فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أن هذا نوع آخر من النعم التي أفاضها الله عليهم ثم إنهم قابلوه بالكفر والأفعال القبيحة، وذلك لأنه تعالى لما وصف حال اليهود من قبل بأنهم يخالفون أمر الله تعالى في قتل أنفسهم وإخراج بعضهم بعضًا من ديارهم وبين أنهم بهذا الصنيع اشتروا الدنيا بالآخرة، زاد في تبكيتهم بما ذكره في هذه الآية.
أما الكتاب فهو التوراة آتاه الله إياها جملة واحدة، روي عن ابن عباس أن التوراة لما نزلت أمر الله تعالى موسى بحملها فلم يطق ذلك، فبعث الله لكل حرف منها ملكًا فلم يطيقوا حملها فخففها الله على موسى فحملها. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم، وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به، والإيتاء الإعطاء، والكتاب التوراة في قول الجمهور وهو مفعول ثان لآتينا وعند السهيلي مفعول أول، والمراد باتيانها له إنزالها عليه.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة نزلت جملة واحدة فأمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يطق فبعث بكل حرف منها ملكًا فلم يطيقوا حملها فخففها الله تعالى لموسى عليه السلام فحملها، وقيل: يحتمل أن يكون آتينا الخ أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه، والكلام على حذف مضاف أي علم الكتاب أو فهمه وليس بالظاهر. اهـ.

.اللغة:

{الكتاب} التوراة.
{وقفينا} أردفنا وأتبعنا، وأصله من القفا يقال: قفاه إذا اتبعه، وقفاه بكذا إذا اتبعه إياه.
{البينات} المعجزات الباهرات كإبراء الأعمى والأبرص، وإحياء الموتى.
{أيدناه} قويناه مأخوذ من الأيد وهو القوة.
{روح القدس} جبريل عليه السلام، والقدس: الطهر والبركة.
{تهوى} تحب من هوي إذا أحب ومصدره الهوى.
{غلف} جمع أغلف، والغلاف: الغطاء، يقال: سيف أغلف إذا كان في غلافه، وقلب أغلف أي مستور عن الفهم والتمييز، مستعار من الأغلف وهو الذي لم يختن.
{لعنهم} أصل اللعن في كلام العرب: الطرد والإبعاد، يقال: ذئب لعين أي مطرود مبعد، والمراد: أقصاهم وأبعدهم عن رحمته.
{يستفتحون} يستنصرون من الاستفتاح وهو طلب الفتح أي النصرة.
{بئسما} أصلها بئس ما أي بئس الذي، وبئس فعل للذم، كما أن نعم للمدح.
{بغيا} البغي: الحسد والظلم، وأصله الفساد من بغى الجرح إذا فسد، قاله الأصمعي.
{باءوا} رجعوا، وأكثر ما يستعمل في الشر، كقولهم: باء بالخزي واللعنة.
{مهين} مخز مذل، مأخوذ من الهوان بمعنى الذل. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{القدس} بسكون الدال حيث كان: ابن كثير.
{بئسما} وبابه بغير همز: أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف.
{ينزل} خفيفًا: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب.

.الوقوف:

{القدس} ط {استكبرتم} ج لتناهي الاستفهام مع تعقب فاء التعقيب بعده {كذبتم} ز لعطف المستقبل على الماضي مع تقدم المفعولين فيهما {تقتلون} o {غلف} ط ز لأن بل إعراض عن الأول وتحقيق للثاني {يؤمنون} o {لما معهم} ط لأن الواو للحال {كفروا} ج لأن لما متضمنة للشرط وجوابها منتظر والوصل أجوز لأن لما مكرر وجوابهما متحد، وقوله: {وكانوا من قبل} حال معترض {كفروا به} ج لأن ما بعده مبتدأ لكن الفاء تقتضي تعجيل ذكر جوابهم {الكافرين} o {من عباده} ج لطول الكلام مع فاء التعقيب {على غضب} ط {مهين} o {لما معهم} ط {مؤمنين} ط. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ الرسل}:

.قال الفخر:

روي أن بعد موسى عليه السلام إلى أيام عيسى عليه السلام كانت الرسل تتواتر ويظهر بعضهم في أثر بعض، والشريعة واحدة إلى أيام عيسى عليه السلام، فإنه صلوات الله عليه جاء بشريعة مجددة، واستدلوا على صحة ذلك بقوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} فإنه يقتضي أنهم على حد واحد في الشريعة يتبع بعضهم بعضًا فيها، قال القاضي: إن الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شريعة الأول حتى لا يؤدي إلى تلك الشريعة بعينها من غير زيادة ولا نقصان، مع أن تلك الشريعة محفوظة يمكن معرفتها بالتواتر عن الأول، لأن الرسول إذا كان هذا حاله لم يمكن أن يعلم من جهة إلا ما كان قد علم من قبل أو يمكن أن يعلم من قبل، فكما لا يجوز أن يبعث الله تعالى رسولًا لا شريعة معه أصلًا، تبين العقليات لهذه العلة، فكذا القول في مسألتنا: فثبت أنه لابد في الرسل الذين جاءوا من بعد موسى عليه السلام أن يكونوا قد أتوا بشريعة جديدة إن كانت الأولى محفوظة أو محيية لبعض ما اندرس من الشريعة الأولى.
والجواب: لم لا يجوز أن يكون المقصود من بعثة هؤلاء الرسل تنفيذ تلك الشريعة السالفة على الأمة أو نوع آخر من الألطاف لا يعلمها إلا الله، وبالجملة، فالقاضي ما أتى في هذه الدلالة إلا بإعادة الدعوى، فلم قال: إنه لا يجوز بعث هؤلاء الرسل إلا لشريعة جديدة أو لإحياء شريعة اندرست وهل النزاع وقع إلا في هذا؟. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} يقال قفاه إذا اتبعه وقفاه به إذا أتبعه إياه من القفا وأصل هذه الياء واو لأنها متى وقعت رابعة أبدلت كما تقول عريت من العرو أي أرسلناهم على أثره كقوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون: 44] وكانوا إلى زمن عيسى عليه السلام أربعة آلاف، وقيل: سبعين ألفًا وكلهم على شريعته عليه السلام. اهـ.

.قال الفخر:

هؤلاء الرسل هم: يوشع، وشمويل، وشمعون، وداود، وسليمان وشعياء، وأرمياء، وعزير، وحزقيل، وإلياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات}:

.قال الفخر:

السبب في أن الله تعالى أجمل ذكر الرسول ثم فصل ذكر عيسى لأن من قبله من الرسل جاءوا بشريعة موسى فكانوا متبعين له، وليس كذلك عيسى، لأن شرعه نسخ أكثر شرع موسى عليه السلام. اهـ.
قال الفخر:
قيل عيسى بالسريانية أيشوع، ومريم بمعنى الخادم، وقيل: مريم بالعبرانية من النساء كزير من الرجال، وبه فسر قول رؤبة:
قلت لزير لم تصله مريمة

الْمَسْأَلَةُ الثالثة: في البينات وجوه:
أحدها: المعجزات من إحياء الموتى ونحوها عن ابن عباس، وثانيها: أنها الإنجيل.
وثالثها: وهو الأقوى أن الكل يدخل فيه، لأن المعجز يبين صحة نبوته كما أن الإنجيل يبين كيفية شريعته فلا يكون للتخصيص معنى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَءاتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} أي الحجج الواضحة الدالة على نبوته فتشمل كل معجزة أوتيها عليه السلام وهو الظاهر، وقيل: الانجيل، وعيسى أصله بالعبرانية أيشوع بهمزة ممالة بين بين، أو مكسورة ومعناه السيد وقيل: المبارك فعرب، والنسبة إليه عيسي وعيسوي وجمعه عيسون بفتح السين وقد تضم وأفرده عن الرسل عليه السلام لتميزه عنهم لكونه من أولي العزم وصاحب كتاب، وقيل: لأنه ليس متبعًا لشريعة موسى عليه السلام حيث نسخ كثيرًا من شريعته، وأضافه إلى أمه ردًا على اليهود إذ زعموا أن له أبًا، ومريم بالعبرية الخادم وسميت أم عيسى به لأن أمها نذرتها لخذمة بيت المقدس، وقيل: العابدة، وبالعربية من النساء من تحب محادثة الرجال فهي كالزير من الرجال، وهو الذي يحب محادثة النساء، قيل: ولا يناسب مريم أن يكون عربيًا لأنها كانت برية عن محبة محادثة الرجال اللهم إلا أن يقال سميت بذلك تمليحًا كما يسمى الأسود كافورًا، وقال بعض المحققين: لا مانع من تسميتها بذلك بناء على أن شأن من تخدم من النساء ذلك، وفي (القاموس) هي التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر وعليه لا بأس بالتسمية كما ذكره المولى عصام والأولى عندي أن التسمية وقعت بالعبري لا بالعربي بل يكاد يتعين ذلك كما لا يخفى على المنصف؛ وعن الأزهري المريم المرأة التي لا تحب مجالسة الرجال وكأنه قيل لها ذلك تشبيهًا لها بمريم البتول ووزنه عربيًا مفعلًا لا فعيلًا لأنه لم يثبت في الأبينة على المشهور، وأثبته الصاغاني في الذيل، وقال: إنه مما فات سيبويه، ومنه عثير للغبار، وضهيد بالمهملة والمعجمة للصلب واسم موضع، ومدين على القول بأصالة ميمه، وضهيا بالقصر وهي المرأة التي لا تحيض أو لا ثدي لها من المضاهاة كأنها أطلق عليها ذلك بمشابهتها الرجل؛ وابن جني يقول: إن ضهيد وعثير مصنوعان فلا دلالة فيهما على إثبات فعيل، وذكر الساليكوتي أن عثير بمعنى الغبار بكسر العين وإذا كان مفعلًا فهو أيضًا على خلاف القياس إذ القياس إعلاله بنقل حركة الياء إلى الراء وقبلها ألفًا نحو مباع لكنه شذ كما شذ مدين، ومزيد، وإذا كان من رام يريم إذا فارق وبرح فالقياس كسريائه أيضًا. اهـ.

