فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} لأن الكل خلقه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: من الآية 14].
قال الزمخشري: المعنى: إنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا. وأنت أرحم بنا منا بأنفسنا ولها، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب. وإنما ندعوك إظهارًا للعبودية لك، وتخشعًا لعظمتك، وتذللًا لعزتك، وافتقارًا إلى ما عندك، واستعجالًا لنيل أياديك، وولهًا إلى رحمتك. وكما يتملق العبد بين يدي سيده رغبة في إصابة معروفه، مع توفر السيد على حسن الملكة.
وعن بعضهم: أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح، فأراد أن يذكره فقال: مثلك لا يذكر استقصارًا ولا توهمًا للغفلة عن حوائج السائلين، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها. انتهى.
وجوَّز في قوله تعالى: {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ} إلخ، أن يكون من كلامه تعالى، تصديقًا لإبراهيم، أو من كلامه عليه السلام.
{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحاَقَ} أي: ليقوما مقامي في الدعوة إليه تعالى وبث الحنيفية وإقامة الصلاة بعد ذهابي: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} أي: مجيبه.
قال الزمخشري: وإنما ذكر حال الكبر، لأن المنَّة بهبة الولد فيها أعظم، من حيث إنها حال وقوع اليأس من الولادة، والظفر بالحاجة على عقب اليأس، من أجل النعم وأحلاها في نفس الظافر.
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} أي: عبادتي، كذا في التنوير.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} أي: مجازاة العباد على أعمالهم. قرئ {ولوالدِي} بالإفراد، وكأن هذا قبل تبين أمره له عليه السلام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ}.
جاء بهذا التوجه إلى الله جامعًا لما في ضميره، وفذلكةً للجمل الماضية لِما اشتملت عليه من ذكر ضلال كثير من الناس، وذكر من اتبع دعوته ومن عصاه، وذكر أنه أراد من إسكان أبنائه بمكة رجاء أن يكونوا حراس بيت الله، وأن يقيموا الصلاة، وأن يشكروا النعم المسؤولة لهم.
وفيه تعليم لأهله وأتباعه بعموم علم الله تعالى حتى يراقبوه في جميع الأحوال ويخلصوا النية إليه.
وجملة {وما يخفى على الله من شيء} تذييل لجملة {إنك تعلم ما نخفي وما نعلن}، أي تعلم أحوالنا وتعلم كل شيء.
ولكونها تذييلًا أظهر فيها اسم الجلالة ليكون التذييل مستقلًا بنفسه بمنزلة المَثل والكلام الجامع.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)}.
لما دعا الله لأَهَمّ ما يهمه وهو إقامة التوحيد وكان يرجو إجابة دعوته وأن ذلك ليس بَعجبُ في أمر الله خطر بباله نعمة الله عليه بما كان يسأله وهو أن وهب له ولدَيْن في إبان الكِبَر وحين اليأس من الولادة فناجى الله فحمده على ذلك وأثنى عليه بأنه سميع الدعاء، أي مجيب، أي متصف بالإجابة وصفًا ذاتيًا، تمهيدًا لإجابة دعوته هذه كما أجاب دعوتَه سلفًا.
فهذا مناسبة مَوقع هذه الجملة بعد ما قبلها بقرينة قوله: {إن ربي لسميع الدعاء}.
واسم الموصول إيماء إلى وجه بناء الحمد.
و{على} في قوله: {على الكبر} للاستعلاء المجازي بمعنى {مع}، أي وهب ذلك تعليًا على الحالة التي شأنها أن لا تسمح بذلك.
ولذلك يفسرون {على} هذه بمعنى {مع}، أي مع الكِبَر الذي لا تحصل معه الولادة.
وكان عُمُر إبراهيم حين ولد له إسماعيل عليهما السلام ستا وثمانين سنة [86].
وعمره حين ولد له إسحاق عليهما السلام مائة سنة [100].
وكان لا يولد له من قبل.
وجملة {إن ربي لسميع الدعاء} تعليل لجملة {وهب}، أي وهب ذلك لأنه سميع الدعاء.
