فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ}.
من الحاجات وغيرِها، والمرادُ بما نُخفي ما يقابل ما نعلن سواءٌ تعلق به الإخفاءُ أو لا، أي تعلم ما نظهره وما لا نظهره فإن علمَه تعالى متعلّقٌ بما لا يخطُر بباله مما فيه من الأحوال الخفية فضلًا عن إخفائه، وتقديمُ ما نخفي على ما نعلن لتحقيق المساواةِ بينهما في تعلق العلم بهما على أبلغ وجهٍ فكأن تعلقه بما يخفى أقدمُ منه بما يُعلن، أو لأن مرتبة السرِّ والخفاءِ متقدمةٌ على مرتبة العلن إذ ما من شيء يُعلن إلا وهو قبل ذلك خفيٌّ فتعلقُ علمِه سبحانه بحالته الأولى أقدمُ من تعلقه بحالته الثانية، وقصدُه عليه السلام أن إظهارَ هذه الحاجات وما هو من مباديها وتتماتها ليس لكونها غيرَ معلومةٍ لك، بل إنما هو لإظهار العبوديةِ والتخشّعِ لعظمتك، والتذلّل لعزتك، وعرضِ الافتقارِ إلى ما عندك، والاستعجالِ لنيل أياديك. وتكريرُ النداءِ للمبالغة في الضراعة والابتهال، وضميرُ الجماعة لأن المرادَ ليس مجردَ علمِه تعالى بسرِّه وعلنه بل بجميع خفايا المُلك والملَكوت وقد حققه بقوله على وجه الاعتراض: {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شيء في الأرض وَلاَ في السماء} لما أنه العالمُ بالذات فما من أمر يدخُل تحت الوجود كائنًا ما كان في زمان من الأزمان إلا ووجودُه في ذاته علمٌ بالنسبة إليه سبحانه، وإنما قال: وما يخفي على الله إلخ، دون أن يقول: ويعلم ما في السموات والأرض تحقيقًا لما عناه بقوله: {تعلم ما نخفي} من أن علمَه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبةُ خفاءٍ بالنسبة إلى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقاتِ، وكلمةُ في متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لشيءٍ، أي من شيء كائنٍ فيهما، أعمُّ من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما، أو على وجه الجزئيةِ منهما أو بيخفى، وتقديمُ الأرض على السماء مع توسيط لا بينهما باعتبار القربِ والبعدِ منا المستدعِيَين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا، والالتفاتُ من الخطاب إلى اسم الذاتِ المستجمعةِ للصفات لتربية المهابةِ والإشعارِ بعلة الحُكمِ على نهج قوله تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} والإيذانِ بعمومه لأنه ليس بشأن يُختص به أو بمن يتعلق به، بل شاملٌ لجميع الأشياء فالمناسبُ ذكرُه تعالى بعنوان مصحِّحٍ لمبدإ الكلّ، وقيل: هو من كلام الله عز وجل وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه: {وكذلك يَفْعَلُونَ} ومن للاستغراق على الوجهين.
{الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِى عَلَى الكبر} أي مع كِبَري ويأسي عن الولد، قيّد الهبةَ به استعظامًا للنعمة وإظهارًا لشكرها {إسماعيل وإسحاق} رُوي أنه وُلد له إسماعيلُ وهو ابنُ تسعٍ وتسعين سنة، وولد له إسحاقُ وهو ابن مائةٍ واثنتي عشرة سنة أو مائة وسبعَ عشرة سنة.
{إِنَّ رَبّى} ومالكَ أمري {لَسَمِيعُ الدعاء} لمجيبُه، من قولهم: سمِع الملكُ كلامَه إذا اعتدّ به، وهي من أبنية المبالغةِ العاملة عمَلَ الفعل أُضيف إلى مفعولِه أو فاعلِه بإسناد السماعِ إلى دعاء الله تعالى مجازًا، وهو مع كونه من تتمة الحمدِ والشكر إذ هو وصفٌ له تعالى بأن ذلك الجميلَ سنّته المستمرّةُ تعليلٌ على طريقة التذييل للهبة المذكورة، وفيه إيذانٌ بتضاعف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاءِ بقوله: {رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين} فاقترنت الهبةُ بقبول الدعوةِ، وتوحيدُ ضمير المتكلم وإن كان عَقيبَ ذكرِ هبتهما لما أن نعمةَ الهبةِ فائضةٌ عليه خاصة وهما من النعم لا من المنعَم عليهم.
