فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا خطاب من الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يُنذِرهم بضرورة الاستعداد ليوم القيامة، وأنه قادمٌ لا محالةَ.
وكلمة {يوم} هي ظَرْف زمان، وظرف الزمان لابد له من حَدثٍ يقع فيه، ويوم القيامة ليس محلَّ إنذار أو تبشير؛ لأن الإنذار أو البشارة لابد أنْ يكونا في وقت التكليف في الحياة الدنيا.
وهكذا يكون المُنْذر به هو تخويفهم مِمّا يحدث لهم في هذا اليوم، فما سوف يحدث لهم هو العذاب؛ وكأنه قنبلة موقوتة ما إنْ يأتي يوم القيامة حتى تنفجر في وجوههم.
وهنا يقول أهل ظُلْم القمة في العقيدة، وظُلْم الرسالة بمقاومتها؛ وظلم الكون المُسبِّح لله:
{رَبَّنَا أَخِّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل...} [إبراهيم: 44].
وهم يطلبون تأجيل العذاب لِمُهْلة بسيطة، يُثبتون فيها أنهم سيُجيبون الدعوة ويطيعون الرسول، وهم يطلبون بذلك تأجيل قيامتهم.
فيكون الجواب من الحق سبحانه: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} [إبراهيم: 44].
فأنتم قد سبق وأنْ أقسمتُم بأن الله لا يبعث مَنْ يموت؛ وقد قال الحق سبحانه ما قلتم: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ...} [النحل: 38].
وساعة ترى كلمة {بلى} بعد نَدْب، فهذا يعني تكذيب ما جاء قبلها، وهم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ظَنُّوا أنهم لن يُبعثُوا، وظنُّوا أنهم بعد الموت سيصيرون ترابًا؛ وهم الذين قالوا: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37].
وهكذا أكَّدوا لأنفسهم أنه لا بَعْث من بَعْد الحياة، ومن بعد البعث سنسمع من كل فرد فيهم: {ياليتني كُنتُ تُرَابًا} [النبأ: 40].
أو: أنهم ظَنُّوا أن الذين أنعَم الله عليهم في الدنيا؛ لن يحرمهم في الآخرة، كما أورد الحق سبحانه هذا المَثل، في قوله تعالى: {واضرب لهُمْ مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 32-36].
والذي يقول ذلك فَهِم أنه سوف يموت؛ لكنه توهّم أن جنته تلك ستظل على ما هي عليه، وأنكر قيام الساعة، وقال: حتى لو قامت الساعة، ورُدِدتُ إلى الله فسأجد أفضل من جنتي تلك.
وهو يدعي ذلك وهو لم يُقدّم إيمانًا بالله ليجده في الآخرة، فهو إذن مِمَّنْ أنكروا الزوال أي البعث من جديد، ووقع في دائرة مَنْ لم يُصدّقوا البعث، وسبق أنْ قال الحق سبحانه ما أورده على ألسنتهم:
{أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10].
والذين أنكروا البعث يُورِد الحق سبحانه لنا حوارًا بينه وبينهم، فيقول سبحانه وتعالى: {قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} [غافر: 11].
فيرد الحق سبحانه عليهم: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلي الكبير} [غافر: 12].
وفي موقع آخر من القرآن نجد حوارًا واستجداءً منهم لله؛ يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحًا...} [السجدة: 12].
ويأتي رَدُّ الحق سبحانه عليهم: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هاذا إِنَّا نَسِينَاكُمْ...} [السجدة: 14].
وفي موقع ثالث يقول الواحد منهم عند الموت: {رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99-100].
فيأتي ردّ الحق سبحانه: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا...} [المؤمنون: 100].
وبعد دخولهم النار يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107].
فيقول الحق سبحانه: {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108].
وفي موضع آخر يقولون عند اصطراخهم في النار: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ...} [فاطر: 37].
فيأتي الرد من الحق سبحانه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر: 37].
ونلحظ أنهم في كل آيات التوسُّل لله كي يعودوا إلى الحياة الدنيا يقولون ربنا، وتناسَوْا أنهم مأخوذون إلى العذاب بمخالفات الألوهية؛ ذلك أن الربوبية عطاؤها كان لكم في الدنيا، ولم ينقصكم الحق سبحانه شيئًا على الرغم من كفركم.
هكذا يكون حال هؤلاء الذين أقسموا أن الحق سبحانه لن يبعثهم، وأنكروا يوم القيامة، وأنه لا زوال لهم. أي: لا بَعْث ولا نشور.
ويتابع الحق سبحانه القول الكريم: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}.