والسميع مستعمل في إجابة المطلوب كناية، وصيغ بمثال المبالغة أو الصفة المشبهة ليدلّ على كثرة ذلك وأن ذلك شأنه، فيفيد أنه وصف ذاتي لله تعالى.
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}.
جملة مستأنفة من تمام دعائه.
وفعل {اجعلني} مستعمل في التكوين، كما تقدم آنفًا، أي اجعلني في المستقبل مقيم الصلاة.
والإقامة: الإدامة، وتقدم في صدر سورة البقرة.
{ومن ذريتي} صفة لموصوف محذوف معطوف على ياء المتكلم.
والتقدير واجعل مقيمين للصلاة من ذريتي.
و{من} ابتدائة وليست للتبعيض، لأن إبراهيم عليه السلام لا يسأل الله إلا أكمل ما يحبه لنفسه ولذريته.
ويجُوز أن تكون {من} للتبعيض بناءً على أن الله أعلمه بأن يكون من ذريته فريق يقيمون الصلاة وفريق لا يقيمونها، أي لا يؤمنون.
وهذا وجه ضعيف لأنه يقتضي أن يكون الدعاء تحصيلًا لحاصل، وهو بعيد، وكيف وقد قال: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} [سورة إبراهيم: 35] ولم يقل: ومن بَنِيّ.
ودعاؤه بِتَقَبل دعائه ضراعة بعد ضراعة.
وحُذفت ياء المتكلم في {دعاءِ} في قراءة الجمهور تخفيفًا كما تقدم في قوله تعالى: {وإليه متاب} في سورة الرعد [30].
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة بإثبات الياء ساكنة.
ثم دعا بالمغفرة لنفسه وللمؤمنين ولوالديه ما تقدم منه ومن المؤمنين قبل نبوءته وما استمر عليه أبُوه بعد دعوته من الشرك، أما أمه فلعلها توفيت قبل نبوءته.
وهذا الدعاء لأبويه قبل أن يتبين له أن أباه عدوّ لله كما في آية سورة براءة.
ومعنى {يقوم الحساب}: يثبت.
استعير القيام للثبوت تبعًا لتشبيه الحساب بإنسان قائم، لأن حالة القيام أقوى أحوال الإنسان إذ هو انتصاب للعمل.
ومنه قولهم: قامت الحرب على ساق، إذا قويت واشتدت.
وقولهم: ترجلت الشمس، إذا قوي ضوءها، وتقدم عند قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة} في أول سورة البقرة [4]. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} الآية.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم طلب المغفرة لوالديه وبين في آيات أخر أن طلبه الغفران لأبيه إنما كان قبل أن يعلم أنه عدو الله فلما علم ذلك تبرأ منه كقوله: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] ونحو ذلك من الآيات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)}.
وبعد أن اطمأن إبراهيم- عليه السلام- أن لهذا البلد أمنًا عامًا وأمنًا خاصًا، واطمأن على مُقوِّمات الحياة؛ وأن كل شيء من عند الله، بعد كل ذلك عاودته المسألة التي كانت تشغله، وهي مسألة تَرْكه لهاجر وإسماعيل في هذا المكان.
وبعض المُفسِّرين قالوا: إن الضمير بالجمع في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ...} [إبراهيم: 38].
مقصود به ما يُكِنّه من الحُبِّ لهاجر وإسماعيل، وما يُعلِنه من الجفاء الذي يُظهِره لهما أمام سارة، وكأن المعاني النفسية عاودتْه لحظةَ أنْ بدأ في سلام الوداع لهاجر وابنه إسماعيل.
ونقول: لقد كانت هاجر هي الأخرى تعيش موقفًا صَعْبًا؛ ذلك أنها قد وُجدت في مكان ليس فيه زَرْع ولا ماء، وكأنها كتمتْ نوازعها البشرية طوال تلك الفترة وصبرتْ.