{رَبّ اجعلنى مُقِيمَ الصلاة}.
مثابرًا عليها معدّلًا لها، وتوحيدُ ضمير المتكلم مع شمول دعوتِه لذريتِه أيضًا حيث قال: {وَمِن ذُرّيَتِى} أي بعضِهم من المذكورين ومن يسير سيرتَهما من أولادهما للإشعار بأنه المقتدى في ذلك وذرّيتُه أتباعٌ له وإن ذكَرهم بطريق الاستطراد، لا كما في قوله: {رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ} إلخ، فإن إسكانَه مع عدم تحققِه بلا ملابسةٍ لمن أسكنه إنما هو مذكورٌ بطريق التمهيد للدعاء الذي هو مخصوصٌ بذريته وإنما خَصّ هذا الدعاءَ ببعض ذريته لعلمه من جهة الله تعالى أن بعضًا منهم لا يكون مقيمَ الصلاة كقوله تعالى: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} أي دعائيَ هذا المتعلِّقَ بجعلي وجعلِ بعض ذرّيتي مقيمي الصلاةِ ثابتين على ذلك مجتنبين عن عبادة الأصنامِ، ولذلك جيء بضمير الجماعة.
{رَبَّنَا اغفر لِى} أي ما فرَطَ مني من ترك الأَولى في باب الدين وغيرَ ذلك مما لا يسلم منه البشر {وَلِوَالِدَىَّ} وقرئ بالتوحيد ولأبوي، وهذا الاستغفارُ منه عليه السلام إنما كان قبل تبيّن الأمرِ له عليه السلام، وقيل: أراد بوالديه آدمَ وحواءَ، وقيل: بشرط الإسلام ويردّه قوله تعالى: {إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم} الآية، وقد مر في سورة التوبة نوعُ تحقيقٍ للمقام سيأتي تمامه في سورة مريم بفضل الله تعالى: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} كافة من ذريته وغيرهم وللإيذان باشتراك الكلِّ في الدعاء بالمغفرة جيء بضمير الجماعة {يَوْمَ يَقُومُ الحساب} أي يثبُت ويتحقق محاسبةُ أعمالِ المكلفين على وجه العدل، استُعير له من ثبوت القائمِ على الرجل بالاستقامة، ومنه قامت الحربُ على ساق، والمرادُ تهويلُه، وقيل: أسند إليه قيامُ أهلِه مجازًا أو حذف المضاف كما في {واسئل القرية} واعلم أن ما حكي عنه عليه السلام من الأدعية والأذكار وما يتعلق بها ليس بصادر عنه على الترتيب المَحْكيِّ ولا على وجه المعيّة، بل صدر عنه في أزمنة متفرّقةٍ حُكي مرتبًا للدِلالة على سوء حال الكفرةِ بعد ظهور أمرِه في الملة وإرشادِ الناس إليها والتضرّعِ إلى الله تعالى لمصالحهم الدينية والدنيوية. اهـ.

.قال الألوسي:

{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ}.
من الحاجات وغيرها، وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي أن مراده عليه السلام ما نخفي من حب إسماعيل وأمه وما نعلن لسارة من الجفاء لهما، وقيل: ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة وما نعلن من البكاء والدعاء، وقيل: ما نخفى من كآبة الافتراق وما نعلن مما جرى بيننا وبين هاجر عند الوداع من قولها: إلى من تكلنا؟ وقولي لها: إلى الله تعالى، و{مَا} في جميع هذه الأقوال موصولة والعائد محذوف؛ والظاهر العموم وهو المختار، والمراد بما نخفي على ما قيل ما يقابل {مَا نُعْلِنُ} سواء تعلق به الإخفاء أو لا أي تعلم ما نظهره وما لا نظهره فإن علمه تعالى متعلق بما لا يخطر بباله عليه السلام من الأحوال الخفية، وتقديم {مَا نُخْفِى} على {مَا نُعْلِنُ} لتحقيق المساواة بينهما في تعلق العلم على أبلغ وجه فكان تعلقه بما يخفى أقدم منه بما يعلن أو لأن مرتبة السر والخفاء متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو قبل ذلك خفي فتعلق علمه تعالى بحاله الأولى أقدم من تعلقه بحالته الثانية، وجعل بعضهم {مَا} مصدرية والتقديم والتأخير لتحقيق المساواة أيضًا، ومن هنا قيل: أي تعلم سرنا كما تعلم علننا.