والسكون هو الاطمئنان إلى الشيء من عدم الإزعاج، ونعلم أن المرأة في الزواج تعتبر سكنًا، والبيت سكن، وهنا يتكلم الحق سبحانه عن مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أي: أنكم لم تتعِظُوا بالسوابق التي ما كان يجب أن تغيبَ عنكم، فأنتم تمرون في رحلات الصيف والشتاء على مدائن صالح، وترون آثار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك، وتمرون على الأحقاف؛ وترون ماذا حاقَ بقوم عاد.
وكُلُّ أولئك نالوا العقاب من الله، سواء بالريح الصرصر العاتية، أو: أنه سبحانه قد أرسل عليهم حاصبًا من السماء، أو: أنزل عليهم الصيحة؛ أو: أغرقهم كآل فرعون، وأخذ كل قوم من هؤلاء بذنبه.
وصدق الله وَعْده في عذاب الدنيا؛ فلماذا لم تأخذوا عِبْرة من ذلك؛ وأنه سبحانه وتعالى صادق حين تحدَّث عن عذاب الآخرة؟
وهنا قال الحق سبحانه: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ...} [إبراهيم: 45].
وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137-138].
أي: أنكم تمرُّون على تلك الأماكن التي أقامها بعضٌ مِمَّنْ سبقُوكم وظلمُوا أنفسهم بالكفر؛ وأنزل الحق سبحانه عليهم العقَاب؛ ولذلك يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} [إبراهيم: 45].
نعم؛ فحين تمشي في أرض قوم عاد، وترى حضارتهم التي قال عنها الحق سبحانه: {إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} [الفجر: 7-8].
وهي حضارة لم نكشف آثارها بعد؛ وما زالت في المطمورات وكل مطمور في الأرض بفعل من غضب السماء؛ تضع السماءُ ميعادَ كشف له ليتعظَ أهلُ الأرض؛ ويحدث هذا الكشف كلما زاد الإلحاد واستشرى.
قد حدث أن اكتشفنا حضارة ثمود، وكذلك حضارة الفراعنة؛ وهي الحضارة التي سبقتْ كل الحضارات في العلوم والتكنولوجيا، ورغم ذلك لم يعرف أصحاب تلك الحضارة أن يصونوها من الاندثار الذي شاءه الله.
وما زال الناس يتساءلون: لماذا لم يترك المصريون القدماء خبرتهم الحضارية مكتوبة ومُسجّلة في خطوات يمكن أن تفهمها البشرية من بعد ذلك؟
{وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} [إبراهيم: 45].
أي: أن الحق سبحانه يوضح هنا أن مشيئته في إنزال العقاب قد وَضْحَتْ أمام الذين عاصروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم في مساكن الأقوام التي سبقتهم؛ وكفروا برسالات الرسل، وسبق أن ضرب لهم الحق سبحانه الأمثال بهؤلاء القوم وبما حدث لهم. والمَثلُ إنما يضربه الله لِيُقرِّب بالشيء الحسي ما يُقرِّب إلى الأذهانِ الشيءَ المعنوي.
ويستمر قوله الحق من بعد ذلك:
{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ}.
والمكْر- كما نعلم- هو تبييت الكَيْد في خفاء مستورٍ، ومأخوذ من الشجرة المكمورة؛ أي: الشجرة التي تُداري نفسها. ونحن نرى في البساتين الكبيرة شجرةً في حجم الإصْبع؛ وهي مجدولةٌ على شجرة أخرى كبيرة. ولا تستطيع أن تتعرف على ورقة منها، أو أن تنسب تلك الورقة إلى مكان خروجها، ومن أيّ فرع في الشجرة المُلتْفة إلا إذا نزعتها من حول الشجرة التي تلتفّ من حولها.
ومَنْ يُبيِّت إنما يشهد على نفسه بالجُبْن والضعف وعدم القدرة على المواجهة، قد يصلح أن تُبيِّت مُسَاوٍ لك؛ أما أنْ تُبّيت على الحي القيوم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء؛ فتلك هي الخيبة بعينها.
ولذلك يقول الحق سبحانه في مواجهة ذلك: {والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54].
وقال عن مَكْر هؤلاء: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].
ونعلم أننا حين ننسب صِفةً لله فنحن نأخذها في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...} [الشورى: 11].
وعادة ما ننسب كل فعل من الله للخير، كقوله سبحانه: {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} [الأنبياء: 89]. {والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54].
وقوله هنا: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ....} [إبراهيم: 46].
أي: قاموا بالتبييت المناسب لحيلتهم ولتفكيرهم ولقوتهم؛ فإذا ما قابل الحق سبحانه ذلك؛ فلسوف يقابله بما يناسب قوته وقدرته المطلقة، وهو سبحانه قد علم أزلًا بما سوف يمكرونه، وتركهم في مَكْرهم.
