فصل: تفسير الآيات (47- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (47- 52):

قوله تعالى: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تقرر ذلك من علمه سبحانه وقدرته، تسبب عنه أن يقال وهو كما تقدم في أن المراد الأمة لبلوغ الأمر كل مبلغ، خوطب به الرأس ليكون أوقع في قلوبهم: {فلا تحسبن الله} أي الذي له الكمال كله، فإن من ظن ذلك كان ناقص العقل {مخلف وعده رسله} في أنه يعز أوليائه ويذل أعداءه ويهلكهم بظلمهم، ويسكن أولياءه الأرض من بعدهم؛ ثم علل ذلك بقوله- مؤكدًا لأن كثرة المخالفين وقوتهم على تمادي الأيام تعرّض السامع للإنكار: {إن الله} أي ذا الجلال والإكرام {عزيز} أي يقدر ولا يقدر عليه {ذو انتقام} ممن يخالف أمره.
ولما تقررت عظمة ذلك اليوم الذي تشخص فيه الأبصار، وكان أعظم يوم يظهر فيه الانتقام، بينه بقوله: {يوم تبدل} أي تبديلًا غريبًا عظيمًا {الأرض} أي هذا الجنس {غير الأرض} أي التي تعرفونها {والسماوات} بعد انتشار كواكبها وانفطارها وغير ذلك من شؤونها؛ والتبديل: تغيير الشيء أو صفته إلى بدل {وبرزوا} أي الظالمون الذين كانوا يقولون: إنهم لا يعرضون على الله للحساب؛ والبروز: ظهور الشخص مما كان ملتبسًا به {لله} أي الذي له صفات الكمال {الواحد} الذي لا شريك له {القهار} الذي لا يدافعه شيء عن مراده، فصاروا بذلك البروز بحيث لا يشكون أنه لا يخفى منهم خافية، وأما المؤمنون فلم يزالوا يعلمون ذلك: روى مسلم والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض} الآية قلت: يا رسول الله فأين يكون للناس يومئذ؟ قال: على الصراط.
ولما ذكر بروزهم له ذكر حالهم في ذلك البروز فقال: {وترى المجرمين} أي وتراهم، ولكنه أظهر لتعدد صفاتهم التي أوجبت لهم الخزي؛ والإجرام: قطع ما يجوز من العمل بفعل ما لا يجوز {يومئذ} أي إذ كانت هذه الأمور العظام {مقرنين} أي مجموعًا كل منهم إلى نظيره، أو مجموعة أيديهم إلى أعناقهم جمعًا فيه شدة وضيق {في الأصفاد} أي القيود، والمراد هنا الأغلال، أي السلاسل التي تجمع الأيدي فيها إلى الأعناق ويقرنون فيها مع أشكالهم؛ ثم بين لباسهم بقوله: {سرابيلهم} أي قمصهم السابغة {من قطران} وهو ما يهنأ به الإبل، ومن شأنه أنه سرع فيه اشتعال النار، وهو أسود اللون منتن الريح.
ولما كان هذا اللباس مع نتنه وفظاعته شديد الانفعال بالنار، بين أنه يسلطها عليهم فقال: {وتغشى} ولما كان الوجه أشرف ما في الحيوان، فإهانته إهانة عظيمة لصاحبه، ذكره وقدمه تعجيلًا لإفهام الإهانة فقال: {وجوههم النار} أي تعلوها باشتعالها، فعلم أنه يلزم من غشيانها لها اضطرامها فيما ضمخ بالقطران من باب الأولى؛ ثم بين علة هذه الأفعال في ذلك اليوم، فقال معبرًا بالجزاء والكسب الذي هو محط التكليف وظن النفع، لاقتضاء سياق القهر لهما: ب {ليجزي الله} أي الذي له الكمال كله {كل نفس} طائعة أو عاصية.