والمقصود من فحوى كلامه عليه السلام أن إظهار هذه الحاجات وما هو من مباديها وتتماتها ليس لكونها غير معلومة لك بل إنما هو لإظهار العبودية والتخشع لعظمتك والتذلل لعزتك وعرض الافتقار لما عندك والاستعجال لنيل أياديك، وقيل: أراد عليه السلام أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا وأرحم بنا من أنفسنا فلا حاجة لنا إلى الطلب لكن ندعوك لإظهار العبودية إلى آخره، وقد أشار السهروردي إلى أن ظهور الحال يغني عن السؤال بقوله:
ويمنعني الشكوى إلى الناس أنني ** عليل ومن أشكو إليه عليل

ويمنعني الشكوى إلى الله أنه ** عليم بما أشكوه قبل أقول

وتكرير النداء للمبالغة في الضراعة والابتهال، وضمير الجماعة كما قال بعض المحققين لأن المراد ليس مجرد علمه تعالى بما يخفى وما يعلن بل بجميع خفايا الملك والملكوت وقد حققه عليه السلام بقوله على وجه الاعتراض: {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شيء في الأرض وَلاَ في السماء} لما أن علمه تعالى ذاتي فلا يتفاوت بالنسبة إليه معلوم دون معلوم، وقال أبو حيان: لا يظهر تفاوت بين إضافة رب إلى ياء المتكلم وبين إضافته إلى جمع المتكلم اهـ.
ومما نقلنا يعلم وجه إضافة {رَبّ} هنا إلى ضمير الجمع، ولا أدري ماذا أراد أبو حيان بكلامه هذا، وما يرد عليه أظهر من أن يخفى، وإنما قال عليه السلام: {وَمَا يخفى} إلى آخره دون أن يقول: ويعلم ما في السموات والأرض تحقيقًا لما عناه بقوله: {تَعْلَمُ مَا نُخْفِى} من أن علمه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبة خفاء بالنسبة إلى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقات.
وكلمة {فِى} متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء أي لشيء كائن فيهما أعم من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما أو على وجه الجزئية منهما، وجوز أن تتعلق بيخفى وهو كما ترى.
وتقديم الأرض على السماء مع توسيط {لا} بينهما باعتبار القرب والبعد منا المستعدين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا.
والمراد من {السماء} ما يشمل السموات كلها ولو أريد من {الأرض} جهة السفل ومن السماء جهة العلو كما قيل جاز، والالتفات من الخطاب إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم والإيذان بعمومه لأنه ليس بشأن يختص به أو بمن يتعلق به بل شامل لجميع الأشياء فالمناسب ذكره تعالى بعنوان مصحح لمبدئية الكل، وعن الجبائي أن هذا من كلام الله تعالى شأنه وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه: {وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] والأكثرون على الأول.
{وَمِنْ} على الوجهين للاستغراق.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ}.
أي مع كبر سني ويأسي عن الولد فعلى بمعنى مع كما في قوله:
إني على ما ترين من كبري ** أعرف من أين تؤكل الكتف

والجار والمجرور في موضع الحال، والتقييد بذلك استعظامًا للنعمة وإظهارًا لشكرها، ويصح جعل {عَلَىَّ} بمعناها الأصلي والاستعلاء مجازي كما في البحر، ومعنى استعلائه على الكبر أنه وصل غايته فكأنه تجاوزه وعلا ظهره كما يقال: على رأس السنة، وفيه من المبالغة ما لا يخفى، وقال بعضهم: لو كانت للاستعلاء لكان الأنسب جعل الكبر مستعليًا عليه كما في قولهم: على دين، وقوله: {وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ} [الشعراء: 14] بل الكبر أولى بالاستعلاء منهما حيث يظهر أثره في الرأس {واشتعل الرأس شَيْبًا} [مريم: 4] نعم يمكن أن تجري على حقيقتها بجعلها متعلقة بالتمكن والاستمرار أي متمكنًا مستمرًا على الكبر، وهو الأنسب لإظهار ما في الهيئة من الآية حيث لم يكن في أول الكبر اهـ وفيه غفلة عما ذكرنا {إسماعيل وإسحاق} روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه وهب له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، ووهب له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة، وفي رواية أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين، وإسحاق لسبعين، وعن ابن جبير لم يولد لإبراهيم عليه السلام إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة {إِنَّ رَبّى} ومالك أمري {لَسَمِيعُ الدعاء} أي لمجيبه فالسمع بمعنى القبول والإجابة مجاز كما في سمع الله تعالى لمن حمده، وقولهم: سمع الملك كلامه إذا اعتد به وقبله، وهو فعيل من أمثلة المبالغة واعمله سيبويه وخالف في ذلك جمهور البصريين، وخالف الكوفيون فيه وفي أعمال سائر أمثلتها، وهو إذا قلنا بجواز عمله مضاف لمفعوله أن أريد به المستقبل، وقيل: إنه غير عامل لأنه قصد به الماضي أو الاستمرار، وجوز الزمخشري أن يكون مضافًا لفاعله المجازي فالأصل سميع دعاؤه بجعل الدعاء نفسه سامعًا، والمراد أن المدعو وهو الله تعالى سامع.
وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد لاستلزامه أن يكون من باب الصفة المشبهة وهو متعد ولا يجوز ذلك إلا عند الفارسي حيث لا يكون لبس نحو زيد ظالم العبيد إذا علم أن له عبيدًا ظالمين، وههنا فيه إلباس لظهور أنه من إضافة المثال للمفعول انتهى، وهو كلام متين.
والقول بأن اللبس منتف لأن المعنى على الإسناد المجازي كلام واه لأن المجاز خلاف الظاهر فاللبس فيه أشد ومثله القول بأن عدم اللبس إنما يشترط في إضافته إلى فاعله على القطع، وهذا كما قال بعض الأجلة مع كونه من تتمة الحمد والشكر لما فيه من وصفه تعالى بأن قبول الدعاء عادته سبحانه المستمرة تعليل على طريق التذييل للهبة المذكورة؛ وفيه إيذان بتضاعيف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاء بقوله: {رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين} [الصافات: 100] فاقترنت الهبة بقبول الدعوة، وذكر بعضهم أن موقع قوله: {الحمد للَّهِ} وتذييله موقع الاعتراض بين أدعيته عليه السلام في هذا المكان تأكيدًا للطلب بتذكير ما عهد من الإجابة، يتوسل إليه سبحانه بسابق نعمته تعالى في شأنه كأنه عليه السلام يقول اللهم استجب دعائي في حق ذريتي في هذا المقام فإنك لم تزل سميع الدعاء وقد دعوتك على الكبر أن تهب لي ولدًا فأجبت دعائي وهبت لي إسماعيل وإسحاق ولا يخفى أن إسحاق عليه السلام لم يكن مولودًا عند دعائه عليه السلام السابق فالوجه أن لا يجعل ذلك اعتراضًا بل يحمل على أن الله تعالى حكى جملًا مما قاله إبراهيم عليه السلام في أحايين مختلفة تشترك كلها فيما سيق له الكلام من كونه عليه السلام على الإيمان والعمل الصالح وطلب ذلك لذريته وأن ولده الحقيقي من تبعه على ذلك فترك العناد والكفر، وقد ذكر هذا صاحب الكشف.
ومما يعضده ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله: {الحمد للَّهِ} الخ: قال: هذا بعد ذلك بحين، ووحد عليه السلام الضمير في {رَبّ} وإن كان عقيب ذكر الولدين لما أن نعمة الهبة فائضة عليه عليه السلام خاصة وهما من النعم لا من المنعم عليهم.
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ}.
معدلًا لها فهو مجاز من أقمت العود إذا قومته، وأراد بهذا الدعاء الديمومة على ذلك، وجوز بعضهم أن يكون المعنى مواظبًا عليها، وبعض عظماء العلماء أخذ الأمرين في تفسير ذلك على أن الثاني قيد للأول مأخوذ من صيغة الاسم والعدول عن الفعل كما أن الأول مأخوذ من موضوعه على ماق يل، فلا يلزم استعمال اللفظ في معنيين مجازيين، وتوحيد ضمير المتكلم مع شمول دعوته عليه السلام لذريته أيضًا حيث قال: {وَمِن ذُرّيَتِى} للإشعار بأنه المقتدى في ذلك وذريته أتباع له فإن ذكرهم بطريق الاستطراد {وَمِنْ} للتبعيض، والعطف كما قال أبو البقاء على مفعول {اجعل} [إبراهيم: 35] الأول أي ومن ذريتي مقيم الصلاة.