فانتصارات الرسالات مرهونٌ بقوة المُرْسَل وأتباعه، وهم يقابلون خصومًا هُم حيثية وجود الرسالة؛ ذلك أنهم قد ملأوا الأرض بالفساد، ويريدون الحفاظ على الفساد الذي يحفظ لهم السلطة؛ والدين الجديد سيدُكُّ سيادتهم ويُزلزلها؛ لذلك لابد ألاّ يدخروا وُسْعًا في محاولة الكَيْد والإيقاع بالرسول للقضاء على الرسالة.
وقد حاولوا ذلك بالمواجهة وقت أنْ كان الإسلام في بدايته؛ فأخذوا الضعاف الذين أسلموا، وبدءوا في تعذيبهم؛ ولم يرجع واحد من هؤلاء عن الدين.
وحاولوا بالحرب؛ فنصر الله الذين آمنوا، ولم يَيْق لهم إلا المَكْر، وسبحانه القائل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30].
وحاولوا أن يفسدوا خليّة الإيمان الأولى، وهي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وظنُّوا أنهم إنْ نجحوا في ذلك؛ فسوف تنفضُّ الرسالة. فحاولوا أن يشتروه بالمال؛ فلم يُفلحوا.
وحاولوا أن يشتروه بالسيادة والمُلْك فلم ينجحوا، وقال قولته المشهورة: «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته».
ثم قرروا أن يقتلوه وأن يُوزَّعوا دمه بين القبائل، وأخذوا من كل قبيلة شابًا ليضربوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالسيوف ضَرْبة رجلٍ واحد ولكنه صلى الله عليه وسلم يهاجر في تلك الليلة، وهكذا لم ينجح تبييتهم: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ...} [إبراهيم: 46].
أي: أنه سبحانه يعلم مكرهم.
ويتابع سبحانه قائلًا: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} [إبراهيم: 46].
أي: اطمئن يا محمد، فلو كان مكرهم يُزيل الجبال فلنْ ينالوك، والجبال كانت أشد الكائنات بالنسبة للعرب، فلو كان مكرهم شديدًا تزول به الجبال، فلن يُفلِحوا معك يا رسول الله، ولن يُزَحزِحوك عن هدفك ومهتمك.
والحق سبحانه يقول: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].
وإذا كان مكرهم يبلغ من الشدة ما تزول به الجبال؛ فاعلم أن الله أشدُّ بَأْسًا. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)}.
قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهو تعريض لأمته، فكأنه قال: ولا تحسب أمتك يا محمد، ويجوز أن يكون خطابًا لكل من يصلح له من المكلفين، وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم من غير تعريض لأمته، فمعناه: التثبيت على ما كان عليه من عدم الحسبان كقوله: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] ونحوه.
وقيل: المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم، أو يكون المراد بالنهي عن الحسبان الإيذان بأنه عالم بذلك لا تخفى عليه منه خافية، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلام للمشركين بأن تأخير العذاب عنهم ليس للرضا بأفعالهم، بل سنّة الله سبحانه في إمهال العصاة {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} أي: يؤخر جزاءهم، ولا يؤاخذهم بظلمهم.
وهذه الجملة تعليل للنهي السابق.
وقرأ الحسن والسلمي وهو رواية عن أبي عمرو بالنون في {نؤخرهم}.
وقرأ الباقون بالتحتية.
واختارها أبو عبيد، وأبو حاتم لقوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله} ومعنى {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} أي: ترفع فيه أبصار أهل الموقف، ولا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم، هكذا قال الفراء، يقال: شخص الرجل بصره، وشخص البصر نفسه إلى السماء من هول ما يرى، والمراد: أن الأبصار بقيت مفتوحة لا تتحرّك من شدة الحيرة والدهشة.
{مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين من أهطع يهطع إهطاعًا: إذا أسرع.
وقيل: المهطع: الذي ينظر في ذلّ وخشوع، ومنه:
بدجلة دارهم ولقد أراهم ** بدجلة مهطعين إلى السماع

وقيل: المهطع: الذي يديم النظر.
قال أبو عبيدة: قد يكون الوجهان جميعًا، يعني: الإسراع مع إدامة النظر؛ وقيل: المهطع الذي لا يرفع رأسه.
وقال ثعلب: المهطع الذي ينظر في ذلّ وخضوع.
وقيل: هو الساكت.
قال النحاس: والمعروف في اللغة أهطع: إذا أسرع {مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ} أي: رافعي رؤوسهم، وإقناع الرأس: رفعه، وأقنع صوته: إذا رفعه، والمعنى: أنهم يومئذٍ رافعون رؤوسهم إلى السماء ينظرون إليها نظر فزع وذلّ، ولا ينظر بعضهم إلى بعض.
وقيل: إن إقناع الرأس نكسه؛ وقيل: يقال: أقنع: إذا رفع رأسه، وأقنع: إذا طأطأ ذلة وخضوعًا، والآية محتملة للوجهين.
قال المبرد: والقول الأوّل أعرف في اللغة.
قال الشاعر:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا ** كأنما أبصر شيئًا أطمعا