ولما عظم الأمر بإسناد الجزاء إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال، اقتضى ذلك أن يكون نفس الكسب هو الجزاء، لأن ذلك أبدع وأدق في الصنع وأبرع بأن يصور بما يحق من الصور المليحة عند إرادة الثواب، والقبيحة عند إرادة العقاب، فلذلك أسقط الباء- التي ستذكر في حم المؤمن وقال: {ما كسبت} والجزاء: مقابلة العمل بما يقتضيه من خير أو شر؛ والكسب: فعل ما يستجلب به نفع أو يستدفع به ضر، ومن جزاء المؤمن عقوبة من عاداه في الله.
ولما كان حساب كل نفس جديرًا بأن يستعظم، قال: {إن الله} أي الذي له الإحاطة المطلقة {سريع الحساب} أي لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى ولا شأن عن شأن.
ولما اشتملت هذه السورة على ما قرع سمعك من هذه المواعظ والأمثال والحكم التي أبكمت البلغاء، وأخرست الفصحاء، وبهرت العقول، ترجمها سبحانه بما يصلح عنوانًا لجميع القرآن فقال: {هذا} أي الكتاب الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور {بلاغ} أي كافٍ غاية الكفاية في الإيصال {للناس} ليصلوا به إلى الله بما يتحلون به من المزايا في سلوك صراطه القويم، فإن مادة بلغ بأي ترتيب كان- تدور على الوصول، وتارة تلزمها القوة وتارة الإعياء الناشىء عن الضعف:
بلغ المكان بلوغًا: وصل إليه؛ وبُلغ الرجل- كعني: جهد، والبليغ: الفصيح يبلغ بعبارته كنه ضميره، والبلاغ- كسحاب: الكفاية، لأنها توصل إلى القصد، وبالغ مبالغة- إذا اجتهد ولم يقصر، وتبلغت به العلة: اشتدت.
والغلباء: الحديقة المتكاثفة، ومن القبائل: العزيزة الممتنعة، والأغلب: الأسد.
ولغب: أعيا- لاجتهاده في البلوغ، واللغب: ما بين الثنايا من اللحم، واللغب- ككتف: الكلام الفاسد- يرجع إلى الإعياء، وكذا الضعيف الأحمق، والسهم الذي لم يحسن بريه كاللغاب- بالضم، والتغلب: طول الطرد.
والبغل من أشد الحيوان وأبلغها للقصد، وبغل تبغيلًا: بلّد وأعيا، والإبل: مشت بين الهملجة والعنق.
ولما كان متعلق البلاغ الذي قدرته بالوصول يتضمن البشارة، عطف عليه النذارة بانيًا للمفعول، لأن النافع مطلق النذارة، وكل أحد متأهل لأن يكون واعظًا به مقبولًا، لأن من سمعه فكأنما سمعه من الله لتميزه بإعجازه عن كل كلام، فقال: {ولينذروا} أي من أي منذر كان فيقوم عليهم الحجة {به} فيحذروا عقاب الله فيتخلوا عن الدنايا.
ولما أشار إلى جميع الفروع فعلًا وتركًا، مع إشارته إلى أصل التوحيد لأنه أول الوصول، صرح به على حدته لجلالته في قوله: {وليعلموا أنما هو} أي الإله {إله واحد} فيكون همهم واحدًا.
ولما تمت الإشارة إلى الدين أصلًا وفرعًا، نبه على المواعظ والأمثال بتذكر ما له من الآيات والمصنوعات، والبطش بمن خالفه من الأمم، وأشار إلى أن أدلة الوحدانية والحشر لا تحتاج إلى كبير تذكر، لأنها في غاية الوضوح ولاسيما بعد تنبيه الرسل، فأدغم تاء التفعل، فقال: {وليذكر} أي منهم {أولوا الألباب} أي الصافية، والعقول الوافية، فيفتحوا عيون بصائرهم فيعلموا أنه لا وصول لهم مع الغفلة فيلزموا المراقبة فلا يزالوا في رياض المقاربة.