ولحظة أنْ جاء إبراهيم لِيُودّعها؛ قالت له: أين تتركنا؟ وهل تتركنا مِنْ رأيك أم من أمر ربَك؟ فقال لها إبراهيم عليه السلام: بل هو من أَمر الله. فقالت: إذن لن يضيعنا.
وتأكدت هاجر من أن ما قالتْه قد تحقَّق؛ ولن يُضيّعهما الله، وحين يعطش وحيدها تجري بين الصفا والمروة بَحْثًا عن مياه؛ ولكنها ترى تفجُّر الماء تحت قَدَمَيْ ابنها في المكان الذي تركته فيه؛ ويبدأ بئر زمزم في عطاء البشر منذ ذلك التاريخ مياهه التي لا تنضب.
وهكذا يتحقق قول إبراهيم- عليه السلام- في أن الله يعلم ما نُسِرّ وما نُعلِن؛ ذلك أن كل مُعْلَن لا يكون إلا بعد أن كل مَخْفيًا، وعلى الرغم منَ أن الله غَيْبٌ إلا أن صِلَته لا تقتصر على الغيب؛ بل تشمل العالم الظاهر والباطن؛ وكل مظروف في السماء أو الأرض معلومٌ لله؛ لأن ما تعتبره أنت غيبًا في ذهنك هو معلوم لله من قبل أن يتحرك ذهنك إليه.
ولذلك يقول سبحانه في موقع آخر: {وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7].
فإذا كان السِّر هو ما أسررْت به لغيرك؛ وخرج منك لأنك استأمنتَ الغير على ألاّ يقوله، أو كان السر ما أخفيتَه أنت في نفسك؛ فالله هو العَالِم به في الحالتين.
ويقول القرآن: {وَإِذْ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا..} [التحريم: 3].
أي: أن السِّرَّ كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل إلى بعضٍ من أزواجه. والأَخْفى هو ما قبل أنْ تبوحَ بالسرِّ؛ وكتمته ولم تَبُحْ به.
وسبحانه يعلم هذا السر وما تخفيه. أي: السر الذي لم تَقُلْه لأحد، بل ويعلمه قبل أنْ يكونَ سِرًّا.
ويقول سبحانه ما قاله إبراهيم- عليه السلام- ضراعةَ وحَمْدًا له سبحانه: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي...}.
والوَهْب هو عطاء من مُعْطٍ بلا مقبال منك. وكل الذرية هِبَة، لو لم تكُنْ هبة لكانت رتيبة بين الزوجين؛ وأينما يوجد زوجان توجد. ولذلك قال الله: {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50].
والدليل على أن الذرية هِبَة هو ما شاءه سبحانه مع زكريا عليه السلام؛ وقد طلب من الله سبحانه أن يرزقه بغلام يرثه، على الرغم من أنه قد بلغَ من الكِبَر عِتيًا وزوجه عاقر؛ وقد تعجَّب زكريا من ذلك؛ لأنه أنجب بقوة، وفي هذا المعنى يقول الحق سبحانه: {كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9].
وهذا يعني ألاَّ يدخل زكريا في الأسباب والمُسبِّبات والقوانين.
وقد سمَّى الحق سبحانه الذرية هِبةً؛ لذلك يجب أن نشكرَ الله لأن الذي يقبل هبة الله في إنجاب الإناث برضًا يرزقه الله بشباب يتزوجون البنات؛ ويصبحون أطوعَ له من أبنائه، رغم أنه لم يَشْقَ في تربيتهم.
وكل منّا يرى ذلك في مُحِيطة، فمَنْ أنجب الأولاد الذكور يظل يرقب: هل يتزوج ابنه بمَنْ تخطفه وتجعله أطوعَ لغيره منه.
وإنْ وهب لك الذكور فعلى العين والرأس أيضًا، وعليك أنْ تطلبَ من الله أن يكون ابنك من الذرية الصالحة، وإنْ وهبكَ ذُكْرنا وإناثًا فلكَ أن تشكره، وتطلب من الله أن يُعينك على تربيتهم.