وفي الحواشي الشهابية أن الجار والمجرور في الحقيقة صفة للمعطوف على ذلك أي وبعضًا من ذريتي ولولا هذا التقدير كان ركيكًا، وإنما خص عليه السلام هذا الدعاء ببعض ذريته لعلمه من جهته تعالى أن بعضًا منهم لا يكون مقيم الصلاة بأن يكون كافرًا أو مؤمنًا لا يصلي، وجوز أن يكون علم من استقرائه عادة الله تعالى في الأمم الماضية أن يكون في ذريته من لا يقيمها وهذا كقوله: {واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128].
{رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} ظاهره دعائي هذا المتعلق بجعلي وجعل بعض ذريتي مقيمي الصلاة ولذلك جىء بضمير الجماعة، وقيل: الدعاء بمعنى العبادة أي تقبل عبادتي.
وتعقب بأن الأنسب أن يقال فيه دعاءنا حينئذٍ.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وهبيرة عن حفص {دُعَائِى} بياء ساكنة في الوصل، وفي رواية البزي عن ابن كثير أنه يصل ويقف بياء.
وقال قنبل: إنه يشم الياء في الوصل ولا يثبتها ويقف عليها بالألف.
{رَبَّنَا اغفر لِى} أي ما فرط مني مما أعده ذنبًا {وَلِوَالِدَىَّ} أي لأمي وأبي، وكانت أمه على ما روي عن الحسن مؤمنة فلا إشكال في الاستغفار لها، وأما استغفاره لأبيه فقد قيل في الاعتذار عنه إنه كان قبل أن يتبين له أنه عدو لله سبحانه والله تعالى قد حكى ما قاله عليه السلام في أحايين مختلفة، وقيل: إنه عليه السلام نوى شرطية الإسلام والتوبة وإليه ذهب ابن الخازن، وقيل: أراد بوالده نوحًا عليه السلام، وقيل: أراد بوالده آدم وبوالدته حواء عليهما السلام وإليه ذهب بعض من قال بكفر أمه والوجه ما تقدم.
وقالت الشيعة: إن والديه عليه السلام كانا مؤمنين ولذا دعا لهما، وأما الكافر فأبوه والمراد به عمه أو جده لأمه، واستدلوا على إيمان أبويه بهذه الآية ولم يرضوا ما قيل فيها حتى القول الأول بناءً على زعمهم أن هذا الدعاء كان بعد الكبر وهبة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام له وقد كان تبين له في ذلك الوقت عداوة أبيه الكافر لله تعالى.
وقرأ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وأبو جعفر محمد وزيد ابنا علي وابن يعمر والزهري والنخعي {ولولدي} بغير ألف وبفتح اللام تثنية ولد يعني بهما إسماعيل وإسحاق.
وأنكر عاصم الجحدري هذه القراءة ونقل أن في مصحف أبي {ولأبوي} وفي بعض المصاحف {ولذريتي} وعن يحيى بن يعمر {ولولدي} بضم الواو وسكون اللام فاحتمل أن يكون جمع ولد كأسد في أسد ويكون قد دعا عليه السلام لذريته، وأن يكون لغة في الولد كما في قول الشاعر:
فليت زيادًا كان في بطن أمه ** وليت زيادًا كان ولد حمار

ومثل ذلك العدم والعدم، وقرأ ابن جبير {لِى وَلِوَالِدَىَّ} بإسكان الياء على الإفراد كقوله: {واغفر لأبي} [الشعراء: 86] {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} كافة من ذريته وغيرهم، ومن هنا قال الشعبي فيما رواه عنه ابن أبي حاتم: ما يسرني بنصيبي من دعوة نوح وإبراهيم عليهما السلام للمؤمنين والمؤمنات حمر النعم، وللإيذان باشتراك الكل في الدعاء بالمغفرة جىء بضمير الجماعة {يَوْمَ يَقُومُ الحساب} أي يثبت ويتحقق، واستعمال القيام فيما ذكر إما مجاز مرسل أو استعارة، ومن ذلك قامت الحرب والسوق، وجوز أن يكون قد شبه الحساب برجل قائم على الاستعارة المكنية وأثبت له القيام على التخييل، وأن يكون المراد يقوم أهل الحساب فحذف المضاف أو أسند إلى الحساب ما لأهله مجازًا، وجعل ذلك العلامة الثاني في شرح التلخيص مثل ضربه التأديب مما فيه الإسناد إلى السبب الغائي أي يقوم أهله لأجله، وذكر السالكوتي إنه إنما قال مثله لأن الحساب ليس ما لأجله القيام حقيقة لكنه شبيه به في ترتبه عليه وفيه وبحث. اهـ.