ويعلموا- بما ركز في طبائعهم وجرى من عوائدهم- أن أقل حكامهم لا يرضى بأن يدع رعيته يتهارجون لا ينصف بينهم ولا يجزى أحدًا منهم بما كسب، فيكون ذلك منه انسلاخًا من رتبة الحكم التي هي خاصته، فكيف يدعون ذلك في أحكم الحاكمين، فقد تكفلت هذه الآية على وجازتها بجميع علم الشريعة أصولًا وفروعًا، وعلم الحقيقة نهايات وشروعًا، على سبيل الإجمال وقد انطبق آخر السورة على أولها، لأن هذا عين الخروج من الظلمات إلى النور بهذا الكتاب الحامل على كل صواب- والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وحسن المآب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)}.
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} [إبراهيم: 42] وقال في هذه الآية: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم يقم القيامة ولم ينتقم للمظلومين من الظالمين، لزم إما كونه غافلًا وإما كونه مخلفًا في الوعد، ولما تقرر في العقول السليمة أن كل ذلك محال كان القول بأنه لا يقيم القيامة باطلًا وقوله: {مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} يعني قوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] وقوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21].
فإن قيل: هلا قيل مخلف رسله وعده، ولم قدم المفعول الثاني على الأول؟
قلنا: ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلًا، إن الله لا يخلف الميعاد، ثم قال: {رُسُلَهُ} ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحدًا وليس من شأنه إخلاف المواعيد فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته، وقرئ: {مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} بجر الرسل ونصب الوعد، والتقدير: مخلف رسله وعده، وهذه القراءة في الضعف كمن قرأ {قتل أولادهم شركائهم} ثم قال: {إِنَّ الله عَزِيزًا} أي غالب لا يماكر ذو انتقام لأوليائه.
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)}.
اعلم أن الله تعالى لما قال: {عَزِيزٌ ذُو انتقام} بين وقت انتقامه فقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} وعظم من حال ذلك اليوم، لأنه لا أمر أعظم من العقول والنفوس من تغيير السموات والأرض وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
ذكر الزجاج في نصب يوم وجهين، إما على الظرف لانتقام أو على البدل من قوله: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب}.
المسألة الثانية:
اعلم أن التبديل يحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون الذات باقية وتتبدل صفتها بصفة أخرى. والثاني: أن تفنى الذات الأولى وتحدث ذات أخرى، والدليل على أن ذكر لفظ التبدل لإرادة التغير في الصفة جائز، أنه يقال بدلت الحلقة خاتمًا إذا أذبتها وسويتها خاتمًا فنقلتها من شكل إلى شكل، ومنه قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} [الفرقان: 70] ويقال: بدلت قميصي جبة أي نقلت العين من صفة إلى صفة أخرى، ويقال: تبدل زيد إذا تغيرت أحواله، وأما ذكر لفظ التبديل عند وقوع التبدل في الذوات فكقولك بدلت الدراهم دنانير، ومنه قوله: {بدلناهم جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] وقوله: {بدلناهم بِجَنَّتَيْهمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16] إذا عرفت أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذين المفهومين ففي الآية قولان:
القول الأول: أن المراد تبديل الصفة لا تبديل الذات.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي تلك الأرض إلا أنها تغيرت في صفاتها، فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى، فلا يرى فيها عوج ولا أمت.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العاكظي فلا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا» وقوله: {والسموات} أي تبدل السموات غير السموات، وهو كقوله عليه السلام: «لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده» والمعنى: ولا ذو عهد في عهده بكافر، وتبديل السموات بانتثار كواكبها وانفطارها، وتكوير شمسها، وخسوف قمرها، وكونها أبوابًا، وأنها تارة تكون كالمهل وتارة تكون كالدهان.
والقول الثاني: أن المراد تبديل الذات.
قال ابن مسعود: تبدل بأرض كالفضة البيضاء النقية لم يسفك عليها دم ولم تعمل عليها خطيئة، فهذا شرح هذين القولين، ومن الناس من رجح القول الأول قال لأن قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض} المراد هذه الأرض، والتبدل صفة مضافة إليها، وعند حصول الصفة لابد وأن يكون الموصوف موجودًا، فلما كان الموصوف بالتبدل هو هذه الأرض وجب كون هذه الأرض باقية عند حصول ذلك التبدل، ولا يمكن أن تكون هذه الأرض باقية مع صفاتها عند حصول ذلك التبدل، وإلا لامتنع حصول التبدل، فوجب أن يكون الباقي هو الذات.