.قال الفخر:

اختلفوا في الروح على وجوه:
أحدها: أنه جبريل عليه السلام وإنما سمي بذلك لوجوه.
الأول: أن المراد من روح القدس الروح المقدسة كما يقال: حاتم الجود ورجل صدق فوصف جبريل بذلك تشريفًا له وبيانًا لعلو مرتبته عند الله تعالى.
الثاني: سمي جبريل عليه السلام بذلك لأنه يحيا به الدين كما يحيا البدن بالروح فإنه هو المتولي لإنزال الوحي إلى الأنبياء والمكلفون في ذلك يحيون في دينهم.
الثالث: أن الغالب عليه الروحانية وكذلك سائر الملائكة غير أن روحانيته أتم وأكمل.
الرابع: سمي جبريل عليه السلام روحًا، لأنه ما ضمته أصلاب الفحول وأرحام الأمهات، وثانيها: المراد بروح القدس الإنجيل، كما قال في القرآن: {رُوحًا مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] وسمي به لأن الدين يحيا به ومصالح الدنيا تنتظم لأجله.
وثالثها: أنه الاسم الذي كان يحيي به عليه السلام الموتى، عن ابن عباس وسعيد بن جبير، ورابعها: أنه الروح الذي نفخ فيه والقدس هو الله تعالى فنسب روح عيسى عليه السلام إلى نفسه تعظيمًا له وتشريفًا، كما يقال: بيت الله وناقة الله، عن الربيع، وعلى هذاب المراد به الروح الذي يحيا به الإنسان.
واعلم أن اطلاق اسم الروح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى الاسم الأعظم مجاز لأن الروح هو الريح المتردد في مخارق الإنسان ومنافذه ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك إلا أنه سمي كل واحد من هذه الثلاثة بالروح على سبيل التشبيه من حيث أن الروح كما أنه سبب لحياة الرجل، فكذلك جبريل عليه السلام سبب لحياة القلوب بالعلوم، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها، والاسم الأعظم سبب لأن يتوسل به إلى تحصيل الأغراض إلا أن المشابهة بين مسمى الروح وبين جبريل أتم لوجوه:
أحدها: لأن جبريل عليه السلام مخلوق من هواء نوراني، لطيف فكانت المشابهة أتم، فكان إطلاق اسم الروح على جبريل أولى.
وثانيها: أن هذه التسمية فيه أظهر منها فيما عداه، وثالثها: أن قوله تعالى: {وأيدناه بِرُوحِ القدس} يعني قويناه، والمراد من هذه التقوية الإعانة وإسناد الإعانة إلى جبريل عليه السلام حقيقة وإسنادها إلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز، فكان ذلك أولى، ورابعها: وهو أن اختصاص عيسى بجبريل عليهما السلام من آكد وجوه الاختصاص بحيث لم يكن لأحد من الأنبياء عليهم السلام مثل ذلك لأنه هو الذي بشر مريم بولادتها وإنما ولد عيسى عليه السلام من نفخة جبريل عليه السلام وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم استكبرتم}:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم استكبرتم فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} فهو نهاية الذم لهم، لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم الرسول بخلاف ما يهوون كذبوه، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه.
وإنما كانوا كذلك لإرادتهم الرفعة في الدنيا وطلبهم لذاتها والترؤس على عامتهم وأخذ أموالهم بغير حق، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك فيكذبونهم لأجل ذلك ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل، ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم.
أما قوله تعالى: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} فلقائل أن يقول: هلا قيل وفريقًا قتلتم؟ وجوابه من وجهين: أحدهما: أن يراد الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب.
الثاني: أن يراد فريقًا تقتلونهم بعد لأنكم حاولتم قتل محمد صلى الله عليه وسلم لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة.
وقال عليه السلام عند موته: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري» والله أعلم. اهـ.