فقال: {رب} أي أيها الموجد لي المالك لأمري {اجعلني مقيم الصلاة} أي هذا النوع الدال على غاية الخضوع، دائم الإقامة لها، وكأن الله تعالى أعلمه بأنه يكون من ذريته من يكفر فقال أدبًا: {ومن ذريتي}.
ولما كانت أعظم الأركان بعد الإيمان، أفراد الضمير للدعاء بها متملقًا لله تعالى بما عليه من النعم التي لم ينعمها على أحد كان في ذلك الزمان غيره، كما أشار إلى ذلك باسم الرب، ثم زاد في التضرع بقوله: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا، وجمع الضمير المضاف إليه بالنظر إلى من تبعه من ذريته لأن ما بعده كلام آخر، أي رب وربَّ مّن وفقته بتربيتك وإحسانك لإقامة الصلاة من ذريتي {وتقبل دعاء} كله بذلك وغيره، بأن تجعله مقبولًا جعلَ من كأنه راغب فيه مفتن به.
ولما كان الإنسان ولو اجتهد كل الاجتهاد- محل العجز الموجب للتقصير المفتقر للستر، قال مشيرًا إلى ذلك: {ربنا} أي أيها المالك لأمورنا المدبر لنا {اغفر لي} ثم أشرك معه أقرب الناس إليه وأحقهم بشكره فقال: {ولوالدي} وقد كان استغفاره لهما قبل أن يعلم أن أباه مات كافرًا، وقد علم من السياق أنه إذا كان وحده أضاف إلى ضميره، وإذا تقدم ما يحسن جمعه معه جمع إن كان ما بعده مستقلًا، ثم كل من تبعه في الدين من ذريته وغيرهم فقال: {وللمؤمنين} أي العريقين في الوصف {يوم يقوم} أي يظهر ويتحقق على أعلى وجوهه {الحساب}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)}.
المطلوب الرابع: قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ}.
واعلم أنه عليه السلام لما طلب من الله تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم، ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهايات الأمور في المستقبل، وأنه تعالى هو العالم بها المحيط بأسرارها، فقال: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ} والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا، قيل: ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسماعيل، وما نعلن من البكاء، وقيل: ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حيث قالت له عند الوداع إلى من تكلنا؟ فقال إلى الله أكلكم، قالت آلله أمرك بهذا؟ قال نعم: قالت إذن لا نخشى.
ثم قال: {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شيء في الأرض وَلاَ في السماء} وفيه قولان: أحدهما: أنه كلام الله عز وجل تصديقًا لإبراهيم عليه السلام كقوله: {وكذلك يَفْعَلُونَ} [النحل: 34] والثاني: أنه من كلام إبراهيم عليه السلام يعني وما يخفي على الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان، ولفظ {من} يفيد الاستغراق كأنه قيل: وما يخفى عليه شيء ما.
ثم قال: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق} وفيه مباحث:
البحث الأول: اعلم أن القرآن يدل على أنه تعالى إنما أعطى إبراهيم عليه السلام هذين الولدين أعني إسمعيل وإسحاق على الكبر والشيخوخة، فأما مقدار ذلك السن فغير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات فقيل لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعًا وتسعين سنة، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة وقيل ولد له إسمعيل لأربع وستين سنة وولد إسحاق لتسعين سنة، وعن سعيد بن جبير: لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، وإنما ذكر قوله: {عَلَى الكبر} لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم، من حيث إن هذا الزمان زمان وقوع اليأس من الولادة والظفر بالحاجة في وقت اليأس من أعظم النعم، ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم.
فإن قيل: إن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء عندما أسكن إسمعيل وهاجر أمه في ذلك الوادي، وفي ذلك الوقت ما ولد له إسحاق فكيف يمكنه أن يقول: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق}.
قلنا قال القاضي: هذا الدليل يقتضي أن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدم من الدعاء.