فثبت أن هذه الآية تقتضي كون الذات باقية، والقائلون بهذا القول هم الذين يقولون: إن عند قيام القيامة لا يعدم الله الذوات والأجسام، وإنما يعدم صفاتها وأحوالها.
واعلم أنه لا يبعد أن يقال: المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم، ويجعل السموات الجنة، والدليل عليه قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ} [المطففين: 18] وقوله: {كَلاَّ إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سِجّينٍ} [المطففين: 7]، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} فنقول أما البروز لله فقد فسرناه في قوله تعالى: {وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا} وإنما ذكر الواحد القهار ههنا، لأن الملك إذا كان لمالك واحد غلاب لا يغالب قهار لا يقهر فلا مستغاث لأحد إلى غيره فكال الأمر في غاية الصعوبة، ونظيره قوله: {لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] ولما وصف نفسه سبحانه بكونه قهارًا بين عجزهم وذلتهم، فقال: {وَتَرَى المجرمين يَوْمَئِذٍ}.
واعلم أنه تعالى ذكر في صفات عجزهم وذلتهم أمورًا:
فالصفة الأولى: كونهم مقرنين في الأصفاد.
يقال: قرنت الشيء بالشيء إذا شددته به ووصلته.
والقرآن اسم للحبل الذي يشد به شيئان.
وجاء هاهنا على التكثير لكثرة أولئك القوم والأصفاد جمع صفد وهو القيد.
إذا عرفت هذا فنقول: في قوله: {مُّقرِّنِينَ} ثلاثة أوجه: أحدها: قال الكلبي: مقرنين كل كافر مع شيطان في غل، وقال عطاء: هو معنى قوله: {وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ} [التكوير: 70] أي قرنت فيقرن الله تعالى نفوس المؤمنين بالحور العين، ونفوس الكافرين بقرنائهم من الشياطين، وأقول حظ البحث العقلي منه أن الإنسان إذا فارق الدنيا، فإما أن يكون قد راض نفسه وهذبها ودعاها إلى معرفة الله تعالى وطاعته ومحبته، أو ما فعل ذلك، بل تركها متوغلة في اللذات الجسدانية مقبلة على الأحوال الوهمية والخيالية، فإن كان الأول فتلك النفس تفارق مع تلك الجهة بالحضرة الإلهية، والسعادة بالعناية الصمدانية، وإن كان الثاني فتلك النفس تفارق مع الأسف والحزن والبلاء الشديد، بسبب الميل إلى عالم الجسم، وهذا هو المراد بقوله: {وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ} وشيطان النفس الكافرة هي الملكات الباطلة، والحوادث الفاسدة، وهو المراد من قول عطاء: إن كل كافر مع شيطانه يكون مقرونًا في الأصفاد.
والقول الثاني: في تفسير قوله: {مُّقَرَّنِينَ في الأصفاد} هو قرن بعض الكفار ببعض، والمراد أن تلك النفوس الشقية والأرواح المكدرة الظلمانية، لكونها متجانسة متشاكلة ينضم بعضها إلى بعض، وتنادي ظلمة كل واحدة منها إلى الأخرى، فانحدار كل واحدة منها إلى الأخرى في تلك الظلمات، والخسارات هي المراد بقوله: {مُّقَرَّنِينَ في الأصفاد}.
والقول الثالث: قال زيد بن أرقم: قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال، وحظ العقل من ذلك أن الملكات الحاصلة في جوهر النفس إنما تحصل بتكرير الأفعال الصادرة من الجوارح والأعضاء، فإذا كانت تلك الملكات ظلمانية كدرة، صارت في المثال كأن أيديها وأرجلها قرنت وغلت في رقابها.
وأما قوله: {فِى الأصفاد} ففيه وجهان: أحدها: أن يكون ذلك متعلقًا بمقرنين، والمعنى: يقربون بالأصفاد.