ويمكن أيضًا أن يقال: إنه عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسمعيل وظهور إسحاق وإن كان ظاهر الروايات بخلافه.
البحث الثاني: على في قوله: {عَلَى الكبر} بمعنى مع كقول الشاعر:
إني على ما ترين من كبري ** أعلم من حيث يؤكل الكتف

وهو في موضع الحال ومعناه: وهب لي في حال الكبر.
البحث الثالث: في المناسبة بين قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شيء في الأرض وَلاَ في السماء} وبين قوله: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق} وذلك هو كأنه كان في قلبه أن يطلب من الله إعانتهما وإعانة ذريتهما بعد موته ولكنه لم يصرح بهذا المطلوب، بل قال: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ} أي إنك تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا، ثم قال: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق} وذلك يدل ظاهرًا على أنهما يبقيان بعد موته وأنه مشغول القلب بسببهما فكان هذا دعاء لهما بالخير والمعونة بعد موته على سبيل الرمز والتعريض وذلك يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء قال عليه السلام حاكيًا عن ربه أنه قال: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» ثم قال: {إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدعاء}.
واعلم أنه لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإيضاح والتصريح قال: {إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدعاء} أي هو عالم بالمقصود سواء صرحت به أو لم أصرح وقوله: {سميع الدعاء}.
من قولك سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه سمع الله لمن حمده.
المطلوب الخامس: قوله: {رَبّ اجعلنى مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرّيَتِى} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
احتج أصحابنا بهذا الآية على أن أفعال العبد مخلوقة لله تعالى فقالوا إن قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} يدل على أن ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله وقوله: {رَبّ اجعلنى مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرّيَتِى} يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله، وذلك تصريح بأن إبراهيم عليه السلام كان مصرًا على أن الكل من الله.
المسألة الثانية:
تقدير الآية: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي.
أي واجعل بعض ذريتي كذلك لأن كلمة {من} في قوله: {وَمِن ذُرّيَتِى} للتبعيض، وإنما ذكر هذا التبعيض لأنه علم باعلام الله تعالى أنه يكون في ذريته جمع من الكفار وذلك قوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين}.
المطلوب السادس: أنه عليه السلام لما دعا الله في المطالب المذكورة دعا الله تعالى في أن يقبل دعاءه فقال: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} وقال ابن عباس: يريد عبادتي بدليل قوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [مريم: 48].
المطلوب السابع: قوله: {رَبَّنَا اغفر لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
لقائل أن يقول: طلب المغفرة إنما يكون بعد سابقة الذنب فهذا يدل على أنه كان قد صدر الذنب عنه وإن كان قاطعًا بأن الله يغفر له فكيف طلب تحصيل ما كان قاطعًا بحصوله؟
والجواب: المقصود منه الالتجاء إلى الله تعالى وقطع الطمع إلا من فضله وكرمه ورحمته.
المسألة الثانية:
إن قال قائل كيف جاز أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟
فالجواب عنه من وجوه: الأول: أن المنع منه لا يعلم إلا بالتوقيف فلعله لم يجد منه منعًا فظن كونه حائزًا.
الثاني: أراد بوالديه آدم وحواء.
الثالث: كان ذلك بشرط الإسلام.
ولقائل أن يقول: لو كان الأمر كذلك لما كان ذلك الاستغفار باطلًا ولو لم يكن لبطل قوله تعالى: {إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] وقال بعضهم: كانت أمه مؤمنة، ولهذا السبب خص أباه بالذكر في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]، والله أعلم وفي قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الحساب} قولان: الأول: يقوم أي يثبت وهو مستعار من قيام القائم على الرجل، والدليل عليه قولهم: قامت الحرب على ساقها، ونظيره قوله ترجلت الشمس، أي أشرقت وثبت ضوءها كأنها قامت على رجل.
الثاني: أن يسند إلى الحساب قيام أهله على سبيل المجاز مثل قوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82] أي أهلها، والله أعلم. اهـ.